بحث مدرج في العدد 34 من مجلّة الكلم الطيّب الصادرة عن ممثّلية جامعة المصطفى (ص) العالميّة في لبنان
رافئ الركابيّ[1]
إن للمواطنة أهميّة كبيرة, كمفهوم سياسيّ, اجتماعيّ, ثقافيّ, في وقتنا الحاضر, ولما لها من تأثير ملموس في فرض المساواة, والحريّة, والحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع الواحد؛ لأنّها حلقة الوصل بين الدولة وأفراد شعبها على مختلف مستوياتهم, كما إنها – المواطنة - ممارسة سلوكيّة, وثقافيّة, تنعكس بشكل مباشر على المستوى الاجتماعيّ, والثقافيّ, والحضاريّ على المواطنين جميعاً, دون استثناء, ومن ثَمّ ينتقل تأثيره لتأسيس مشاركة فاعلة بين أفراد المجتمع والسلطة؛ لتكوين إطار قانونيّ متين؛ لاحتوائه وحمايته من أي اختراق قد يطرأ على الحقوق الطبيعيّة أوالقانونيّة, في المكان الذي اتخذ الفرد كوطن له, حكماً أوفعلاً .
إنّ السبب الذي دفعنا للبحث في هذا الموضوع؛ هو وجود إشكالات متعدّدة, تعاني منها دولنا العربيّة بشكل خاصّ, والإسلاميّة بصفة عامّة, في تطبيق مفهوم المواطنة, إضافة إلى أنّ تماسك الجبهة الداخليّة للمجتمع, يعتبر من أهمّ عوامل الاستقرار, والأمن من الهجمة الثقافيّة الشرسة - الحرب الناعمة - التي تشنها الدول الغربيّة؛ وذلك لاعتبارها المعيار الدينيّ, من المعايير الإقصائيّة التي تبعد العديد من شرائح المجتمع, التي تدين بغير الإسلام؛ حيث يعتبرون أن الإسلام لم يخرج من التقسيمات الطبقيّة, والتمييز الدينيّ, والنظرة القوميّة, وأنّه لازال متمسكاً بها, ويحارب كافّة أنواع الفكر التقدميّ, والليبراليّ, والماركسيّ, والتوزيع المتساوي بناء على فكرة المواطنة, وانعدام أبسط معايير المساواة أمام السلطة الحاكمة بمختلف أجهزتها؛ التشريعيّة, والقضائيّة, والتنفيذيّة.
إنّ عدم وجود تأصيل صحيح لهذه السياسات, في التشريع الإسلامي, لا يعدو أن يكون فشل في تطبيق احكامه, وهو–التشريع الإسلامي- الذي سنكتشف أنّه سبق الجميع في وضع معيار المواطنة كأساس للحقوق والواجبات .
أولاً: حقّ المواطنة :
1. معنى المواطنة: إن مفهوم المواطنة متعدّد الجوانب, ورغم اتساع دائرة هذا المصطلح، إلا أنّنا نجد مفهوم المواطنة بمعناه الحديث, ليس سوى تطوّرات رُسمت من خلاله حزمة من الحقوق والواجبات, وإذا رجعنا إلى بداية وجوده بشكل حقيقي, سيتّضح لنا أنّ هذا المفهوم كان موجوداً بالفعل منذ عصور سحيقة, وإن كان على نماذج بدائيّة, كالتي كانت سائدة في العصور الأولى التي شهدت تواجد الإنسان وبداية تشكّل المجتمع الإنسانيّ, وبالتبع, بدأت المواطنة تتشكل مع هذه المجتمعات بطريقة تلقائيّة, فكلّما ازدادت المجتمعات تمدّناً, كانت ملامح تطبيق مفهوم المواطنة اكثر وضوحاً، وكلّما ازداد المجتمع تعقيداً, تولّدت تعقيدات أخرى في تحديد معنى دقيق ومضبوط للمواطنة، إلا أننا نتلمّس من تعريف الفلاسفة لها, تأسيسه من منطلق مراعاة المصلحة والمبادئ التي تحمي السياسات العامة لأيّ منطقة أو إقليم.
