بحث مدرج في العدد 34 من مجلّة الكلم الطيّب الصادرة عن ممثّلية جامعة المصطفى (ص) العالميّة في لبنان
حسنين الجمّال[1]
مقدمّة: لا يخفى على الباحثين أهميّة مباحث الفقه السياسي لا سيّما في هذا العصر. وتعتبر الأبحاث المرتبطة بالحكومة من صميم تلك الأبحاث الفقهيّة السياسيّة. وقد عمدنا في هذه المقالة لمعالجة إشكاليّة إقامة الحكومة في عصر الغيبة. تعدّ الحكومة من أقدم المؤسسات السياسيّة في العالم. ومنذ أقدم العصور كانت المجتمعات بحاجة الى حكّام ومنفذين لإدارة المجتمعات الإنسانيّ، وهي عبارة عن شكل من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات. ومن الممكن القول: إنّ هناك حكومة لأيّ مجموعة سواء أكانت رسميّة أم غير رسميّة؛ كالعائلة، والنادي، والنشاط التجاري، واتحاد العمل. إلا أنّنا نطلق كلمة حكومة عادة على الحكومة العامّة؛ كحكومة أمّة، أو دولة, أو ولاية, أو محافظة, أو مدينة, أو قرية. فالهدف من هذا المقال هو معرفة حكم إقامة الحكومة الإسلاميّة في عصر الغيبة، وهذا بدوره يجيب عمّن يسأل: هل في الإسلام نظام سياسيّ مهمته قيادة المجتمع الإسلامي أو لا؟ ولعل سبب نشوء مثل هذا السؤال هو تصور الناس أنّ الديانة مقولة فرديّة لا شأن لها إلا تنظيم العلاقة بين الإنسان وربّه، ولا ربط لها بالنظام السياسيّ. وفي طيّات البحث نبحث عن وجود دليل يدلّ على وجوب الإقامة وعن وجود أدلّة مخالفة، ثمّ نسعى للوصول على ما يدل عليه الدليل بشكل موضوعيّ وممنهج. والنتائج المتوقّعة تدور مدار الأحكام التكليفيّة الخمسة بالإضافة إلى الأحكام العقليّة، وهذا أمر واضح طالما أنّ البحث فقهيّ. ولا يخفى على القارئ أهميّة هذا البحث، إذ؛ «إنّ أهم القضايا عند أي شعب وأكثرها حساسيّة هي قضيّة الحكومة، والولاية، والإدارة، والحاكميّة العليا على المجتمع؛ حيث تمثّل القضيّة الأكثر تأثيراً على الناس. قامت الشعوب بتحديد هذه المسألة وحلّها كل على طريقته، ولكنّها في أغلب الأحيان بشكل غير صحيح –وغير كامل بل وحتى مضر»[2]. وقبل البدء بالبحث عن أدلّة إقامة الحكومة في عصر الغيبة، لا بدّ من تحديد المراد من المصطلحات المفتاحيّة للبحث؛ وهي:
1. الحكومة: أ- المعنى اللغويّ:: الحكومة اسم من الحكم[3]. ومن خلال تتّبع معظم أقوال اللغويّين، يعلم أنّ الحكم عبارة عن المنع. وذكر في اللسان: «قيل للحاكم بين الناس حاكم؛ لأنّه يمنع من الظالم من الظلم»[4]. وقال الأصمعيّ نقلاً عن اللسان:« أصل الحكومة ردّ الرجل عن الظلم»[5]. وعلى كل حال فالمعنى اللغويّ للحكم هو القضاء، والمنع سواء أكان المنع عن الظلم أم عن غيره. والحاكم بمعنى القاضي ومصدر الحكم وبمعنى منفذ الأحكام. وقد استعمل الحكم في القرآن الكريم بهذا المعنى في العديد من الآيات الكريمة[6].
ب- المعنى الاصطلاحيّ: قد ذكروا لها العديد من التعريفات في كتب العلوم السياسيّة[7] أو المهتمّة ببعض هذه الجوانب. ويمكن تعريفها بالآتي: «هي الهيئة العليا التي تشرف على السلوك الاجتماعيّ للشعب، وتعمل على توجيهها ولو بالقوّة». فهي أعلى هيئة ومؤسسة رسميّة في المجتمع تتولّى الإشراف على السلوكيات الاجتماعيّة لأبناء المجتمع وتنظيمها طبقا لما تراه. فتسن القوانين؛ ليعمل الناس على طبقها، وتلزمهم بها بالقوّة في حال عصيانهم وتمرّدهم على هذه القوانين والمقرّرات. وهذا التعريف كما ترى يشمل الحكومة الشرعيّة وغير الشرعيّة. وقد يعبّر أهل العامّة عن الحكومة بالإمارة، فعلى سبيل المثال، كتب مؤلّف كتاب السياسة الشرعيّة في إصلاح الراعي والرعيّة فصلاً في وجوب اتخاذ الإمارة.
