الشيخ حسن أحمد الهادي
تمهيد: تمثّل الحوزة العلمية المرجعيّة التربويّة الأساسية، لناحية صياغة الرؤية التربوية، ووضع مرتكزات العملية التعليمية ومكوّناتها المنهجية فضلاً عن الأنظمة والبرامج المختلفة، فإن وجودها - ككيان علمي وتربوي - يؤدّي وظيفتي التربية والتعليم؛ الهادفة أساساً إلى تربية الإنسان وبلورة البنية المعرفية له يرتبط بأشرف وأسمى تكليف إلهي لنبي الإسلام محمد(ص) والمتعلّق بهداية الناس وتزكيتهم وتعليمهم, قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}([1]).
وهذا ما يؤكّد دور الحوزة في رفد الفكر والمجتمع الإسلاميين بمنظومة من المناهج والبرامج والرؤى، تحقّق هذه الغاية سيراً على هدي النبي(ص)، وتثري العملية التربوية والتعليمية, وتؤمَّن الدقة والموضوعية والواقعية في صياغة الأهداف؛ فضلاً عن سلامة تحقيقها.
ولهذا يجب أن تكون الحوزة في حالة نموّ وتطوّر دائمين، فالحركة والتطوّر هما قوام حيوية الأفكار والمبادئ، وبهما تضمن الكيانات الفكرية والعلمية حياتها وقدرتها على الإستمرار ومواصلة المسار، لأن الفكر الذي يتخلّف عن مواكبة الأزمنة والعصور، ويفتقد القدرة على تلبية متطلّبات الحياة والمجتمع، هو في الحقيقة، ليس فكراً حياً؛ لأنه يفتقر إلى الحركة، وما يتّسم بالجمود سيفضي بكل شيء إلى الموت حتماً.
و لا بدّ للكيان الحوزوي من أن يكون حيّاً فاعلاً في الحياة الاجتماعية في كل الأزمنة والعصور، ومساهماً في رفد المجتمع بكل عناصر القوّة والثبات، وأن يكون متجاوباً مع تطلّعات العصر، ومنجزاته، ومتطلّباته. خاصة وأننا عندما نتصفّح أوراق تاريخ الحوزة العلمية لقرون خلت سواء في حوزة جبل عاما، وفي حوزتي قم والري أو بغداد، وبعدها في حوزتي النجف أو قم ثانية، نجدها متألِّقة زاهية, وتنتابنا حالة من الإعتزاز والفخر حينما نلاحظ أعلام الطائفة مثل الصدوقين، والكليني، والشيخ المفيد والسيد المرتضى وشيخ الطائفة والعلاّمة الحلي... والمحقق وفخر المحقّقين وأضرابهم كثير ممن امتلئت بهم ساحات العلم والجهاد ومواجهة الظالمين، واستطاعوا أن يرتقوا بمدارسهم الفكرية وجهادهم إلى قمّة التطوّر وذروة الإنسجام مع الواقع الذي كانوا يعيشونه، في معادلة حافظوا فيها على الأصالة العلمية للحوزة وثوابتها، ورسموا للمجتمع معالم وأسس المقاومة العلمية والفكرية- التي كانوا قادتها- في مواجهة الظالمين والمستكبرين.
ومن الواضح أن الدين الإسلامي هو مشروع لتغيير حياة الأمّة إيجاباً في مختلف الأبعاد التي تهمّ الحياة الإنسانية وبكل متطلّباتها، بما ينسجم مع قيم هذا الدين، ومن المعلوم أن العلماء من المحدّثين والفقهاء والمجتهدين والمتكلّمين وغيرهم في عصر الغيبة، ومن بعدهم المراكز والحوزات العلمية قد أخذوا على عاتقهم وظيفة التصدّي في تبليغ الرسالة، وتفسير الدين بما هو منظومة متكاملة للحياة، وشرح النظريات الدينية المختلفة، وبالتالي فمن يريد فهم الدين ونظرياته لا بد أن يسأل المفسّر الرسمي له وهو الحوزات العلمية، فإن لم تتدخّل الحوزة بمؤسّساتها وعلمائها وأساتذتها للإجابة عن هذه التساؤلات ووضع الحلول المناسبة لها فهذا يعني إنها تترك الساحة لغيرها، فالآخرون سوف لن يسكتوا عن ذلك، لأن هذه القضايا الحية تتطلّب إجابات ومعالجات منهجية وعلمية موضوعية، فإن حركة الحياة لا تتوقّف بسكوتنا، بل سيقدّم الآخرون نظرياتهم ورؤاهم وقراءاتهم في هذه المجالات بإسم الدين، ولا يمكن بالطبع أن نحظّر عليهم ذلك!!
وكنتيجة منطقية لهذا الواقع تتراكم التحدّيات العلميّة و التربويّة والتعليمية, فضلاً عن الفكرية والفلسفية في الساحة العلمية, والتي بدأت تشق طريقها وتأخذ مكانها الطبيعي في منظومتنا التربوية والعلمية, لا بل أشعرت الكثيرين بضرورة التخلّي عن جوانب هامة من البنى والمرتكزات التربوية والتعليمية, لصالح الجديد أو المستورد. وما ذلك إلا لشيوع روح التبعية والتقليد, بعد ترك ساحة صناعة وصياغة النظريات وتكوين الرؤى لغيرنا, أو لغير المؤّهلين منا.