إنّ اكتساب المواطنة, في أي من دول العالم المعاصر, لا تخرج عن هذه الاسباب التي تعطي الفرد الحق في التمتع بكل حقوقه, وترتّب عليه التزام كامل, بالواجبات المقرّرة في قانون الدولة المعنيّة .
2. نشوء حق المواطنة : ينشأ حق المواطنة لأي فرد تتوفر فيه واحدة من الامور الآتية:
الولادة في الوطن (حق التراب)
جنسيّة الوالدين، (حق الدم) سابقاً كانت محصورة في جنسيّة الوالد ، كما هوالحال في بعض الدول العربيّة, ثم مع الحراك الكبير, لحملات حقوق المرأة, أصبحت للوالدين، وتحدد بعض الدول, عدد الأجيال التي يمكن, أن تحصل على الجنسيّة, دون إقامة في البلد .
المواطنة بالزواج : سعت بعض الدول, التي تعاني من موجات الهجرة, إلى مكافحة حالات الزواج المزورة, بغرض الجنسيّة، ولكن في بعض الدول العربيّة, لا يؤخذ بمسألة الزواج, إلا من جهة الأب فقط.
التجنيس : تعطى الجنسيّة, للأشخاص الذين دخلوا البلاد, بشكل قانوني, ومنحوا إذن للإقامة, أومنحوا اللجوء السياسي, مع إقامة لفترة معينة، في بعض الدول يحتاج التجنيس, إلى شروط إضافيّة, كاجتياز اختبار, يظهر المعرفة بلغة البلد, أوعاداتها, أووجود حد أدنى, لحسن السير السلوك, كخلوالسجل الجنائي, من أي حكم، وقسم الولاء للدولة الجديدة, أولحكامها, والتبرؤ من الانتماء, للمواطنة السابقة, كما ان بعض الدول, تسمح بازدواج الجنسيّة, ولا تطالب بالتبرؤ من الجنسيّة السابقة.
من خلال تتبعنا لمراحل التطور المجتمعيّة, سواء عن طريق المعايرة الزمنيّة, اوالمكانيّة, اوالسياسيّة, اوالاقتصاديّة, اوأي من المعايير الاخرى, نستطيع ان نصل, ودون تكبد الكثير من العناء, إلى كيفيّة تحرك ونمووتطور هذا المفهوم على مر السنين, بل وحتى التنبؤ, بما سيؤول إليه في مستقبل, اووضع فرضيات, لن يخرج منها, مستقبلاً, على اقل تقدير . عليه تبين لنا, ان المواطنة بمفهومها المعاصر, قد تولدت نتيجة, تطورات سياسيّة, وكان وجودها قصرياً, فارضاً نفسه على الدول, اوالاقاليم, اوالمدن, اوكل ما يجوز ان تطبق عليه, معايير المواطنة.
3. فلسفة المواطنة :
إنّ حق المواطنة يُعتبر من الحقوق العينيّة الأصليّة ([2]) التي تنشأ بشكل تلقائي في أغلب الأحوال, وإن أصبحت قابلة للاكتساب وفق الموجّهات التي تضمّنتها بعض الدساتير الحديثة لبعض الدول, على أساس إمكانيّة منح الجنسيّة في احدى الدول, مع الحفاظ على الجنسيّة الأصليّة, وهي ما يسمّى بازدواج الجنسيّة، التي تم تشريعها بعد الحرب العالميّة الثانيّة إثر انهيار دول المحور أمام قوات دول تحالف, التي كانت تحمل خارطة محدّدة لحق المواطنة, وطرق اكتسابها ومنحها للأفراد, فكان من نتائج هذه الحرب, تغيير كبير في أيدلوجية دول العالم, بعد أن فرضتْ بريطانيا وفرنسا نفوذها بشكل مطلق, وبدأت بفرض سياساتها التي صاحبت تحّركاتها في جميع أنحاء العالم, وكانت المواطنة ولا زالت من المسائل ذات الطبيعة المرنة, بمعنى إنّها قابلة للتغيير والتعديل, بحسب حاجة الإقليم, أو المنطقة, أوالدولة, أوالوحدة الإداريّة المعنيّة بهذه المسألة.