2. الحكومة الإسلاميّة: يمكن أن يراد من مصطلح الحكومة الإسلاميّة معانٍ عدّة[8]، لكن المعنى الذي نريده هنا هو: «الحكومة القائمة على أساس دينيّ». فتستمد هذه الحكومة قوانينها من التعاليم الإسلاميّة، ويتمتع القائمون عليها بتنصيب إلهيّ، نصّ خاصّ من المعصوم، أو تنصيب عام، وتعدّ هذه الحكومة حكومة مثاليّة، وهي من قبيل حكومة النبيّ(ص) والأمير(ع). لأنّ الحكومة الإسلاميّة[9] تستمدّ تعاليمها من الدين الإسلاميّ الحنيف، كان لابدّ أن تكون من وظائفها مساعدة المواطنين على التكامل المعنوي، وهذه الميزة تحتلّ الأولويّة في الحكومة الإسلاميّة[10]، فضلاً عن الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها أيّة حكومة: 1- معرفة الطريق لتحقيق هذه الأهداف 2- الحصول على ثقة المواطنين؛ بحيث يشعرون إنّهم مصانون في ظل هذه الحكومة 3. عصر الغيبة
لا يخفى أن للإمام المهدي(عج) غيبتين: صغرى وكبرى، بدأت غيبته الصغرى سنة 260 هـ عند استشهاد الإمام العسكري (ع). وكان تواصل الإمام المهدي(عج) مع شيعته عبر سفراء أربعة، واعتلّ السفير الرابع، فحضره الشيعة قبل وفاته بأسبوع تقريباً في اليوم السابع من شهر شعبان سنة 328 هـ فأخرج لهم توقيعا[11]. والمراد من عصر الغيبة في هذه الرسالة هو الفترة الممتدة من سنة 328هـ إلى عهد ظهور الإمام عج. أولاً: الأدلة العقليّة على ضرورة إقامة حكومة إسلاميّة في عصر الغيبة 1. لزوم الفساد بترك إقامة الحكومة / وهذا الدليل مؤلّف من مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: إذا حكم العقل بقبح شيء، فإنّه تارة يحكم بقبحه؛ بمعنى رجحان عدم تحقّقه، وأخرى بمعنى لزوم عدم تحققه. / المقدمة الثانية: عدم إقامة الحكومة فيه من الظلم؛ بحيث لا يرضى العقل بتحقّقه خارجاً. النتيجة: العقل يحكم بلزوم إقامة الحكومة./ تفصيل الدليل: لو تأمّلنا في العقل العمليّ، لوجدنا أنّه يحكم على بعض الأفعال بالقبح، وحكمه بالقبح تابع لوجود الظلم في ذلك الفعل، وبما أن الظلم مشكّك، فإنّه يمكننا تنويع حكم العقل بالقبح إلى نوعين:
الأول: حكم العقل بقبح الفعل؛ بمعنى لزوم عدم تحقّقه لما فيه من ظلم شديد ومفسدة عظيمة الثاني: حكم العقل بقبح الفعل؛ بمعنى رجحان عدم تحقّقه لما فيه من ظلم بدرجة لم يصل معها الى الحكم بلزوم عدم تحققه في الخارج/ وبناء عليه، يتّضح حكم العقل بقبح فعل من خلال ملاحظة درجة الظلم الكامنة فيه، فيقع السؤال: ماذا يحكم العقل بالنسبة لعدم إقامة حكومة في المجتمع؟ فنقول: إنّه من الواضح أن العقل يحكم بقبح عدم إقامة حكومة في المجتمع ولا يحكم بحسنه. لكننا نريد معرفة أن الحكم بالقبح من أي القسمين هو؟ إن عدم إقامة حكومة في المجتمع سوف يؤدي إلى أحد أمرين: أ. إمّا أن يتفق الناس فيما بينهم على كل شؤونهم دون الحاجة إلى هيئة أو مؤسسة تنظّم لهم أعمالهم، فيُستغنى بذلك عن إقامة حكومة. وهذا فرض محال عادة، لا سيّما مع ملاحظة طبائع الناس الميّالة نحو الاستئثار والطمع، وغير ذلك. ب. إمّا أن لا يتفق الناس فيما بينهم: وهذا بدوره فيه احتمالان:
أن يكون عدم الاتفاق بحيث لا يضرّ بالمجتمع ولا يخلّ به، فيكون الخلل المسبّب عن عدم الاتفاق قليلا غير لازم الدفع. وهذا أيضاً محال عادة كسابقه؛ للنكتة نفسها. أن يكون عدم الاتفاق مما يؤدي إلى أن يعمل كلّ على هواه. وهذا سوف يوقع الهرج والفوضى في المجتمع. وبعبارة أخرى، سوف يودي بالمجتمع نحو الفساد والهلاك، وسيصير محكوماً لشريعة الغاب وحكم الأقوى، وهذا فيه ظلم شديد لأفراد المجتمع كلّهم، وتترتب عليه مفسدة عظيمة. ولتوضيح الفساد الشديد الذي يحصل لو لم تقم حكومة في المجتمع، يمكن ملاحظة بعض الوظائف التي تقوم بها الحكومة في المجتمع. فمن هذه الوظائف نذكر[12]: إقرار القوانين الكليّة (الثابتة والمتغيرة) والجزئيّة: ضمان تنفيذ القوانين / التصدي للأمور التي لا متصدّ لها / تولي التعليم والتربية/ إقامة التوازن الاقتصاديّ/ الدفاع والاستعداد ضدّ الأعداء/ القضاء وفضّ النزاعات الداخليّة
وإذا اتضح أنّ عدم إقامة حكومة في المجتمع سوف تؤدي إلى ظلم شديد ومفسدة عظيمة، فإنّ القسم الأول من أحكام القبح العقليّة مستحكم، وبالتالي يحكم العقل بلزوم عدم تحقّق عدم إقامة حكومة في المجتمع. وهذا معناه أنّه يحكم بلزوم إقامة حكومة في المجتمع؛ لأنّ عدم إقامتها وإقامتها نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. قد يقال: إنّه وإن كان يحصل ظلم من عدم إقامة الحكومة، إلا أنّ السبيل لرفع هذا الظلم لا ينحصر بإقامة الحكومة فقط، بل هناك سبيل آخر، وهو الالتزامات الأخلاقيّة. وهذا ما ذهب إليه أبو بكر الأصمّ المعتزلي، وماركس، وغيرهم؛ حيث شذّوا عن سائر المذاهب السياسيّة بالقول بعدم ضرورة إقامة الحكومة[13]. وحاصل كلامهم: إنّهم يرون إمكانيّة إدارة حياة الإنسان من خلال الالتزامات الأخلاقيّة، فيعملون بنحو يوصل المجتمع إلى هذه المرحلة. فيتعيّن على الناس الحصول على مستوى محدّد من التربية والتعليم؛ بحيث يمكنهم إدارة المجتمع دون حاجة إلى حكومة[14]. في مقام الرد على هذه