ولهذ كله لا مجال للتردّد في أن مسؤولية الحوزة العلمية عالمية وشاملة، وفي سُلَّم أولوياتها الإنسان والمجتمع، ومتابعة واقع العصر والإنسان المعاصر، ودراسة أفكاره، وشؤونه، ومعرفة تطلعاته؛ من أجل التخطيط للحركة الحوزوية التي عليها أن تنطلق من هذه الأرضية لو أرادت القيام بمهمتها وتبليغ رسالتها على أفضل وجه. فيتحتّم علينا أن نتفهّم واقع الأمة الإسلامية، بل نتعدّى ذلك إلى الإنسان في كل مكان؛ إذ لا مكان لإنسان يكون خارج نطاق مسؤولية الحوزة مهما كانت قناعاته المذهبية والدينية. "فالإحساس بالمسؤولية" تجاه الحوزة ذاتها والتاريخ والأمة الإسلامية حافزاً أساسياً بالنسبة إلى الحوزويين طلاباً وأساتذة ومسؤولين، وبدون تكوين هذا الإحساس الجماعي لا يمكن القيام بأي عمل جاد وأساسي على مستوى من النضج والدقة والمتانة، كما أنّ أي تطوّر وتطوير يصعب حصوله دون وجود المتابعة الجادّة، مثلها الثقة والاطمئنان بالنتائج وبالمستقبل، وحينئذ فمن الممكن أن نعتبر أنَّ هؤلاء الحوزويين قد تحوّلوا بالفعل إلى نقطة أمل للأمّه وأنهم من صانعي مستقبل هذا المجتمع وسائر المجتمعات الإسلامية"[2].
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الطرح يستند بشكل أساسي على رسالة الحوزة العلمية وأهدافها, المتمثّلة بفهم الإسلام (عقيدة, وشريعة, ومنهاجاً شاملاً يغطي شؤون الحياة كلها) من خلال فهم الكتاب والسنة بالاعتماد على الدراسات المنهجية المعمّقة المرتكزة على مبدأ الاجتهاد بمختلف أدواته, إضافة إلى وظيفة إيجاد المناخ العلمي الواعي, ونشر الشريعة وتبليغها، تمهيداً لبناء المجتمع الإنساني المتّزن الذي تسوده العدالة والرحمة والمودة والعزة والكرامة.
وينطلق في بعده التربوي من تثمير الفلسفة التربوية للحوزة العلمية، ففلسفة التربية تعني مجموع المبادئ، والمفاهيم، والقيم، والميول التي تشكّل معاً إطاراً موجّهاً لسلوك الفرد، أو الأسرة، أو المؤسسة، في العمل، أو التربية، أو الحياة[3]. وتعتبر فلسفة التربية القاعدة النظرية الأولى لاشتقاق مواصفات الإنسان المطلوب بالتربية المنهجية، ومن ثم بناء الأهداف العامّة والخاصة التربوية.
رؤية الإمام الخامنئي الاستشرافية لوظيفة الحوزة العلمية ومسؤولياتها:
لا بد من العمل الدؤوب والسعي الدائم لتكريس مبدأ التوافق على مستوى معيّن من التطوير والتحسين والتنمية والترشيد في الحوزة العلمية, ولاسيما ما يتعلّق بالجوانب المنهجية والتربوية والتعليمية, والوصول إلى قناعة تامّة ترتكز على مبدأ إعادة الدور الريادي للحوزة العلمية في ساحتي التربية والتعليم وبناء المجتمع, والتصدّي لمختلف ألوان الإشكاليات التي تواجه الفكر الديني, ومواكبة حركة التجديد والتغيير في المجالات كافة.
وتشكّل أطروحة الإمام الخامنئي في هذا المجال مفصلاً حاسماً في تاريخ الحوزة العلمية، وضرورة سيادة دورها الريادي في الساحة العلمية والتربوية العالمية، وقدرتها على أن تكون مركز تأسيس النظريات والعلوم، وتوجيه العملية التعليمية والتربوية باتجاه الأهداف الواقعية .
الأسس والمنطلقات:
1- أصالة الحوزة وعمقها: إنّ مبدأ تكميل الحوزة العلمية وتطويرها، لا هدمها من المبادئ المهمّة في العمل التطويري داخل الحوزة العلمية، حيث إنَّ الحوزة العلمية نشأت وقام صرحها العلمي والفكري والجهادي طوال قرون عديدة، من خلال جهود جبّارة لعدد كبير من العلماء والصلحاء والمصلحين، فلا يمكن بالانقطاع عن ذاك الماضي العريق الحافل بالتجارب والخبرات الثمينة في مجالات عدة، ومن ينادي بالانقطاع عن هذا التراث الغني فإنّه بعيد عن فهم الحوزة ورسالتها وأهدافها...،
وانطلاقاً من هذه الرؤية فإننا: "حينما نتحدّث عن البناء وتجديد مؤسسة الحوزة، لا ينبغي أن يتصوّر أحد أننا نقصد هدم جميع أركان الحوزة. ليس الأمر هكذا إطلاقاً، بل فلا بد من الاستفادة الكاملة من الطاقات والذخائر الثمينة لحوزة قم العلمية، وأن يصار إلى تنظيمها، وأن يمتنع عن تكرار الأعمال السابقة"[4]. حيث نجد أن العديد من الفضلاء يقومون بإعادة نشر ما قام به آخرون، من دون أدنى إثراء وإغناء للفكر والصور، وهذا ما يعيق التقدم والتطوير.
2ـ التخطيط :يعتبر التخطيط ركناً أساسياً لكل عمل منظّم ومدروس، ولذلك ورد التأكيد عليه في الروايات المأثورة عن المعصومين (ع)، روي عن الإمام علي (ع): "قدّر ثم اقطع، وفكّر ثم انطق، وتبيّن ثم اعمل"[5]. وهو في المصطلح الإداري عبارة عن: "عملية تفكير وتقدير منهجية واعية لاستشراف المستقبل، وتوقّع أحداثه، بغرض التحكّم فيها، وتوجيهها تحقيقاً للأهداف المرسومة". ولعملية التخطيط هذه مجموعة من الأسس أهمها:
أ- تحديد الأهداف: يعتبر تحديد الأهداف جزءاً أساسياً من عملية التخطيط، ويشير الإمام الخامنئي إلى ضرورة وجود جهاز مخطّط للحوزة العلمية قائلاً: "الموضوع الأول هو موضوع البرمجة والتخطيط في الحوزات..، فالحوزة العلمية بصفتها مكوّنة من مجموعة كبيرة من العلماء العظام والباحثين والكبار في العلوم المختلفة من فقه وتفسير وأصول وكلام وفلسفة وسواها من العلوم الحوزوية، فإنه لابد لها من جهاز للتخطيط يمارس عمله بنشاط مستمر"[6].