أما المواطنة بمفهومها المعاصر – في الشرق الاوسط مثلاً - , هي اقتباس كامل من الدول الغربيّة في بعض تطبيقاته, فأخذ منها التعريف, والتطبيق السياسي والقانوني، الذي يهدف لتنفيذ المبادئ التي تتبنّاها دساتيرها, ثم بدأت هذه الأطر تنسحب على بقيّة دول العالم بشكل تدريجي.
وعليه، فإن المواطنة بحسب التعريف الذي استقرّت عليه أغلب التشريعات والقوانين بمختلف مدارسها التشريعيّة(فرانكفوني – انجلوفون ), تعتبر من المعايير الحديثة, التي أصبحت واحدة من أهم المحدّدات التي تقع على عاتقها, وفي مقابل ذلك, تكون المواطنة هي العلامة الفارقة في تحديد الأفراد المعنيين بهذه الالتزامات, التي توضع للفرد لمنحه الحقوق, ومطالبته بالواجبات.
لذا، نجد أنّ المواطنة ترتبط بشكل وثيق بالحقوق والواجبات, وبالعلاقة بين المواطن والدولة. فاخترنا التعريف الآتي؛ لاتساقه مع هذه المتطلّبات, وهو: المواطنة ترتبط عادة بحق العمل, والإقامة, والمشاركة السياسيّة في دولة ما, أوهي الانتماء إلى مجتمع واحد، يضمّه بشكل عام رابط اجتماعيّ, أوسياسيّ, أوثقافيّ موحّد في دولة معينة.
إنّ المواطنة عبارة عن حق ناشئ لأفراد أي دولة نتيجة إحدى الأسباب الآتية, وهي, الدين, أو الثقافة, أو العرق, أو القوميّة, أو الاقليم المشترك الواقع تحت قيادة سلطة واحدة. هذه الاسباب متعارف عليها أنّها تنشأ قهراً بلا اختيار, فاكتساب المواطنة لا يقع داخل دائرة التصرفات الاختياريّة على الأرجح.
ثانياً: المواطنة في التشريعات الوضعيّة :
1. مفهوم المواطنة من منظور الدولة المدنيّة :
مفهوم المواطنة في الدولة المدنيّة القديمة, كان خلاف ما هو موجود في الوقت الراهن, فهوخاضع للمتغيرات والحوادث المحيطة؛ إذ كان خاضعاً بشكل مباشر للتطورات التي كانت تحدث على الساحة السياسيّة , وكمثال على ذلك؛ نجد أنّ الحرب العالميّة الثانيّة كان لها الدور الأكبر, خاصّة إنّ قيامها كان بعد العديد من الاتفاقيّات بين الدول التي رجّحت كفتها في الحرب الأولى, رغم إنّ المؤرّخين والسياسيين، يقولون: بعدم توقّف الحرب بشكل كامل في الفترة بين الحربين – الحرب العالميّة الاولى والحرب العالميّة الثانيّة– ، فكانت فترة تهدئة وإعادة بناء المجتمع الأوروبّيّ, من الناحيّة الثقافيّة, والاجتماعيّة, وحتى الأخلاقيّة, ريثما تقوم بترتيب صفوفها من جديد.
هذا، وعلى أنقاض الحرب العالميّة الثانيّة, كان العمل على إعادة ضبط المجتمعات, ووضع دساتير تحكم البلدان الأوروبيّة – المملكة المتحدة لم تضع دستوراً دائم وهي تعتمد الأحكام العرفيّة إلى الآن –، نظّمت من خلالها الأوضاع العامّة في المجتمع الأوربيّ كل منه على حدة, فكان من الطبيعيّ أن تأتي الدساتير متباينة في تناولها لمسألة المواطنة من ناحية الحقوق والواجبات، اتجاه الدولة والمجتمع, فكانت المواطنة مفهوماً هجيناً بين المواطنة الاجتماعيّة, والسياسيّة, والمدنيّة؛ أي إنّها تحكم علاقة الفرد مع مجتمعه من ناحية, والدولة بجهازيها التنفيذيّ والقضائيّ من ناحية أخرى.