النظريّة نقول: هذه النظريّة غير واقعيّة؛ باعتبار أنّ التجريّة أثبتت عبر آلاف السنين وجود أفراد في المجتمع لا يلتزمون بالقواعد الأخلاقيّة، فإذا لم يسيطر عليهم بسلطة أقوى منهم، فإنّهم قد يجرفون المجتمع، فلا يندفع إشكال الظلم والفساد. لو سلّمنا إنّه فرض واقعيّ، ويمكن أن يتحقق التزام أخلاقيّ بين البشر؛ بحيث لا يؤذي بعضهم بعضاً، ولا يتسلّط القوي على الضعيف، إلا أنّ في المقام إشكالا آخر، فهذا الالتزام الأخلاقيّ لا يرفع الحاجة إلى حكومة تدير الأمور العامة للمجتمع، وتؤمّن الأمور التعليميّة، والصحيّة، والمهنيّة، والرفاهيّة، والاقتصاديّة، والإنمائيّة، و... ولعلّهم سلكوا هذا المسلك ظنّاً منهم أنّ الحاجة إلى الحكومة هي لضبط الأمن في المجتمع والحاصل، إنّ العقل يحكم بلزوم إقامة حكومة في المجتمع دون أن يحكم بلزوم كونها إسلاميّة. وللاستدلال على لزوم إقامة الحكومة الإسلاميّة، فإنّنا نحتاج الى بيان متمّم، فنقول: ظهر مما تقدم، أنّ النكتة في حكم العقل بلزوم إقامة حكومة في المجتمع، هي عدم فساد المجتمع، وهذه النكتة كالعلة بالنسبة للحكم العقليّ؛ تعمّمه وتخصّصه. كان النظر فيما سبق إلى المجتمع الإنساني، فوصلنا إلى تلك النتيجة. الآن ننظر إلى المجتمع الإسلاميّ الذي يقطنه المسلمون المؤمنون، فإن تحقّقت في هذا المجتمع حكومة غير إسلاميّة، فإنّها سوف تمنع من حصول الفوضى والفساد فيه، لكنّها لن توصله إلى هدفه، بل قد تبعده جدّاً عن هدفه. وعدم الوصول إلى الهدف المنشود الذي يترتّب عليه عقاب أبديّ في حياة خالدة، يعتبر بنظر العقل ظلماً، شديداً وفيه مفسدة عظيمة. فعلى ضوء تلك النكتة التي حكم العقل بسببها بلزوم إقامة حكومة في المجتمع، يحكم هنا بلزوم إقامة حكومة إسلاميّة في المجتمع الإسلامي. ولعلّه إلى هذا الدليل، أشار الإمام الخمينيّ(قده) في كتابه «الحكومة الإسلاميّة»؛ حيث قال: «وبما أن تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم(ص) وإلى الأبد من ضرورات الحياة، كان ضرورياً وجود حكومة فيها مزايا السلطة التنفيذيّة المدبرة؛ إذ لولا ذلك، لساد الهرج والمرج، والفساد الاجتماعيّ، والانحراف العقديّ والخلقيّ، فلا سبيل إلى منع ذلك إلا بقيام حكومة عادلة تدبّر جميع أوجه الحياة».[15] فالحاصل، إنّ العقل يحكم بلزوم إقامة حكومة في المجتمع كما يحكم بلزوم إقامة حكومة إسلاميّة في المجتمع الإسلاميّ. نعم، لو قلنا بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، لقلنا – أيضاً - إن الشرع يحكم بوجوب إقامة حكومة إسلاميّة في المجتمع الاسلاميّ.
2. مسلك المقدميّة: ويمكن بيإنّه من خلال مقدمتين ونتيجة: المقدمة الأولى: لدينا واجبات شرعيّة فعليّة مطلقة بلحاظ الأزمان، فيترشح منها وجوب – ولو بلحاظ المبادئ - على مقدّماتها./ المقدمة الثانية: إقامة الحكومة الإسلاميّة مقدمة لامتثال هذه الأحكام الفعليّة./ النتيجة: إقامة الحكومة الإسلاميّة واجبة عقلا من باب المقدميّة./ تفصيل الدليل: من خلال تتبع القرآن الكريم والسنّة الشريفة، يظهر لنا وجود واجبات شرعيّة فعليّة مطلقة بلحاظ الأزمان. نذكر منها:[16] إقامة الحدود / الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهما تطبيق الأحكام الإسلاميّة والمنع عن إجراء الأحكام المخالفة للتشريع الإسلامي / الدفاع عن الإسلام وإعداد القوّة/ الجهاد لو قلنا ببقاء وجوبه في زمن الغيبة/ المعاملة الخاصة مع أهل الذمّة/ القضاء في المنازعات/ أخذ حقوق المستحقين من المانعين/ أخذ أموال الناس وحقوقهم من الغاصبين والظالمين/ تطبيق الأمور الاقتصاديّة وفق الموازين الإسلاميّة فهذه الأمور الواجبة وغيرها – مثل الأحكام الفرديّة في بعض الحالات[17] – مما لا يمكن أداؤه في فرض وجود حكومة غير إسلاميّة حاكمة. لذا، يتوقّف تطبيق هذه الأحكام على وجود حكومة إسلاميّة، ويترشّح وجوب غيري من هذه الأحكام الفعليّة المطلقة على الحكومة الإسلاميّة، فتكون إقامة الحكومة الإسلاميّة واجبة عقلاً، بل شرعاً - أيضاً - بناء على الملازمة. وإلى هذا الدليل أشار الإمام الخميني(قده) ؛ حيث قال: « إن ضرورة تنفيذ الأحكام التي أوجبت تشكيل حكومة الرسول الأعظم (ص)، لم تكن خاصّة بعصر النبي (ص)، بل الضرورة مستمرة؛ لأن الإسلام لا يحد بزمان أو مكان؛ لأنّه خالد، فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيد به إلى الأبد».[18]