ويؤكّد على ضرورة تحديد الأهداف في كل عمل تخطيطي: "إنّ إنشاء المنظّمات دون رسم أهداف واضحة وتحديدها بدقة، أم فقدان خطة دقيقة تكفل الوصول إليها، سوف يؤدّي إلى إفشال المؤسّسة في عملية الإنتاج وزوالها أخيراً، وفي حال عدم الزوال نهائياً فإنّها ستظل شكلية"[7].
ب- استمرارية التخطيط: إنّنا نعيش في بيئة متغيّرة ومتحركة باستمرار، لذلك لا يمكن أن نعتمد خطة وبرنامجاً واحداً لكل الظروف والأحوال، بل ينبغي الاستعداد التام للتخطيط في كل الأوقات نظراً لما يطرأ من مستجدّات، ولما يحصل من انحرافات في الأداء وتتطلّب تعديلاً في الخطط الموضوعية، والاستزادة المستمرّة من التطوّر الحاصل في مجال العملية التعليمية: ".. لابد من وضع برنامج يتصف أولاً: بالدقة والإتقان، وثانياً: أن يطاله التطوير باستمرار.. بمعنى أنّه إذا تمّ وضع برنامج في هذا العام فلابد أن يتم مراجعته في العام المقبل، لا أن يصار إلى هدمه وإلغائه بل ليجبر ما فيه من نقص. كما أنه لابد من وجود جهاز للرقابة على وضع البرامج، مهمّته المراقبة الدقيقة والمستمرة الميدانية للبرامج، لمعرفة مواضع الخلل، ومدى تناسبه مع قدرات الطلاب لجهة التقّبل والاستيعاب.."[8].
ج ـ ملائمة التخطيط للبيئة المحيطة: إنّ وضع البرامج من أجل الحوزة كما في غيرها لا يمكن أن يكون منقطعاً عن بيئتها، حيث إنّ البيئة وتداعياتها تلعب دوراً كبيراً في تأييد أو تحجيم الفكر خصوصاً إذا كان تطويرياً، من هنا، وقبل أن يصار إلى طرح برنامج متطوّر ينبغي العمل من أجل إيجاد أجواء ملائمة للبرنامج حتى يمكن طرحه وإجراءه في تلك البيئة: "ينبغي العمل من أجل إيجاد أجواء منفتحة لتنمية المواهب الفكرية. ولابد من العمل في هذا المجال في الحوزة لأنّه يؤدّي إلى إحيائها.."[9].
دـ أهداف الدين الكبير في عملية التخطيط: هذه الخصوصية تتطلّب من الحوزويين أن ينطلقوا في تقديرهم للأمر وفي تخطيطهم للعمل التعليمي والتربوي من هذا الاعتبار وأنّ: "الطرح الإسلامي مبتنٍ على أساس أن الدين هو رسالة الحياة، والطريق الوحيد للخلاص من المشاكل والمصاعب التي حلّت بالعالم، والتي ستحلُّ فيما بعد، وهو القادر على إعطاء الحلول الناجعة للمعضلات الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات البشرية"[10].
انطلاقاً من هذا الاعتبار ينبغي الحذر من الوقوع في فخ العلمانية في الحوزات العلمية و"يجب الاهتمام بقضية الوحدة بين الدين والسياسة، في التفقّه وفي العمل. وليعلم الأخوة أن فكرة فصل الدين عن السياسة هي آفة لم تستأصل بشكل كامل، ولا تزال إلى الآن موجودة في الحوزات مع الأسف... يجب تأصيل وترسيخ فكرة وحدة الدين والسياسة في الحوزة بحيث تكون الفقاهة، والاستنباط الفقهي على أساس إدارة النظام والمجتمع لا مجرد الإدارة الفردية"[11].
هـ- الإستفادة من الخبرات العلمية والمنهجية: إن الحوزة العليمة مؤسسة تعليمية وتربوية مثلها مثل باقي المؤسسات المماثلة لا يمكن أن تكون بعيدة عن التطورات العلمية والمنهجية والمهاراتية في العالم. بل ينبغي لها أن تستفيد من تلك الخبرات بشكل لائق، وعليه" فلابدّ للمتوّلين لتنظيم شؤون الحوزة أن يهيّئوا الأرضية اللازمة لجعل الطلاب على صلة وثيقة بمجريات الأمور في العالم، ولا ينبغي أن ينزوي الطلبة بعيداً عن التطوّرات، والوقائع، والمواضيع العلمية، والنظريات والاكتشافات الجديدة في مجال الطبيعة والعلوم على الأخص، حيث إنّ معرفة الموضوعات ركن مهم في إصدار الحكم والفتوى"[12].
"فلابد لنا من النظر إلى العالم حولنا وما تحتاج إليه البشرية، ولابد لنا منّ الوقوف على ما يستجد من أفكار ونظريات وآراء وقضايا في كل يوم وآخر، بل بين الفينة والأخرى، مما يتعلّق بشؤون الحوزات العلمية، ليس ما يتعلّق بالحوزات العلمية بشكل مباشر، بل ما يتعلّق بالأمور ذات الصلة المباشرة بالحوزات العلمية بشكل خاص"[13].
وـ مراعاة التحديد الكمي والرقمي للحاجات: ينبغي لكل المعنيين في شؤون الحوزة العلمية أن يتعاطوا مع مسائل الحوزة بواقعية وأرقام ولا يستندوا إلى تصورات ذهنية وخيالية بعيدة عن الواقع ومتطلباته.
إن التحديدات الكميّة والرقمية المعتمدة اليوم في التخطيط والبرمجة ينبغي أن تأخذ طريقها إلى الحوزة، كي يصار إلى وضع برامج مدروسة ودقيقة، وقد أشار الإمام الخامنئي إلى هذا بقوله: "من جملة الأمور التي تحتاج إليها الحوزة العلمية هو نظام التعليم والتعلّم، بحيث لا تضيع الأوقات، وفي عصرنا لا يمكن أن نجيز أن تهدر ساعة واحدة من عمر شاب مؤمن، قد أعدّ نفسه لبذل الجهد والعمل في سبيل الدين"[14]. وعليه فلا يمكن التهاون بأمر عملية التعليم والتعلّم فينبغي: "أن يملأ هذا الخلل (عدم الانتظام الدقيق) من خلال وضع برامج تتّصف أولاً: بالدقّة والإتقان، وثانياً: بالتطوّر باستمرار. "[15].