2. مفهوم المواطنة من منظور اجتماعيّ :
المواطنة من جانب البناء السيسيولوجي([3]), هي الأقدم بين مفاهيم المواطنة؛ فقد بدأت منذ بداية تكوّن المجتمع الإنسانيّ, فكانت العناصر الحاسمة فيه: عنصر الثقافة, والعرق, واللغة, والإقليم.
لكن دعت الحاجة إلى تطوير هذا المفهوم؛ ليتّسق مع متطلّباته الحديثة؛ حيث إنّ كل دولة في مساحتها الجغرافيّة, تشتمل على الكثير من العرقيّات, والديانات, وغير ذلك, فتدخّلت الدولة لمنح هذه المجتمعات البوتقة الشاملة؛ لاحتوائها بمختلف عناصرها. فكانت المواطنة, متشعّبة ومتدرّجة, خصوصاً عندما بدأ الانفتاح التجاريّ والهجرة عبر القارّات، فظهرت إشكاليّة جديدة على تصنيف المواطنين في تلك الدول, فكان التسلسل الطبقيّ والماليّ والثقافيّ متباين، لدرجة جعل من تأخير تطبيق المساواة والمواطنيّة إلى اواخر العشريّة الثالثة من القرن العشرين أمر منطقيّ .
لقد حظي المجتمع المدني, باهتمام خاصّ من الفلاسفة والباحثين بمختلف توجّهاتهم وأيدولوجيّاتهم السياسيّة، فلكلّ منهم وجهة نظره الخاصّة, ولكنها بشكل عام,تصب في إطار واحد, باعتبار كون المجتمع المدني, يمثّل القناة الرابطة بين السلطة السياسيّة وأفراد الشعب, على أن يكون الركن الثاني, هو الركن الأقوى تأثيراً في هذه العلاقة, وكفّته هي الراجحة دائماً.
قامت عديد من المحاولات لفلاسفة العرب, حاولوا وضع مفهوم المجتمع المدني قيد التجريب, إلا أنّ محاولاتهم كانت تفتقد للجديّة, والأرضيّة الصالحة لاستيعاب هذه الافكار . " لاستكناه الموقف السياسيّ في مجموع الدول العربيّة، نجد مفهوم القوميّة العربيّة واضحا جليّاً إذا خضنا في أدبيّات القوميين العرب في الحروب التي قامت بينها وبين الكيان الصهيوني، فكانت ذات طابع قومي صارخ"([4])؛ إذ إنّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لازلت تعاني من مفهوم المجتمع الشعوبيّ أو القوميّة القائم على رابطة الدين, والعرق, والإقليم الجغرافي على الطريقة البدائيّة, فكان من المتعذّر تطبيق هذه النظريّات بشكل جدي.
تناولت ندوة >المجتمع المدنيّ< التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العربيّة عام(1992 م), عند طرح إطار لفظيّ لمفهوم المجتمع المدنيّ, كانت الصيغة كما الآتي:( إنّ المؤسّسات السياسيّة, والاقتصاديّة, والاجتماعيّة, والثقافيّة التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة؛ لتحقيق أغراض متعدّدة, منها:
أغراض سياسيّة, كالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطنيّ, والقوميّ, ومثال ذلك: الأحزاب السياسيّة
أغراض مقاميّة, كالدفاع عن مصالح أعضائها
أغراض ثقافيّة,كما في اتحادات الكتّاب, والمثقّفين, والجمعيّات الثقافيّة التي تهدف لنشر الوعي الثقافيّ )[5] .
من خلال هذا التعريف, نجد أنّ هناك لمحة, واضحة وإيحاء بأنّ المجتمع المدنيّ, لا يتعدّى كونه تمثيلاً لفئات الشعب المختلفة؛ لمواءمة الديموقراطيّة الحديثة. وذهب ستيفن فيش إلى استبعاد الجماعات المتطرّفة التي تقوم على أساس تعصّبيّ, أو متعصّبة إلى تيار أو جهة معيّنة, ومثّل بالأحزاب السياسيّة, والجمعيّات التي تقوم على فكرة جامدة, وثابتة, بعيدة عن الأسس الديموقراطيّة"([6]).