3.[19] واجب المسلمين: يمكن بيإنّه بقياس استثنائيّ، حاصله: لو كان قيام الحكومة ضرورة حتميّة في المجتمع، فواجب المسلمين إمّا إقامة حكومة إسلاميّة، وإمّا حكومة غير إسلاميّة، لكنّه يحرم على المسلمين إقامة حكومة غير إسلاميّة، فيتحتّم عليهم إقامة حكومة إسلاميّة. تفصيل الدليل: أما ضرورة قيام حكومة في المجتمع سواء أكانت إسلاميّة أم غيرها، فقد تقدّم منا توضيح ذلك في الدليل الأول، فراجع. وهذه مقدمة عقليّة. وأما إنّه يحرم على المسلمين إقامة حكومة غير إسلاميّة، فذلك لنكتتين: إن افتراض وجود نظام غير إسلامي يحقق العدل في حياة الناس، ولا يمارس الظلم والاضطهاد عليهم، ولا يتجاوز حداً من حدود الله، هو مجرد افتراض وهمي غير واقعي / حرمة ارتباط المسلم بدولة جائرة، ووجوب رفضها، ومكافحتها، وحرمة التعاون معها. وهذه مقدّمة شرعيّة. وسبب الحرمة هو أنّ كل نظام غير إسلامي يكون موضوعا لخمسة أحكام شرعيّة[20] / حرمة الركون والاطمئنان الى هذه الانظمة/ حرمة قبول سيادة الكافر على المسلم/ الكفر بالطاغوت ورفضه/ وجوب جهاد الطاغوت/ تحريم طاعة المسرفين/ ونتيجة هذه المقدمة الشرعيّة، هو تحريم الركون الى الظالمين، وحظر الانقياد لهم، وتحريم طاعتهم، ووجوب الكفر بهم، ورفضهم، وطردهم من مواقع القوة والسيادة في المجتمع. وأما النتيجة العقليّة للدليل، فهي وجوب إقامة الحكومة الإسلاميّة؛ لاستيفاء الضرورة المذكورة في المقدمة الاولى، واجتناب الارتباط بالطاغوت الذي تحدّثنا عن حرمته في المقدمة الثانية.
4. ضرورة وجود الحكومة بديهة عقلائيّة . وهذا الدليل مؤلّف من مقدميتن ونتيجة: المقدمة الأولى: من البديهي عند العقلاء ضرورة وجود حكومة لأيّ مجتمع/ المقدمة الثانية: الإسلام دين عقلي وعقلائي/ النتيجة: من البديهي عند الإسلام ضرورة وجود حكومة/ تفصيل الدليل: إن أيّ مجتمع يريد أن يعيش بصورة جماعيّة لا بدّ له من نظام وناظم، وهذا الواقع مشاهد عند غير البشر من المخلوقات كالنمل والنحل، فكيف بالإنسان الذي يتميز بمركّب العقل والشهوة؟! فمع عدم وجود نظام وناظم، لسادت الفوضى أرجاء المجتمع البشري، ولعمّ الهرج والمرج. ولما كان الإسلام دين عقليّ وعقلائيّ، كان من الضروري أن يحكم –تأسيساً أو إرشاداً- بضرورة وجود حكومة فيه. ولأنّه دين يريد تنظيم حياة البشر على ضوء تعاليم خاصّة، فإنّه سيحكم بضرورة كون الحكومة إسلاميّة حتى يصل الشارع إلى غرضه.
ثانياً: دلالة القرآن الكريم على وجوب إقامة الحكومة في عصر الغيبة: / 1. آيّة «شرع لكم»: يمكن الاستدلال على وجوب إقامة الحكومة بالآيّة الآتيّة: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه إن الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.[21] والدليل في الآيّة هو الأمر بإقامة الدين. ومعنى إقامة الدين هو:/ جعله قائما في المجتمع من خلال العمل به أفرادا وجماعات[22]/ جعله قائما في المجتمع من خلال الإيمان به[23]/ جعله قائما في المجتمع من خلال نشره[24]/ جعله قائما في المجتمع من خلال حفظه النظري وذلك عبر الاجتهاد/ جعله قائما في المجتمع من خلال دفع كل الموانع التي تمنع أو ستمنع من سيادة الدين في المجتمع، وإجبار الناس بالالتزام به[25] وإقامة الدين بالمعنى الذي بُيّن لا يمكن أن يتحقّق دون إقامة حكومة إسلاميّة، أو إنّها تستبطن إقامة حكومة إسلاميّة. والأول يتلاءم مع الدليل العقلي الثاني، أمّا الثاني فيدل على وجوب إقامة حكومة إسلاميّة دلالة تضمنيّة./ ولا يخفى أنّ هذا الأمر –بناء على الاحتمال الثاني - فعليّ مطلق من حيث الأفراد والأزمان،[26] والسياق يأبى التقييد بزمن دون آخر، وإلا وقع محلاً للاستهجان العرفيّ. ولعلّه إلى هذا الدليل أشار الشيخ المحسني؛ حيث قال: «فإن في معنى إقامة الدين كله معنى إقامة الحكومة الدينيّة لا محالة، فتجب بوجوبها، فافهم».[27]
2.[28] آيات الخلافة: يمكن أن يستدلّ على وجوب إقامة حكومة إسلاميّة بآيات الخلافة، من قبيل – قوله - تعالى -: { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }[29] بناء على أن المقصود من هذه الآيّة خلافة البشر لا خلافة شخص النبي آدم (ع)، وذلك بقرينة تخوّف الملائكة من جنس البشر لا من شخص آدم (ع). {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } [30] { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره } [31] { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } [32] { أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض } [33] والظاهر إنّ المراد من الخلافة هو خلافة الله - تعالى -؛ لأنّه لم يرد في الآيّة ذكر للمستخلَف عنه. فبقرينة بالعرف، لو قال متكلّم: جعلتك خليفة، ولم يذكر المستخلف عنه، فإن العرف سوف يفهم إنّه يقصد أن يجعلك خليفة عن نفسه. وأما فرض إنّه جعلك خليفة عن شخص آخر، فهو خلاف الظاهر ولو كان كذلك لذكره. وأمّا إنّه لو كانت هذه الخلافة هي خلافة الله - تعالى -، فإنّها تقتضي الحكم والإدارة، ويمكن تقريب ذلك بما يأتي:
لو ألقينا الخطاب إلى العرف، وقلنا له: لو قال حاكم البلد: إنّي جعلت فلاناً خليفة في ذلك البلد، فماذا تفهم؟ لأجابك العرف: إنّه جعل فلاناً حاكماً على البلد، فيحكم فيها على ضوء تعاليم الحاكم الأول. وفي المقام نقول، إن الله - تعالى - هو الحاكم الحقيقيّ لهذا العالم، فلو جعل الإنسان خليفة له في الأرض، فمعناه أنّه جعله حاكماً في الأرض يحكم على وفق تعاليمه، فالآيّة تدل على أن الله - تعالى - يريد من الإنسان أن يقيم حكومة على الأرض تطبّق تعاليمه وأحكامه. وما يظهر من الآيات أن هذه الإرادة شديدة وملزمة؛ بحيث لا تجتمع مع الترخيص بالترك، فنستفيد من ذلك حكم الوجوب؛ إذ بعض تلك الآيات[34] تدل على الإنشاء والطلب وإن كانت بلسان الخبر.