ولا يكفي أن نراجع البرامج التي يتم وضعها باستمرار بل ينبغي أن تتم تلك المراجعة من خلال تقدير دقيق للحاجات الواقعية والفعلية للمجتمع: "ينبغي أن نخطّط للمستقبل، فإذا قدّرنا أن الدولة الإسلامية تحتاج إلى عدد معيّن من القضاة في الثلاثين سنة القادمة، فعلى الحوزة أن تنهض لتأمين هذا العدد، والتخطيط لتربية عدد من المجتهدين للقيام بهذه الوظيفة"[16].
3ـ ضرورة سيادة النظام:
كانت الحوزة العلمية تدار عبر قرون طويلة من عمرها من خلال نظام بسيط، ومن دون وجود جهاز وإدارة، فضلاً عن مستلزمات العملية التعليمية الأخرى، إلى درجة أنّه شاع في الحوزة مقولة: "نظامنا هو في عدم انتظامنا". وقد تصدّى الإمام الخامنئي لهذه الذهنية قائلاً: "النظام، هو مقابل الفوضى، ولا يمكن الجمع بين الأمرين، كما أنّ عدم انتظامنا في عدم إتباعنا للنظام، وتأخّرنا في عدم سيادة النظام بيننا"[17].
"وإن عدم النظام في الحوزات العلمية يعتبر نقصاً كبيراً فيها، وإن انعدام النظام كان يشكّل أساساً للعمل الحوزوي، وهذا ليس أنه لم يكن يحكم أي نظام، بل كان هناك نوع من النظام، بمعنى أن المدرِّس كان يحضر للتدريس ساعة معيَّنة، وكان الطلاب يلتزمون أيضاً بساعة الحضور، أو أنَّهم كانوا يلتزمون بمراجعة ومطالعة دروسهم بعد صلاة المغرب والعشاء ـ مثلاً ـ إذ كان هناك انتظام بمستوى معيّن، كما أنه كان في الحوزة أناس منتظمون يستفيدون بدقة من أوقاتهم. ولكنني لا أقصد من النظام هذه الأمور. ما أقصده تحديداً، هو وجود برنامج دراسي منظّم ومخطّط، ونحن كنا نعاني من هذا النقص في الحوزات"[18]. وهكذا يدعو سماحته إلى سيادة النظام التعليمي المدرسي على الحوزات العلمية وعدم الرضا بما يسود من الاستمرار على بركة الماضين، حيث إنّ العلماء السابقين خُلقوا لزمانهم وأجادوا في رفد عصورهم بما كانوا يملكون من مواهب متعدّدة في مجالات شتّى ولا يمكن لنا القول بأن الخلف لم يترك للسلف شيئاً. ومن هنا يؤكد سماحته قائلاً: "الشرط الأساس في تغيير سليم وتطوير طبيعي في الحوزة، هو التقيّد بالنظام والانضباط من خلال إنشاء مركز مخطّط ونافذ ومطاع في قراراته"[19].
4ـ استقلال الحوزة العلمية:
إن استقلال الحوزة العلمية في تنظيمها الخاص، والاحتفاظ بخصوصياتها جزء مهمّ من السابقة التاريخية للحوزات العلمية الشيعية التي طالما أصرّ علمائها ومراجعها على أهميتها بالنسبة إلى الحوزات العلمية. يقول "الإمام الخامنئي": "إن الحوزة العلمية مؤسسة علمية وروحية، ولا ينبغي أن تتحوّل إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة، وإن كانت الدولة هي الجمهورية الإسلامية"[20].
5ـ تقدير الحاجات الواقعية (معرفة المشكل):
لا يمكن أن نصل إلى حلول ملائمة لمشاكل الحوزة إلا بعد تحديد دقيق للمشكلات والمسائل التي تعاني منها الحوزة العلمية، ومن ثم السعي نحو إعطاء الحلول المناسبة لتلك المشاكل، فمن لا يؤمن بوجود المشكلة لا يمكن أن يتحرّك للبحث عن الحل، يقول الإمام الخامنئي: "لا بدّ من الإذعان بوجود المشكل، فلا يأتي أحد ويقول، ما هذا الكلام؟، أليس "الشيخ الأنصاري" و"الميرزا النائيني" و"صاحب الكفاية" "والإمام الخميني" وباقي العظام تخرَّجوا من هذه الحوزات، وأنتم تطرحون أموراً جديدة، فإن لم يذعن هؤلاء بالمشكل فلا يأتي الحل، فيجب الاعتراف بأنَّ هذا المريض مريض حقاً، وانّ هذا الكائن الحيّ يعاني من الألم، فإن لم يدركوا الألم ولا يعالجوا فلن يشفى من مرضه"[21].
6 ـ تقديم الأولويات والحاجات الملحّة :
إن الحوزة العلمية نتيجة تراكم المشكلات عبر الزمن لا تستطيع أن تواجه تلك المشكلات في فترة زمنية واحدة كما لا تستطيع أن تقدّم حلولاً ومعالجاتً ناجعة في آن واحد، من هنا، لابد من العمل المرحلي الذي يؤخذ فيه بالحسبان التدرّج في المعالجة. ثم إنّ عملية التدرّج لابد أن تستند إلى قاعدة عمل واضحة تقدّم فيها الأولويات الفورية والحاجات الملحة على غيرها. "إنّ الإدارة في الحوزة العلمية تواجه مسائل ومشاكل عديدة، كما أنها سوف تواجه مستجدّات متوقّعة وغير متوقّعة، وينبغي لها أن تحدّد المهمّة الأولى لها تحديد الأولويات والحاجات الملحّة"[22].