تداخلت مفاهيم المواطنة, والديموقراطيّة, والمجتمع المدنيّ. والحاصل، إنّ كلاً منهم يمثّل وجهاً من الأوجه الثلاثة لهرم المجتمع الإنساني. فهذه المفاهيم متكاملة, ولا يمكن الفصل بينها, وإن المفهوم الشائع في هذه الفترة للمواطنة, هي: خلق أمّة موحّدة سياسيّاً بإلحاح سيسيولوجية الأسرة, والمجتمع بشكل كامل ([7]) .
ثالثاً: المواطنة في التشريع الإسلامي :
قال الله – تعالى -: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير }([8]) وقال – أيضاً -: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ...}([9]).
ألغى الشارع الحكيم فارق العرق, والدم, واللون, والمكان، لكنه وضع أسساً أخرى, كما في هذه الآيات, وهوالعليم الخبير. ومما لا يحتاج إلى بيان, إنّ التوجّه العلمانيّ لا يرى للدين ومدى الالتزام به, دوراً في التفاضل بين البشر, كما هوالحال في الشرائع السماويّة.
1. مقوّمات المواطنة في الرؤيّة الإسلاميّة:
إنّ المواطنة - كما تعرّضنا لتعريفها سابقاً –, هي عبارة عن انتماء الفرد لرقعة جغرافيّة, معيّنة, وفق المعايير المكوّنة لهذا المفهوم. أمّا وفق الشريعة الإسلاميّة, فنجد أنّ المواطنة – ايضاً - تأخذ المنحى نفسه, ولكن بمعايير أكثر ضبطاً, وهي تتطلب عدّة مقومات، منها :
وجود دولة بالمعنى الحديث
وجود وطن ذي أنشطة وفعاليّة أوإقليم محدد
علاقة اجتماعيّة بين الفرد والدولة
التزام بالتعايش السلمي بين أفراد المجتمع
مشاركة في الحقوق والواجبات
احترام نظام الدولة، وعلاقته بالحاكم على المستوى الدستوريّ, والقانونيّ, والسياسيّ, والاجتماعيّ, والاقتصاديّ, والثقافيّ، فيعبّر المواطن في الدولة عن رأيه ومصالحة بحريّة, في مظلّة ضمانات مقرّرة
بناء على هذه الأسس, نجد أنّ الإسلام وضع مفهوماً راقياً ومتقدّماً للمواطنة, وللمساواة في الحقوق والواجبات, فكانت خصائص المواطنة, في الإسلام عبارة عن مفهوم سياسيّ مدني، وفي الوقت نفسه يضع القيم الأخلاقيّة المؤيّدة لها, كمفهوم الأخوّة في الإسلام . لذا، حقّقت المواطنة في الإسلام توازنًا في المجتمع, على الرغم من التنوّع العرقيّ, والديني, والثقافيّ، بينما سارت المواطنة في المجتمعات الأخرى, نحو صراعات عرقيّة, ودينيّة, وثقافيّة، وقد كان الغرب في قمة هذه الصراعات؛ لأنه جعل المواطنة ذات اتجاه, عنصريّ، كما عبّرت عنه الحربان العالميّتان في القرن العشرين.
وعليه، نجد أنّ الإسلام قد سبق ما يُسمّى بالمجتمع المدنيّ الحديث في هذه النواحي, ووضع بشكل متفرّد أسلوباً متطوّراً؛ لاحتواء أي اضطراب قد ينشب نتيجة التعامل الخاطئ مع هذه المسألة .
