يمرّ على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام أربعون يوماً، وقد قضى العقل والدين باحترام عظماء الرجال الأحياء منهم والأموات، وتجديد الذكرى لوفاتهم، وشهادتهم، واظهار الحزن عليهم، لا سيّما من بذل نفسه، وجاهد حتى قتل لمقصد سام وغاية نبيلة.
وقد جرت على ذلك الأمم في كل عصر وزمان، فحقيق على المسلمين-بل جميع الأمم-أن يقيموا الذكرى في كل عام للإمام الحسين عليه السلام، فإنه قد جمع أكرم الصفات، وأحسن الأخلاق، وأعظم الأفعال، وأجلّ الفضائل والمناقب، علماً وفضلاً وزهادة وعبادة وشجاعة وسخاء وسماحة وإباء للضيم ومقاومة للظلم، وقد جمع إلى كرم الحسب شرف النسب.
وقد جاهد الإمام الحسين عليه السلام لنيل أسمى المقاصد، وأنبل الغايات، وقام بما لم يقم بمثله أحد، فبذل نفسه وماله وآله في سبيل إحياء الدين وإظهار فضائح المنافقين، واختار المنيّة على الدنيّة، وميتة العزّ على حياة الذل، ومصارع الكرام على اللئام، وأظهر من عزّة النفس والشجاعة والصّبر والثبات، ما بهر به العقول وحيّر الألباب واقتدى به في ذلك كل مَن جاء بعده، ومن يمتلك مثل هذه الصفات، فالحق أن تقام له الذكرى في كل عام وتبكي له العيون بدل الدموع دماً.
وبكى الإمام زين العابدين عليه السلام على مصيبة أبيه الإمام الحسين عليه السلام أربعين سنة، وكان الإمام الصادق عليه السلام يبكي لتذكّر المصيبة، ويستنشد الشعر في رثائه ويبكي، وكان الإمام الكاظم عليه السلام إذا دخل شهر محرم، لا يرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه، وقال الإمام الرضا عليه السلام: إن يوم الحسين أقرح به جفوننا، وأسال دموعنا، وأورثنا الكرب، والبلاء إلى يوم الإنقضاء1، وقد حثوا شيعتهم وأتباعهم على إقامة الذكرى لهذه الفاجعة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير مَنْ اتبع، وأفضل من إقتفي أثره، وأخذت منه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فضل يوم الأربعين
روي عن الإمام العسكري عليه السلام أنه قال: علامات المؤمن خمس صلاة إحدى وخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. 2
وقال عطاء: كنت مع جابر بن عبد الله الأنصاري يوم العشرين من صفر، فلما وصلنا الغاضرية اغتسل في شريعتها ولبس قميصاً كان معه طاهراً، ثم قال لي: أمعك من الطيب ياعطاء ؟ قلت: معي سُعد، فجعل منه على رأسه وسائر جسده، ثم مشى حافياً حتى وقف عند رأس الحسين عليه السلام وكبّر ثلاثاً ثم خرّ مغشياً عليه، فلما أفاق سمعته يقول: السلام عليكم يا آل رسول الله....
وكان يزيد قد أمر برد سبايا الحسين عليه السلام إلى المدينة، وأرسل معهم النعمان بن بشير الأنصاري في في جماعة، فلما بلغوا العراق قالوا للدليل: مُر بنا على طريق كربلاء، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، فبينا هم كذلك إذ بسواد قد طلع عليهم من ناحية الشام، فقال جابر لعبده: إنطلق إلى هذا السواد وآتنا بخبره، فإن كانوا من أصحاب عمر بن سعد فارجع إلينا لعلنا نلجأ إلى ملجأ، وإن كان زين العابدين عليه السلام فأنت حرّ لوجه الله تعالى، فمضى العبد فما أسرع أن رجع وهو يقول: يا جابر قمْ واستقبل حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا زين العابدين قد جاء بعمّاته وأخواته، فقام جابر يمشي حافيا مكشوفا الرأس إلى أن دنا من الإمام زين العابدين فقال الإمام: أنت جابر؟ فقال: نعم يابن رسول الله، فقال: يا جابر ها هنا واللهِ قُتلت رجالنا وذُبحت أطفالنا وسُبيت نساؤنا وحرقت خيامنا.3وفي كتاب قتلى الطفوف: إنهم توافوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء، والحزن، وأقاموا المأتم، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد، وأقاموا على ذلك أياماً.4
فضل زيارته عليه السلام
جاءت روايات كثيرة في فضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام بل في وجوبها، منها: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: من زار الحسين عليه السلام بعد موته فله الجنّة. 5
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: زيارة الحسين بن علي عليه السلام واجبة على كل من يقرّ للحسين بالإمامة من الله عزّ و جلّ.
وقال عليه السلام: زيارة الحسين عليه السلام تعدل مائة حجّة مبرورة، ومائة عمرة مُتقبلة - أي تعدل بثوابها - وروي: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان ذات يوم جالساً وحوله عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال لهم: كيف بكم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتّى؟ فقال له الحسين عليه السلام: أنموت موتاً أونقتل؟ فقال: بل تقتل يا بني ظلماً، ويقتل أخوك ظلماً، وتشرّد ذراريكم في الارض. فقال الحسين عليه السلام: ومن يقتلنا يا رسول الله؟ قال: شرار الناس، قال: فهل يزورنا بعد قتلنا أحد؟ قال: نعم، طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم برّي وصِلَتي، فإذا كان يوم القيامة جئتهم إلى الموقف حتى آخذ بأعضادهم فأخلّصهم من أهواله وشدائده 6. وروى شيخنا المفيد (قدس سره) بأسناده إلى عليّ بن ميمون، عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام، قال: يا عليّ، بلغني أن قوماً من شيعتنا يمرّ بأحدهم السنة والسنتان لا يزور الحسين صلوات الله عليه، قلت: جعلت فداك، اني أعرف أناساً كثيراً بهذه الصّفة، قال: أما والله لحظّهم أخطأوا، وعن ثواب الله زاغوا، وعن جوار محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم) تباعدوا،قلت: جعلت فداك، في كم الزيارة؟ قال: يا علي، إن قدرت أن تزوره كل شهر فافعل.7
وعن محمد بن داود بن عقبة، قال: كان لنا جار يُعرف بعلي بن محمد، قال: كنت أزور الحسين عليه السلام في كل شهر، قال: ثم علت سِنِيّ وضعف جسمي وانقطعت عنه مدّة، ثم وقع إليّ أنها آخر سِنِيّ عمري، فحملت على نفسي وخرجت ماشياً، فوصلت في أيام، فسلّمت وصليت ركعتي الزيارة، ونمت، فرأيت الحسين صلوات الله عليه قد خرج من القبر.فقال لي: يا علي، لم جفوتني وكنت بي برّاً؟ فقلت: يا سيدي، ضعف جسمي وقصرت خطاي، ووقع لي أنها آخر سِنِيّ عمري فأتيتك في أيام، وقد روي عنك شيء أحبّ أن أسمعه منك. فقال: قل. قال: فقلت: روي عنك: من زارني في حياته زرته بعد وفاته. قال الإمام عليه السلام: نعم من زارني في حياته زرته بعد وفاته، وإن وجدته في النار أخرجته.8
1- آمالي الصدوق / 91.
2- بحار الانوار: 101 / 329.
3- لواعج الأحزان /241
4- اللهوف في قتلى الطفوف 114.
5- أنظر تهذيب الأحكام / الطوسي ج6_ص21.
6- الإرشاد _ج2_131.
7- بجالا الأنوار /94_ 129.
8- مستدرك الوسائل /10_402.