3. آيات الأحكام التي يتوقف امتثالها على وجود حكومة إسلاميّة: كما يمكن الاستدلال بآيات الأحكام الكثيرة التي يتوقف امتثال الأحكام فيها على وجود حكومة إسلاميّة، فيكون وجوب الحكومة هنا وجوبا غيريّاً لا نفسيّاً. فلو قلنا بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، لدلّت تلك الآيات بالدلالة الالتزاميّة على الوجوب الشرعي لإقامة حكومة إسلاميّة. ومن هذه الآيات نذكر:
أ. ما دل على وجوب إجراء الحدود الشرعيّة، مثل قوله - تعالى -: / - { يا أيها الذين امنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالانثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء اليه باحسان } [35]/ - { الزانيّة والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [36]/ - { السارق والسارق فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله } [37]/ ب. ما دل على معاقبة البغاة والمحاربين، مثل قوله - تعالى -: - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [38]
ج. ما دل على وجوب القتال، مثل قوله - تعالى -: - { وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } [39]/ - { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } [40]/ - { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } [41]
د. ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثل قوله - تعالى -: - { ولتكن منكم أمة يدعوون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[42] وذلك بعد ملاحظة أمرين:
الأول: إن الشارع لا يرضى بأن يحمل عامة الناس السلاح ويطوفوا في الأسواق لردع العاملين بالمنكر، فإن هذا يؤدّي إلى الهرج والمرج. فلا بد أن يتمّ من خلال جهاز خاصّ محدّد. ولعلّه إلى هذا أشارت الآيّة بقولها «أمّة»
الثاني: المنكر يشمل كل ما يمسّ عقائد الناس وأخلاقهم ونفسياتهم؛ كأجهزة الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي،ّ والأماكن العامة، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي لا يمكن ضبط إيقاعها إلا من خلال حكومة قادرة
هـ. الآيّة الدالة على وجوب الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق، وهي: - { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [43] يتوقّف امتثال هذا الحكم على وجود حكومة إسلاميّة بناء على أن الاعتصام المأمور به هو تكليف للمجموع، وله امتثال واحد وعصيان واحد. وهذا الاعتصام لا يمكن تحقيقه في مساحة من مساحات المجتمع دون مساحة أخرى، فإمّا أن يتحقق في كل المجتمع، وإمّا لا، والآيّة صرّحت بذلك؛ حيث قالت «جميعاً». وهذا التكليف لا يمكن تنفيذه إلا من خلال الهيئة الاجتماعيّة، وذلك عبر وجود حكومة قويّة ونافذة، تلزم الجميع بالتمسّك بحبل الله - تعالى -.[44]
ثالثاً: دلالة السنّة الشريفة على وجوب إقامة الحكومة في عصر الغيبة: يأخذ هذا المبحث حظّا ً وافراً من البحث، إلا أننّا أعرضنا عن ذكر الأحاديث الدالّة على وجوب إقامة الحكومة الإسلاميّة في عصر الغيبة؛ لأنّها سوف توردنا في بحث سندي طويل وفي عرض مفصّل للروايات. لذا، أعرضنا عن ذكر الروايات موكلين ذلك إلى محلّ آخر، واكتفينا بذكر دليلين يعتمدان على السنّة النبويّة اعتماداً قويّاً.
1. الأولويّة القطعيّة أو روح الشريعة: من خلال التأمّل في الروايات والأحكام الشريعة، نستكشف أنّ الأمور التي يهتم بها الشارع المقدس متفاوتة، فهناك ما يهتم به، وهناك ما يهتم به بدرجة أشدّ ولا يرضى بتركه. فالشارع يهتم بحفظ مال الصغير والمجنون - وإن كان قليلاً - ولا يرضى بإهماله. فهل يتصوّر مع ذلك أنّ الشارع يرضى بإهمال شأن الحكومة في عصر الغيبة – بعد الفراغ عن اهتمامه بها في عصر الحضور – مع ما لها من دخالة في حفظ كيان الإسلام، ودماء المسلمين وأعراضهم، وأموالهم، ونظامهم؟!