7ـ العمل الفريقي (الجماعي):
من المشاكل التي تعاني منها الحوزات العلمية هي سيادة العمل الفردي وعدم التواصل والتكامل بين الأفكار والتوجّهات والاجتهادات المختلفة، وهذا ما يؤدّي إلى عدم الاستفادة من الخبرات الموجودة لدى الآخرين. من هنا، يبدو أنّ الحلّ يكمن في السعي لإشاعة ثقافة العمل الفريقي (الجماعي) في الحوزات لكي تتم الاستفادة من أكبر عدد ممكن من الطاقات العلمية والمهاراتية لإنجاز مشروع عمل معيّن، سواء كان إنجاز دراسة أم تدريس أم أي عمل آخر يتطلّب تكافؤ الأفكار والجهود المختلفة، لأنّ العمل الجماعي (الفريقي) يتطلّب تكافؤاً للجهود كما يتطلّب آليات ملائمة للعمل، إنه عمل جديد في عصرنا..."[23].
المعالم العامة للعملية التعليمية والتربوية المرجوّة: نستعرض فيما يلي بعض جوانب فكر الإمام الخامنئي في تفاصيل العملية التربوية والتعليمية في الحوزة، وذلك ضمن المحاور التالية:
المحور الأول: البرنامج الدراسي:
إنَّ الأهداف بأقسامها البعيدة والمتوسطة والقريبة هي التي ينبغي أن تتحكّم في وضع البرامج الدراسية، فإن كانت الأهداف البعيدة لمؤسسة تعليمية عريقة مثل الحوزة العلمية عبارة عن فهم الدين (أهدافاً، وأحكاماً، ومفاهيماً) وتنمية وإثراء الوعي الديني، والمساهمة الجادة في مجال بناء الحضارة الإسلامية، فإن الأهداف المتوسط هي تربية المدرسين، والمحقّقين والباحثين في مجال الدراسات الإسلامية، إضافة إلى المبلّغين القادرين على حمل مسؤولية التبليغ والإرشاد الديني. كما أنّ الأهداف القريبة تتمثّل في إنجاز وتطبيق مجموعة من المقرّرات الدراسية والتربوية التي تحمل في طياتها بلورة الأهداف البعيدة والمتوسطة في أمد زماني محدّد وضمن آلية معيّنة.
ثم إنّ "الاجتهاد" الذي يمثّل المستوى العالي والتخصّصي لتجسيد الفهم الديني ليس هو الهدف الوحيد للحوزة العلمية، باعتبار أنّ العمل التعليمي والفكري لا ينحصر ببلوغ هذه المرحلة، وذلك لأسباب عدة بعضها راجع إلى القدرات الشخصية للطلاّب، والبعض الأخر راجع إلى الحاجات الفعلية والميدانية للعالم الديني بمستوى أقل من الاجتهاد، كما أنّ العمل الاجتهادي لا ينحصر بالفقه بل هناك مجالات أخرى في دائرة العلوم الإسلامية تحتاج إلى الاجتهاد والتحقيق والتأصيل، ولم تأخذ حقها من البحث والتحقيق وعليه فـ "نحن بحاجة إلى حوزويين في كافة المستويات وبقدرات وتخصّصات متعدّدة، لدينا قابليات وقدرات مختلفة ومتعدّدة، وعلينا بالدرجة الأولى أن نقوم بدراسة هذه القابليات، وعلى ضوء ذلك تتحدّد الدروس وتجزّأ المراحل والدورات... إن الحوزة العلمية يراد لها أن تكون كالمعمل توفّر للمجتمع متطلّباته، ومن خلال العمل الدؤوب والسعي المتواصل، تعمل وتزوّد المجتمع بمنتوجاتها التي هي عبارة عن مجموعات من المحقّقين والمبلّغين والمدرّسين والمؤلّفين وغيرهم من المتخصّصين"[24].
يقول الإمام الخامنيئي: "الأمر الأساس المطروح دائماً بالنسبة لنا، هو: ما هي الوجهة العلمية التي ينبغي للطلاّب والعلماء أن يتخذوها في تحصيلهم العلمي؟ وهذا الأمر مطروح منذ قديم الأيام ولسنا نحن أول من طرحه في ظلّ الجمهورية الإسلامية. بل هو تساؤل قديم، هل يكتفي الطالب بدراسة الفقه والأصول، أم لابد من وجود شيء إلى جانبها؟"[25].
المحور الثاني: المجالات الدراسيّة في العلوم الإسلامية:
تشمل اليوم "الدراسات الإسلامية" مجالاً واسعاً من المعارف والعلوم على المستوى الكمّي والنوعي، من الدراسات التي تتناول النصوص الدينية الأساسية أي الكتاب والسنة والمعارف المرتبطة بهما، أي علوم القرآن والتفسير وغيرها وعلوم الحديث والدراسات الكلامية والفلسفية، والفقه والأصول وغيرها. ومع أن الإمام الخامنئي وفي مناسبات عدة قد فصّل الكلام في وجه الحاجة إليها، وبيان أهمية هذه العلوم في المجتمعات الإسلامية، وارتباطها ببقية العلوم، فإننا سنقتصر - في هذه المقالة- على نظرة الإمام الخامنئي في: العلوم القرآنية، علم الحديث ، علم الفقه.
وفيما يلي نعرض لهذه العلوم والحث على الاهتمام بها تحقيقاً وبحثاً واستثماراً في الحوزة العلمية:
1 ـ الدراسات القرآنية: إنّ الحوزة العلمية، ونتيجة ظروف وملابسات ولسيادة توجّه خاص ابتعدت تاريخياً عن الاهتمام الكبير بالقرآن والدراسات القرآنية، يقول الإمام الخامنئي: "إنّ الانزواء عن القرآن الذي حصل في الحوزات العلمية وعدم استئناسنا به أدّى إلى إيجاد مشكلات كثيرة في الحاضر والمستقبل وكذلك فإنّ البعد عن القرآن يؤدّي إلى وقوعنا في قصر النظر"[26].
وأكثر ما يدعو إلى الاستغراب أن طالب العلوم الدينية من الممكن أن يصبح عالماً ومجتهداً في مجال الإسلام والفكر والفقه بمعزل عن القرآن الكريم "كتاب الوحي، يقول الإمام الخامنئي ": "مما يؤسف له أن بإمكاننا بدأ الدراسة ومواصلتها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرَّة واحدة.. لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن، وقد ترد في الفقه بعض الآيات القرآنية ولكن لا تدرس، ولا تبحث بشكل مستفيض كما يجري في الروايات"[27].