2. وثيقة المدينة وإقرار حقّ المواطنة :
عندما نلاحظ صحيفة المدينة المنوّرة, التي دُوّنت, وتمّ إقرارها كوثيقة قبل أكثر من ألف وأربعمئة سنه من اقرار الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان( 1948م)؛ لضبط الأفراد داخل المجتمع المدنيّ، ونجد أنّها لم تضع أي فواصل بين مختلف مكوّنات المجتمع المدني الموجود بالمدينة المنورة, ويتمثّل هذا السبق في الوثيقة المعروفة, وهي صحيفة المدينة, التي صاغها وأبرمها النبيّ محمّد (ص) بعد هجرته إلى المدينة المنوّرة, وقد أبرزت هذه الوثيقة أمرين:
ميلاد الدولة الإسلاميّة في الوطن الجديد
صهر المجتمع المدنيّ في أمّة واحدة على الرغم من التنوّع الثقافيّ والعقديّ(المسلمون، واليهود، والوثنيون الذين لم يؤمنوا من الأوس والخزرج)، والتنوّع العرقيّ(المهاجرون من مكة؛ وهم من قبائل عدنانيّة، والأنصار؛ وهم قبائل قحطانيّة، واليهود؛ وهم قبائل ساميّة). بنود الصحيفة, أو الوثيقة المحقِّقة للمواطنة، وهي التي تسمّى في عصرنا "دستور الدولة مشتملة على(٤٧) بندًا أوفقرة، أختار منها الآتي:
هذا كتاب من محمد النبيّ بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم:
- إنهم أمّة واحدة من دون الناس
- لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن
- من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم
- يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ ([10]) إلا نفسه وأهل بيته
- اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين
- على اليهود نفقتهم، و على المسلمين نفقتهم
- ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف
- ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف
- ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف
- ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف
- ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف
- ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف
- جفْنة بطن من ثعلبة كأنفسهم
- لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ّ البِر دون الإثم
- موالي ثعلبة كأنفسهم
- بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة
- بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم
- لم يأثم امرؤ بحليفه
- النصر للمظلوم
- يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة
- ما كان بين أهل الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله
- لا تجار قريش ولا من نصرها
- بينهم النصر على من دهم يثرب، وإّنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أوآثم([11])
من هنا، نجد أنّ الوثيقة أعطت حقّ المواطنة لسكان المدينة من مهاجرين, وأنصار, ويهود, وغيرهم,بصرف النظر عن العقيدة، كما جعلت غير المسلمين في دولة المدينة مواطنين، لهم فيها مثل ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين, مع تفاوت في بعض القضايا للمسلين الخاصّة بالتشريع.
وربما يظن الكثيرون, أنّ المواطنة في الإسلام, لا تصلح إلا بين المسلمين، فنقول: إن مصالحة النبي محمّد(ص) اليهود في أكثر من موطن, تدلّ على أنّ المواطنة عامّة، وبنود الصحيفة تدلّ على ذلك، إضافة للأحاديث والآيات التي تأمر باحترام أهل الذمّة, وأداء حقوقهم, وصيانة حرماتهم, وعلى رأسها قوله – تعالى -: { لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[12].
الخاتمة : إذاً، اتضح في المباحث السابقة التي تناولنا من خلالها مفهوم المواطنة, ومسمّياته, ومراحل تطوّره عبر السنين, وعلمنا أنّ المواطنة هي حقّ أصيل للإنسان دون أي تحديد أوتصنيف. وهومناف للإقصائيّة, والفئويّة, والتمييز على المعايير التي كان يتم التمييز من خلالها, كالعرق, واللون, والقوميّة, والثقافة, والغقليم, وغيرها.
ومما سبق استخدامه كضابط لمفهوم المواطنة, تبيّن أنّ الدوافع كانت في أغلبها, دوافع فطريّة, تفتقر إلى أقلّ مقوّمات بناء المجتمع الإنسانيّ الصحيح, الذي يقود بدوره إلى تطوّر المجتمع, مما نتج عنه كثير من الأنظمة السياسيّة عبر التاريخ, ولم تستطع أن تجد حاضنة لكافة أفراد إقليمها, ولا زالت إلى الآن المحاولات جارية لوضع قاعده ثابتة وقانون موحّد, يكفل الحقوق والواجبات لأفراد مجتمعه.