والجواب: يمكن القول: إنّ كلّ من اطّلع على الإسلام، سوف يُذعن بضرورة الاهتمام بشأن الحكومة؛ لأنّ أحكام الإسلام ليست مقصورة على العبادات الفرديّة فقط، بل تتعدّاها إلى سياسة المدن، وتنظيم المجتمع؛ كالحدود، والقصاص، والديات، والقضاء، والأحكام الماليّة، وغير ذلك. لكن، لأجل بُعدنا عن عصر النصّ من جهة، وبسبب الظروف التي حالت بين العلماء وبين تصديهم للسلطة من جهة أخرى، ضعف تمييزنا للضروريّ عن غيره.
2. الاستدلال بسيرة النبي (ص): من طالع سيرة النبي (ص)، يجده قام بأمرين يرتبطان بالحكومة:[45]
الأول: تشكيله لحكومة إسلاميّة في المدينة، وتزعّمه إدارة المجتمع، وتنفيذ الأحكام، وإدارة الأمور الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة
الثاني: استخلف بأمر من الله مَن يقوم بهذه المهام بعده، وهذا يكشف عن ضرورة استمرار الحكومة.
ولا توجد خصوصيّة العصمة في الحاكم؛ بحيث إن انتفت، لم يُعلم ضرورة بقاء التكاليف المرتبطة بإقامة الحكومة والمحافظة عليها؛ لأنّ العرف - بمقتضى مناسبات الحكم والموضوع - يرى أن استخلاف النبي(ص) لشخص يدلّ على ضرورة استمرار الحكومة. نعم، العصمة دخيلة في اختيار الفرد الحاكم، لكن لو لم يكن بين الأفراد المستخلفين القادرين على الحكم معصوماً، فهل يسقط تكليف القيام بأعباء الحكومة؟ فمن هذه الجهة، العرف لا يرى خصوصيّة للعصمة. وقد يؤيد ذلك قول أمير المؤمنين (ع(: «اللهم إنك تعلم إنّه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإن لم تنصرونا وتنصفونا، قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم»[46]. وإن أمكن من جهة أخرى أن يجعل هذا القول دليلا مستقلا بنفسه[47]
تنبيه: قد يقال: إنّه ما دام قد دل الدليل العقلي القطعي في الفصل السابق على ضرورة إقامة الحكومة، فما الحاجة إلى البحث عن الأدلة الشرعيّة المانعة؛ إذ إنّه من الواضح أنّ الدليل العقليّ القطعيّ مقدّم على الدليل الشرعيّ الظنّيّ. ومعه تنتفي الحاجة إلى ملاحظة النصوص الشرعيّة في المقام؟
والجواب: إنّ حكم العقل وإن كان قطعيّاً، إلا أنّ ذلك لا يعني إنّه لا يمكن أن يزلزل من خلال زلزلة إحدى مقدماته. نعم، إلى الآن كان الدليل العقليّ المذكور قطعيّاً، لكنّنا لا ندري إن لاحظنا النصوص المرتبطة بالمقام، هل يتزلزل ذاك الدليل القطعيّ أم لا؟ فلو تزلزل، فإنّنا نحكم على طبق النصوص الشرعيّة، وإن بقي على قطعيّته رفعنا اليد عن تلك النصوص، وبحثنا عن مكمن الخلل فيها؛ من حيث الصدور والدلالة والجهة. ولا يخفى أنّ هذا كلّه على مستوى التصوّر، وإلا إثباتاّ، لا يحصل تصادم - أصلاّ - بين الدليل العقليّ والشرعيّ، فلا نحتاج إلى بيان الخلل في أحدهما والتوفيق بينهما، بل قد يكون بين الدليل العقليّ والدليل الشرعيّ كمال الملاءمة والموافقة.
رابعاً: مناقشة ما ادّعي دلالته على عدم وجوب إقامة الحكومة في عصر الغيبة: 1. الروايات المانعة من الجهاد وتقريره بأن يقال:
المقدمة الأولى:إنّ إقامة الحكومة في عصر الغيبة تتوقف على الجهاد والحرب الابتدائيّة
المقدمة الثانية: وردت أدلّة محرّمة للجهاد والحرب في عصر الغيبة
النتيجة: تُحرَم إقامة الحكومة في عصر الغيبة؛ لأنّها متوقفة على أمر محرّم
تفصيل الدليل: المقدّمة الأولى تامّة عقلائيّاً؛ إذ كيف يمكن لشعب أن ينتفض على الحكومة الفعليّة فيسقطها ويأتي بحكومة إسلاميّة مكإنّها دون أن ينجرّ إلى المجابهة والاشتباك؟!
وأما المقدمة الثانية، فتدل عليها نصوص عدة، منها: - ما رواه الكليني عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سُوَيْدٍ الْقَلَانِسِيِّ عَنْ بَشِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: إِنَّ الْقِتَالَ مَعَ غَيْرِ الْإِمَامِ الْمُفْتَرَضِ طَاعَتُهُ حَرَامٌ مِثْلُ الْمَيْتَةِ وَ الدَّمِ وَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فَقُلْتَ لِي: نَعَمْ، هُوَ كَذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع): هُوَ كَذَلِكَ، هُوَ كَذَلِكَ.[48]
تقريب الاستدلال: يقرّ الإمام (ع) للراوي بأن القتال مع غير الإمام المفترض الطاعة حرام، والإمام المفترض الطاعة هو المعصوم (ع)، وفي زمن غيبة الإمام (ع)، كلّ قتال هو مع غير الإمام (ع)؛ لأنّه غائب، فيحرم القتال والجهاد في زمن الغيبة.