إنّ الأمر لم يقتصر في الحوزة العلمية على هذا الحد، بل تجاوز ذلك، وأصبح الاهتمام بمجالات الدراسة القرآنية مدعاة للاستهزاء – في فترة زمنية من تاريخ الحوزة العلمية - عند بعض دعاة العلم، القائلين بأن العلم كل العلم ينحصر بدائرة الأبحاث الأصولية والفقهية، وهذا ما دعا إلى توجيه سهام التجريح إلى المنشغلين بالقرآن والعلوم القرآنية، واصفين هذه العلوم بالمسائل الجانبية التي يمكن تحصليها لكل قادر على ضبط بعض مصطلحات الأصولية وشذرات من هنا وهناك: "إذا ما أراد شخص كسب أي مقام علمي في الحوزة العلمية كان عليه أن لا يفسّر القرآن حتى لا يتّهم بالجهل... حيث كان ينظر على العالم المفسّر الذي يستفيد الناس من تفسيره أنّه جاهل ولا وزن له علمياً لذا يضطر إلى ترك درسه... ألا تعتبرون ذلك كارثة؟!"[28].
من هنا، فإنَّ الحلَّ يكمن في إعادة الأمور إلى مجاريها الصحيحة، وبناء العلوم الإسلامية على محورية "الكتاب والسنّة" لا أن تتحوّل المعارف المؤسّسة على هامش الكتاب والسنة إلى معارف محورية، وتتحوّل دراسة الكتاب والسنة إلى دراسات فرعية، هذا نقضٌ للغرض، إنّ الأصول، والفقاهة، والمنطق، وعلوم العربية، وغيرها نحتاج إليها من أجل فهم الكتاب والسنّة لا العكس: "فيجب أن لا نغفل عن القرآن، وعن علوم القرآن، وعن فهم القرآن، والأنس به، ويجب أن يكون القرآن جزءاً من دروسنا في الحوزات العلمية، وعلى طلابنا حفظ القرآن أو جزء منه على الأقل"[29].
2 ـ علوم الحديث : تدور العلوم الإسلامية حول محور "الكتاب والسنّة"، حيث يعتبران المنطق والأساس لهذه العلوم، والأهم من ذلك أنّ باقي العلوم الإسلامية نشأت من أجل تفعيل البحث حول الكتاب والسنّة، فعلمي الأصول والفقه مثلاً، تم تأسيسهما بهدف قراءة أفضل (أقل خطأً وأكثر صواباً) للكتاب والسنة، وما يحصل في الحوزات العلمية، هو أنّ العلوم المقدمية تأخذ حيّزاً وموقعاً أهم من العلوم الأساسية، ويتم التعاطي معها كعلوم مستقلة ومحورية، فإن النظرة الشمولية تقتضي أن يتمّ التركيز على المعارف والعلوم التي تخدم فهم الكتاب والسنّة بشكل أفضل. ومن هذه العلوم التي ينبغي أن يتمّ تفعيلها بشكل موضوعي ودقيق، هي العلوم المرتبطة بدراسة الحديث بشكل مباشر، أو ما أصطلح عليها بـ "علوم الحديث"، وتشتمل بدورها على علمي الرجال والدراية وفقه الحديث.
وينبغي تجسير العلاقة الحميمة والعضوية بين علمي الدراية والرجال، وفقه الحديث. كما أنّه ينبغي أن تسبق ذلك كلّه دراسة موضوعية ومترابطة للحديث كبناء متكامل يجسّد الإسلام بوصفه كلاً واحداً، ومنظومةً متكاملةً ومترابطةً.
وما ينبغي وعيه من قبل الدارسين للحديث، هو أنّ النظريات المعتمدة في الجرح والتعديل، وتقييم الروايات ليست نظريات نهائية ناجزة، بل هي قابلة للتعديل والتصحيح. ولا سيّما على ضوء العديد من المعارف والدراسات المطروحة اليوم على صعيد معالجة النصوص، والتي تساعد الباحث في التأكّد من صحة أو عدم صحة الصدور: "إن الحديث لم يكن مطروحاً في مناهجنا، إلا بعد الدخول في مباحث الفقه الاستدلالي حيث يتمّ طرح مجموعة من الأحاديث الفقهيه.."[30]. من دون معالجة الكثير من الأمور المتصلة بالحديث والتي تلقي بظلالها على مجمل الأبحاث الفقهية وغيرها.
3 ـ محورية الفقه وأصوله في الدراسة الحوزوية:
يمثّل "علم الفقه" المحور الأساس للدراسات الحوزوية، وتمَّ التركيز عليه تاريخياً من جهة الكم والنوع والعمق، بحيث أصبح الدرس الحوزوي يساوي الدرس الفقهي، وتحوّل الفقه إلى الدرس الأساس في الحوزة: "إنّ الفقه الذي هو بمعنى استنباط الأحكام الفرعية من الأدلة التفصيلية و أساس الحوزات العلمية"[31]. ونتيجة ذلك تحولت "الفقاهة" أي "طريقة ردّ الفروع إلى الأصول والاستنباط من الأصول ومن الأسس التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل.."[32] إلى الهدف الأسمى للحوزوي.
ولقد كان علماؤنا الأعلام يؤمنون بأنّ القدرة على استنباط الأحكام الشرعية الفرعية تعطي القدرة على ضبط باقي العلوم الإسلامية أيضاً؛ وذلك نظراً إلى وجود "علم أصول الفقه" في جنب الفقه والذي يعتبر "عصب العلوم الإسلامية" أو "منطق الفقه"[33] كما هو الحال بالنسبة إلى باقي العلوم الإسلامية. فالأصول إذن "منهج البحث" عند الفقيه أو هو منطق مسائله أو بمعنى أوسع "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية"[34]. ولهذا ينبغي مراعاة عدّة أمور في هذا العلم هي:
أ- الرؤية الشمولية لدراسة الفقه: تشكّل المكتبة الفقهية تراثاً غنياً وثميناً بالنسبة إلى المسلمين كافة والحوزات العلمية خاصة، فالجهود التي بذلها علماء المسلمين ولاسيَّما الإمامية في مجال الأحكام وقواعدها ومبادئها وطرق استخراجها واستنباطها من المصادر الأساسية والفرعية لا تقدّر بثمن، وكانت المكتبة الفقهية يغلب عليها طابع التحشية والتعليقة وإضافة الهوامش واستدراك موارد وما إلى ذلك، وينقصها التعمّق المباشر في المسائل الفقهية، وهذه حاجة ماسّة للباحثين في هذه المجالات وينبغي على هذا الأساس "... توسيع قاعدة التعمّق بالفقه، والتعمّق لا يعني تناول الحواشي والهوامش والزوايا والتعليقات الزائدة، بل هو معالجة المسائل وضعها موضع التفحّص والتحقيق باستعمال الطرق والأساليب الجديدة حتى يتحقق التعمّق"[35].