المواطنة, بمسمّاها الحديث, نشأت كمفهوم فلسفيّ, ونظريّة تضع حلاً للإشكالات الطبقيّة المزمنة, والتباين الاجتماعيّ على مختلف تصنيفاته, ومما دفعنا للكتابة في هذا الموضوع, هوالإشارات المبطّنة التي تتهم الدين الإسلاميّ, كدين إقصائيّ, لا يعترف بالحقوق المدنيّة والإنسانيّة للفرد الذي تنطبق عليه أوصاف المواطن, ما لم يكن معتنقاً للإسلام. هذا الاتهام له أساس تاريخيّ, في عهد ما بعد النبوّة, وفي فترة الخلفاء, وصولا لمراحل الدويلات, ثم النظام الحديث. ولكن، السؤال الذي طالما يطرح في قبال هذه الإشارات هو: هل الدين الإسلامي, هودين اقصائي؟
الإجابة عن هذا السؤال تكون بالنفي نظريّاً, وتكون إيجاباً عمليّاً؛ لأنّ الأنظمة التي تطبق النظام الإسلامي, والتي طبقته في الفترات السابقة, لم تقم بالرجوع للمنابع الأصليّة والنقيّة للتشريع الإسلامي, بل إنّها اتخذت طرقاً لتسهيل أنظمتها السياسيّة؛ لبقائها لأطول فترة ممكنه, مما كان دافعاً لوضع تشريعات تتناسب مع هذه الأهداف, التي هي - بلا شك -بعيدة كل البعد عن الأهداف التي تبنّاها,الإسلام منذ بعثة النبيّ الاكرم(ص).
أوردنا في هذا البحث جزءاً يسيراً من الوثيقة التي قام الرسول الاكرم(ص) بصياغتها في المدينة المنوّرة؛ لتنظيم الحياة الداخليّة بين أفراد هذه المنطقة وسكانها, وقمنا بالتركيز على البنود المتعلّقة باليهود بصفة خاصّة, وكان المعيار الأساس هوالمواطنة, وما يترتب عليه من الالتزام بالحقوق والواجبات اتجاه الفرد.
إنّ كل التشريعات المدنيّة والدوليّة الضابطة لمسألة المواطنة, لم تصل إلى الصيغة المطلوبة لتتجنّب أي نوع من الإقصاء أوالتمايز بين أفراد مجتمعاتها. إذاً، المواطنة التي طرحها النبي الاكرم(ص) قبل أربعة عشر قرن, هي نموذج من النماذج التي نطرحها كمسلمين؛ لوضع النظام الإسلامي كنموذج حقيقيّ للدولة المدنيّة الحديثة, وليس ما تنادي به بعض المجموعات التي تبعت أهواء النفس, وشهوة السلطة.
[1] طالب في مرحلة الإجازة في الفقه والمعارف الإسلاميّة، جامعة المصطفى(ص) العالميّة في لبنان.
[2])) هي الحقوق المستقلة التي تنشأ بذاتها, وهي بخلاف الحقوق المكتسبة, والعينيّة التبعيّة.
-([3]) سيسيولوجيا : هوالعلم الذي يدرس المجتمعات والقوانين التي تحكم تطوره وتغيره.
[4] مجموعة مؤلفين :مبدأ المواطنة في الفكر القومي والإسلامي (ندوة اقيمت في جامعة اوكسفورد, لا ط، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001م، ص 278.
[5] الفالح, متروك: المجتمع والديموقراطيّة والدولة في البلدان العربيّة- دراسة مقارنة لإشكاليّة المجتمع المدني في ضوء تريف المدن -, لا ط، مركز دراسات الوحدة العربيّة, بي روت,(2002م), ص 26.
[6] راجع: م. ن، ص 26-27
[7] راجع: ولد ديل، سيدي محمد: الدولة وإشكاليّة المواطنة, لا ط، دار كنوز المعرفة, المملكة الاردنيّة الهاشميّة, 2011م, ص 23.
[8] سورة الحجرات, آيّة 13.
[9] سورة النساء, آيّة 32.
[10] يوتغ, بمعنى يهلك, ان الاعتداء يكون على شخص المعتدي وليس كامل العشيرة؛ راجع: ابن منظور، محمد: لسان العرب، لا ط، نشر أدب الحوزة، قم، 1405هـ، ج 8، ص 458.
[11] راجع: ابن هشام، محمد: السيرة النبويّة، تحـ . محمد محيي الدين عبد الحميد، لا ط، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده، مصر، 1383هـ/ 1963م، ج 2، ص 348.
[12] سورة الممتحنة، الآية 8.