- ما رُوي في كامل الزيارات؛ حيث قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصَمِّ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّه(ع): جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَيُّمَا أَفْضَلُ الْحَجُّ أَوِ الصَّدَقَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ فِي مَسْأَلَةٍ- قَالَ: كَمِ الْمَالُ يَكُونُ مَا يَحْمِلُ صَاحِبَهُ إِلَى الْحَجّ؟ِ قَالَ: قُلْتُ لَا. قَالَ: إِذَا كَانَ مَالًا يَحْمِلُ إِلَى الْحَجِّ، فَالصَّدَقَةُ لَا تَعْدِلُ الْحَجَّ. الْحَجُّ أَفْضَلُ، وَ إِنْ كَانَتْ لَا يَكُونُ إِلَّا الْقَلِيل،َ فَالصَّدَقَةُ. قُلْتُ: فَالْجِهَادُ؟ قَالَ: الْجِهَادُ أَفْضَلُ الْأَشْيَاءِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ فِي وَقْتِ الْجِهَادِ. وَ قَالَ: وَ لَا جِهَادَ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ[49].
تقريب الاستدلال: لا جهاد مشروع وجائز إلا مع الإمام. والمراد بالإمام هو الإمام المعصوم (ع). وفي عصر غيبة الإمام (ع)، لا يكون الجهاد مشروعاً ولا جائزاً. والإمام (ع) في مقام البيان، فحتى لو لم نقل بمفهوم الوصف، فإنّه يحرم الجهاد مع غير الامام. فالإمام بصدد بيان مشروعيّة الجهاد.
الجواب: أولاً: نناقش في المقدمة الأولى، فلا نسلّمها. فقد تتحقق حكومة إسلاميّة بلا جهاد وحرب ابتدائيّة. وهذا نظير ما حصل في الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران؛ حيث لم تحصل مواجهة ابتدائيّة. نعم، ما حصل من اشتباكات كان في مقام الدفاع لا الهجوم، وهو أمر مشروع... ثانياً: نقاش في المقدمة الثانية مع كل من الروايتين:
أما الرواية الأولى: فمن حيث السند: يشكل الأمر في بشير فهو مشترك بين مجاهيل وغيرهم. لكن قد يقال بتماميّة السند. فبشير المراد هنا هو الدهان الذي روى عنه صفوان الذي لا يروي إلا عن ثقة. والشاهد على كونه الدهان هو ورود نفس الحديث بسند مرسل عن علي بن النعمان عن سويد القلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (ع). كما أن سويد القلا يروي في أكثر من مكان عن بشير الدهان.
أما من حيث الدلالة: لا يخفى أن المراد من الإمام في هذه الرواية هو خصوص الإمام المعصوم (ع)؛ بسبب تقييده بالمفترض الطاعة. ولكن مع ذلك، في هذه الرواية احتمالات عدة، قد يُدّعى حصول الإجمال بسببها، فتسقط الرواية عن الحجيّة. كما إنّه لا قدر متيقن بين هذه الاحتمالات حتى يقال بحجيته. وهذه الاحتمالات هي: أن تكون الرواية ناظرة إلى خصوص الجهاد الابتدائي، بمعنى الهجوم على الكفار في بلادهم. ولعله هذا ما يُفهم من لفظ القتال
يحتمل أن تكون ناظرة إلى ما هو أعم من الجهاد الابتدائي. نعم، يمكن القول بالانصراف عن الدفاع بمعنى صدّ الهجوم
أن يكون الإمام (ع) بصدد الردع عن القتال مع الثائرين في ذلك الزمن، فتكون القضيّة خارجيّة.
لكن قد يقال: إنّ الظاهر من لفظ القتال هو مطلق قتال، وإنّ تلك الاحتمالات التي ذكرت هي مخالفة للظاهر، فيتمسّك بإطلاق لفظ القتال؛ لمنع القتال مع غير المعصوم (ع). ثم إنّ قبول الانصراف عن الدفاع بمعنى صد الهجوم، لا يغيّر من الاستدلال، فتبقى الرواية دالة على حرمة القتال مع غير المعصوم (ع). فإن توقف قيام الحكومة على القتال، حرم؛ لأنّه يستلزم الوقوع في الحرام. إلا أن يدّعى أنّ ملاك وجوب إقامة الحكومة أقوى من من ملاك حرمة القتال فيقدم؛ عملاً بقواعد باب التزاحم. ثم لو تنزّلنا وسلّمنا بتماميّة الرواية سنداً ودلالةً، وقلنا إنّها تدلّ على حرمة الجهاد في عصر الغيبة، فإنّ ذلك لا يضرّ لأمرين:
الأول: يمكن أن يقال: إن إسقاط الحكومات المعاديّة للإسلام دفاع عن بيضة الإسلام وداره، وهذا الأمر لا شك في وجوبه. وإضافة إلى ذلك، فقد دلّت عليه بعض الروايات؛ من قبيل رواية يونس الآتية[50]:
«قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلّا أن يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين، لم ينبغ لهم أن يمنعوهم، قال: يرابط ولا يقاتل، و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد (ص)»[51]. نعم، بناء عليه يصير وجوب إقامة الحكومة منوطاً بالخوف على بيضة الإسلام وداره.
الثاني: حتى لو حُمل الإمام في هذه الروايات على الإمام المعصوم (ع)، إلا إنّه لو تمّ لنا دليل على أنّ ما للإمام هو للفقيه، فهذا يكون حاكما على تلك الروايات بملاك النظر
أما الرواية الثانية: فمن حيث السند: ضعيفة بعبد الرحمن الأصم وجدّه. ومن حيث الدلالة: يرد عليها أن حمل الإمام على خصوص المعصوم (ع) في غير محلّه؛ لأنّه اصطلاح حادث، ويشهد على ذلك أيضاً تقييد الإمام بالعادل في بعض النصوص. هذا، وإن لم يُسلّم بذلك، فقد يُدّعى وجود إجمال فيها، فتسقط عن حجيتها.
ثالثا: لو سلّمنا المقدمة الثانية. لكن، ليس كل ما يتوقف على أمر محرّم يكون محرّماً، بل قد يكون المتوقّف على المحرّم مساوياً في ملاكه للمقدّمة، فيُتخيّر ويتم المطلوب، وقد يكون أهمّ ملاكاً من المقدّمة ومأموراً به، فيقدّم لأهميّته.