ب- وجوب التعمّق في البحث الفقهي:إنّ التركيز على عنصري الزمان والمكان من القضايا ذات الأهمية في هذا المجال، بينما نلاحظ أن الواقع الموجود مختلف تماماً، فإنَّ المسائل التي تطرح اليوم والمشاكل التي يواجهها الإنسان ويحتاج إلى معرفة الحكم والرأي الشرعيين فيها تختلف نسبياً عن المشاكل والمسائل التي كانت مطروحة في الأزمنة السابقة، كما أن تجارب وخبرات واجتهادات السابقين من العلماء والمجتهدين ينبغي أن تسخّر لأجل تعميق الفقه وتطويره: "فإن الفقه في زماننا يجب أن يكون أعمق من الفقه في زمن الشيخ [الأنصاري] وتلامذته الذين كانوا مشايخ المرحلة السابقة، لا يجوز أن نحصر اهتمامنا في المسائل السطحية، بل علينا أن نعطي الفقه عمقاً، وهذا من أهم أبعاد تطوّر الفقه"[36].
ج- المحافظة على التوسًع الموضوعي للأبحاث الفقهية: لقد توسّع الفقه في بعض الأبعاد وأهملت الأبعاد الأخرى، فمثلاً لم يأخذ الشأن العام والفقه السياسي والاجتماعي حقه من البحث والتعميق والاجتهاد كما أخذت سائر أبواب الفقه مثل العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها؛ ولذلك يجد الباحث في فقه الشأن العام والمعاملات، والأحوال الشخصية وغيرها من فقه الشأن العام صعوبةً كبيرة؛ لأنّ موضوعاتها مبعثرة في ثنايا علوم مختلفة كالكلام والتاريخ، والسيرة، والفقه وأصوله، والحديث وشروحه، والتفسير وما إلى ذلك من علوم، فضلاً عن أن الباحث لا يجد ضالته في أبواب معيّنة من تلك العلوم، بل يجدها مبعثرة في ثنايا ذلك العلم كله، ففي الفقه مثلاً، نجد البحث حول الحكم والإدارة في أبواب عدةّ مثل: الوصية، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء، والبيع، والحسبة وغيرها، وعليه، "يجب أن لا نكتفي ببعض أبواب الفقه التي لها أهمية فردية وليس لها أهمية اجتماعية. مثلاً تلاحظون وفرة في البحث عن الطهارة، لا تلاحظ في باب الجهاد، أو الفقه السياسي والمسائل الاقتصادية في الإسلام. ولو أجريتم مقارنة، لوجدتم أن ما كتب في باب الطهارة أكثر بكثير مما كتب في المسائل الأخرى، وحتّى أن كتب بعض العلماء لا بحث عن الجهاد فيها[37]".
د- تحديد أهداف الفقه ومهمته: إنَّ الاتجاه العام في الدراسة الفقهية وتحديد الأهداف مسألة في غاية الأهمية، فإذا بنينا على أن مهمّة الفقه هي بيان المسائل الفردية المبتلى بها، فإننا نكون بذلك قد رسمنا الاتجاه الذي ينبغي أن نسلكه في العلم الاجتهادي والفقهي. وأما لو اعتبرنا أنّ الفقه لا تنحصر مهمته بذلك، فسوف نسير في اتجاه مختلف عما سبق، لأنّنا نعتبر أنَّ الفقه يتولّى بيان الأحكام الاجتماعيّة، ونظم الحياة إضافة إلى القضايا الفردية. فالسؤال الأساسي هو ما هي مهمّة الفقه؟ ولهذا "يجب أن نستنبط نظامنا الاقتصادي من الإسلام، يجب أن نستنبط مسائلنا العسكرية من الإسلام، وكذلك الأحكام المتعلِّقة بسياستنا الخارجية والروابط الأخلاقية..."[38]. هذا التوجه يفرض علينا " إعادة النظر فقهياً في كثير من الأحكام الشرعية الفردية، ولا يجوز التساهل في ذلك؛ فإنّنا نطرح الدين بوصفه نظاماً للدولة، وإطاراً للحكومة، وطوال العصور الماضية لم ننظر إلى الفقه من هذا المنظار"[39].
و"هل هناك فقيه يجرؤ على القول: "إنّه قد استنبط هذه المسائل [مسائل الحكم والدولة]؟ وأنّها كلها جاهزة للتطبيق والتنفيذ؟ طبعاً، الإجابة سلبية، ولم يدّع أحد ذلك لا في الحاضر، ولا في الماضي، بل لا يجرؤ أحد على دعوى كهذه"[40]. إذاً، فهذه الدعوة مبنيّة على نظرة جديدة، ومعطيات مختلفة، وظروف مؤاتية: "وبناءً على ذلك يجب علينا أن نستخرج هذه المسائل من الفقه، وهذا يعني فكراً جديداً أو مستحدثاً"[41].
هـ- كيف يمكن لنا أن نقوم بتأسيس فقه يأخذ بعين الاعتبار تلك المجالات والاهتمامات؟
إنّ الخطوة الأساسية في هذا المضمار هو الانطلاق من أن "الإسلام كل واحد" بمعنى أن استنباط حكم فرعيّ من أحكام الإسلام، يتّصل اتصالاً عضوياً بسائر المجالات الإسلامية كالعقيدة، والأخلاق، ونظم الشريعة في مجال السياسة والتربية والاقتصاد، والمجتمع، والأسرة وغيرها.