نعم، تبقى الصغرى؛ وهي معرفة درجة الملاك. فهل وجوب إقامة الحكومة الإسلاميّة أقوى ملاكا من حرمة الجهاد والحرب في عصر الغيبة، أو مساويا لها، والعكس؟
ولاستكشاف الملاك، لا بدّ من ملاحظة النصوص الشرعيّة، حتّى يمكن تقديم أحدهما على الآخر، ودعوى أنّ ملاك إقامة الحكومة مقدّم، لها وجه.
2. المنع عن الخروج قبل قيام القائم وهذا الدليل مؤلف من صغرى وكبرى: الصغرى: إقامة الحكومة في عصر الغيبة هو خروج قبل قيام القائم[52]الكبرى: كل خروج قبل قيام القائم منهي عنه ويستدلّ على الكبرى بطوائف عديدة من الروايات، سوف نستعرض أهمّها ونكتفي به؛ لأن ما سوف يذكر في مناقشتها، يُدفع به الاستدلال بسائر الطوائف.
الطائفة الأولى: الرواية التي تستثني زيدا: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيىٰ، عَنْ عِيصِ بْنِ الْقَاسِمِ[53]، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّٰهِ (ع) يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللّٰهِ وَحْدَهُ لَاشَرِيكَ لَهُ، وَانْظُرُوا لِأَنْفُسِكُمْ، فَوَ اللّٰهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الْغَنَمُ فِيهَا الرَّاعِي، فَإِذَا وَجَدَ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ بِغَنَمِهِ مِنَ الَّذِي هُوَ فِيهَا يُخْرِجُهُ، وَيَجِيءُ بِذٰلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ بِغَنَمِهِ مِنَ الَّذِي كَانَ فِيهَا، وَاللّٰهِ لَوْ كَانَتْ لِأَحَدِكُمْ نَفْسَانِ يُقَاتِلُ بِوَاحِدَةٍ يُجَرِّبُ بِهَا، ثُمَّ كَانَتِ الْأُخْرىٰ بَاقِيّة، فَعَمِلَ عَلىٰ مَا قَدِ اسْتَبَانَ لَهَا، وَلٰكِنْ لَهُ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ إِذَا ذَهَبَتْ فَقَدْ وَاللّٰهِ ذَهَبَتِ التَّوْبَةُ ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، إِنْ أَتَاكُمْ آتٍ مِنَّا ، فَانْظُرُوا عَلىٰ أَيِّ شَيْءٍ تَخْرُجُونَ، وَلَا تَقُولُوا: خَرَجَ زَيْدٌ؛ فَإِنَّ زَيْداً كَانَ عَالِماً وَكَانَ صَدُوقاً، وَلَمْ يَدْعُكُمْ إِلىٰ نَفْسِهِ، إِنَّمَا دَعَاكُمْ إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام، وَلَوْ ظَهَرَ لَوَفىٰ بِمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ، إِنَّمَا خَرَجَ إِلىٰ سُلْطَانٍ مُجْتَمِعٍ لِيَنْقُضَهُ، فَالْخَارِجُ مِنَّا الْيَوْمَ إِلىٰ أَيِّ شَيْءٍ يَدْعُوكُمْ؟ إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام، فَنَحْنُ نُشْهِدُكُمْ أَنَّا لَسْنَا نَرْضىٰ بِهِ ، وَهُوَ يَعْصِينَا الْيَوْمَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَهُوَ إِذَا كَانَتِ الرَّايَاتُ وَالْأَلْوِيّة أَجْدَرُ أَنْ لَايَسْمَعَ مِنَّا إِلَّا مَعَ مَنِ اجْتَمَعَتْ بَنُو فَاطِمَةَ مَعَهُ، فَوَ اللّٰهِ مَا صَاحِبُكُمْ إِلَّا مَنِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ رَجَبٌ ، فَأَقْبِلُوا عَلَى اسْمِ اللّٰهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَتَأَخَّرُوا إِلىٰ شَعْبَانَ فَلَا ضَيْرَ، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ تَصُومُوا فِي أَهَالِيكُمْ فَلَعَلَّ ذٰلِكَ أَنْ يَكُونَ أَقْوىٰ لَكُمْ، وَكَفَاكُمْ بِالسُّفْيَانِيِّ عَلَامَةً[54].
تقريب الاستدلال: إن الإمام (ع) في هذه الرواية ينهى أصحابه عن الخروج قبل قيام القائم(عج) في رجب، ويصرّح لهم إنّه لا يرضى عن أي خارج اليوم وإنّه عاص لهم (ع). مناقشتها: يظهر من الرواية أن الإمام (ع) لم ينههم عن الخروج مطلقا، بل قال لهم: «إن أتاكم آت فانظروا على أي شيء تخرجون»، فلو أراد نهيهم لما دعاهم إلى النظر إلى هدف الخارج. ولا يقال: نسلّم بذلك، لكن الإمام (ع) تصدّى لتشخيص الصغرى، وأنبأ عن عدم تحقّقها إلا في الإمام القائم(عج). فإنّه يقال: هذا حصر إضافي بلحاظ من كان في ذلك الزمان؛ لوجود قرينتين:
الأولى: تعليل الإمام (ع) رضاه بخروج زيد؛ حيث قال (ع): « إِنَّمَا دَعَاكُمْ إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام، وَلَوْ ظَهَرَ لَوَفىٰ بِمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ»
الثانية: عدم نهي الإمام (ع) عن الخروج مطلقاً، ودعوته إلى النظر في أهداف الخارج
فيصبح المراد من هذه الرواية، أنّ الإمام (ع) ينهى عن اتّباع الشخص الذي يقوم لنفسه أو لأهداف غير مشروعة.