ثم بعد ذلك، فإنّنا نملك "تراثاً غنياً" في مجال الفقه وأصوله، وهذا التراث يحتاج إلى البلورة والتهذيب والتكميل. ونعني بـ "تكميل الفقه" ملأ الفراغات التشريعية في مجالات مختلفة؛ حيث إنّ الحاجات والموضوعات وظروف البيئة والواقع المرتبطة بهما في تغيّر دائم وهذا ما يتطلّب اجتهاداً يتلاءم مع هذه العوامل كلِّها، "فهناك بعض الموضوعات التي بيّنت أحكامها في السابق، قد طرأ عليها من التغيير والتحوّل ما جعل من المتعذّر تطبيق نفس الأحكام السابقة عليها بسهولة في الوقت الحاضر، ففي مثل هذه الموارد، لابد لفقهاء العصر وبالاعتماد على دقّة النظر والإحاطة العلمية، والالتزام بأسلوب الفقاهة من جهة، والحرية في التفكير والشجاعة العلمية من جهة أخرى، من اكتشاف مفاهيم فقهية جديدة، وتقديم أحكام جديدة مستندة إلى الكتاب والسنّة، وهذا هو معنى تكميل الفقه"[42].
و- بلورة الفقه واستثماره: وأما المقصود ببلورة و"استثمار" الفقه، فهو أن نستفيد من الفقه قواعداً وأصولاً ومبادئً لاستنباط الأحكام الشرعية في مجالات عديدة، لم تكن من موضوعات الفقه التقليدي في الحوزات العلمية أي الأمور المتّصلة بالشأن العام، حيث إنّه: "لابد من الإجابة عن الأسئلة والإشكاليات المطروحة حول مظاهر الحياة المتجدّدة يوماً بعد يوم، وتوضيح أحكامها بشكل مقنع ومدلِّل، كما أنه يمكن الاستفادة من الفقه المعاصر ـ بما يتمتع به من الدقة والقوة في الاستدلال ـ في تكميل علم القانون وتطويره وفتح منافذ جديدة أمام باحثي مراكز القانون في العالم"[43].
وفي الختام من المناسب الإشارة إلى جنبة التخصّص في العلوم الإسلامية كحاجة ماسة في هذا العصر، فإنّ ما يسود في الحوزات العلمية هو التوجّه الموسوعي في حقول العلوم الإسلامية. بمعنى أنّ طالب العلوم الدينية يسعى لكسب أكبر قدر ممكن من المعلومات في مجالات شتى وهذا ما يؤدّي في الغالب إلى ما يقال من "أنه يعلم كل شيء ولا يعلم أي شيء" ويكمن الحل في بناء التخصّصات المختلفة في الحوزة في مجالات العلوم الإسلامية بهدف إشباع المطالب العلمية وإثراء المضامين والاهتمام بالمناهج والخصائص التفصيلية للعلوم، وعليه: "يجب على الحوزة العلمية أن تتجه نحو التخصّص، ولحسن الحظ هناك الآن خطوات أولية في هذا المجال، ولكن يجب بذل جهود أكثر... يجب أن يحمل التخصّص محمل الجدية أكثر لما في العلوم الإسلامية من سعة وشمولية، يجب التخصّص حتى في الفقاهة، والمعاملات والعبادات، وإن كانت هذه الموضوعات مرتبطة مع بعضها. ولكن في نفس الوقت لكل منها باب مستقل ويمكن أن يكون لكل باب منها متخصّص"[44].
ويجب علينا أن نخطّط لفكر وحركة ونهضة جديدة في منهجنا العلمي وفي مباحثنا الإسلامية، في ضوء هذه الظاهرة العالمية، فحينما نشاهد العلم الذي انطلقت منه هذه الحركة السياسية على أساسه؛ أي العلوم الإسلامية والمعارف والكلام والفقه، الذي يحظى اليوم بكل هذا الاهتمام من قبل الأوساط العلمية والسياسية والعالمية، يجب علينا بذلك المزيد من الاهتمام والدقّة وتقييم علمنا من جديد بصفتنا علماء دين وأصحاب رأي في القضايا الدينية"[45].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الجمعة, الآية: 2.
[2] من خطاب في لقاء طلاب مدرسة الملا جعفر مجتهدي، تاريخ 29/9/1360هـ.ش.
[3] راجع: حمدان (د.محمد زياد): أساسيات المنهج الدراسي، دار التربية الحديثة، ص6.
[4] من كلام ألقي في لقاء ممثلي طلاب وفضلاء حوزة قم العلمية، في 7/9/1368 هـ.ش.
[5] الواسطي، علي بن محمد: عيون الحكم والمواعظ، دار الحديث، 1376هـ.ش.، ص371.
[6] من خطاب بمناسبة بدأ العام الدراسي في الحوزات العلمية في 11/ج2/1421هـ. طهران.
[7] من خطاب ألقي بحضور ممثلي وطلاب الحوزة العلمية في قم تاريخ 7/9/1368هـ.ش.
[8] من كلام ألقي في لقاء طلاب ومدرسي المدارسة الدينية، تاريخ 37/6/1363 هـ.ش.
[9] من خطاب ألقي في 14/9/1374هـ.ش. عند لقاء فضلاء حوزة قم العلمية.
[10] من خطاب ألقي الإمام الخامئي في بداية العام الدراسي في الحوزة العلمية في 9 ربيع الثاني 1416هـ..
[11] خطاب بمناسبة بدء العام الدراسي في الحوزة العلمية في 12 ربيع الأول 1412هـ..
[12] المرجع السباق..
[13] المرجع السباق.
[14] من خطاب ألقي في لقاء طلاب وفضلاء الحوزة العلمية في قم، تاريخ 14/11/1369هـ.ش.
[15] من خطاب ألقي في لقاء طلاب ومدرسي المدارس الدينية، تاريخ 27/6/1363 هـ.ش.
[16] من خطاب ألقي في لقاء ممثلي الطلاب والفضلاء في حوزة قم العلمية، تاريخ 7/9/1368 هـ.ش.
[17] من خطاب لسماحته في لقاء المدرسين والطلاب في المدارس الدينية، في 27/6/1363هـ.ش.
3293 مشاهدة | 15-05-2013