بحث مدرج في العدد 33 من مجلّة الكلم الطيّب الصادرة عن ممثّلية جامعة المصطفى (ص) العالميّة في لبنان
علي عابد[1]
مقدّمة:
{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَاب َبِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ِبمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَ لَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }[2].
رسول الله محمد (ص) رجلٌ مكلّف بمهمّة ورسالة إلهيّة ومشروع إلهي يعود بنا إلى التفكّر في فلسفة الخلق، يريد رسول الله(ص) إرساء الإيمان بالله وتوحيده، ويحمل عقيدة صلبة لا يطاولها التشكيك والنقاش، ولا تقبل التجزيء. هذا من حيث المبدأ، أمّا من حيث التحرّك، فالهدف الإلهي النبوي يجب أن يتحقق بمنتهى الواقعيّة والموضوعيّة، لا أن يسخّر له الإعجاز الخارق للطبيعة كوسيلة أصيلة: { وَلَوْشَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْت تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين }[3]. وأيضاً يجب ألّا تُقدم في سبيل العمل الرسالي تضحيات لا طائل منها فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَايُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[4]، وألّا يكون هناك أي تقصير أو تهاون { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَايُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[5].
إنّ مهمة الجمع بين صلابة العقيدة وإتقان السياسة هي من أعقد المهامّ التي واجهت كل من تصدّى لقيادة التحرّكات السياسيّة الضخمة في كل المجتمعات وعلى طول التاريخ.
هذه المقالة محاولة لتسليط الضوء على مهمّة رسول الله(ص)، وإن لم نستطع اكتشاف كامل الإتقان والحكمة التي امتلكهما رسول الله(ص)، ولكنّ هذا البحث يمكن أن يشكَّل نظرة عابرة على التحرّك السياسي لرسول الله(ص) في مواجهةالخصوم السياسيين على طول فترة بعثته، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المقالة لاتتضمّن ذكر مجريات الأحداث فذلك موكول إلى كتب السيرة، إنماتستعرض الأحداث بما يكفي لإلقاء نظرة تحليليّة سياسيّة عليها.
موضوع التحليل السياسي للسيرة النبويّة من أقل المواضيع التي تطرّق لها الباحثون، وقلّما يجد المُطالع من الكتب ما يتناول هذه المسألة، بالتالي تواجه الباحث مشكلة قلّة المراجع والمصادر.
إن الاستنتاجات في آخر كل محور هي محاولة تساهم في زيادة معرفتنا برسول الله (ص)، وخصوصاً الاطّلاع على الشخصيّة السياسيّة النبويّة الرساليّة.
تمهيد.
من الناحية الجيوسياسيّة كانت شبه الجزيرة العربية بالتأكيد موقعاً ملائماً للغاية لبعثة الرسالة المحمديّة، حيث انعدم وجود أي سلطة مركزيّة يمكن أن تعتمد القمع والإرهاب ضد أي حركة ناهضة عادلة تواجهها. فقد وجدت في تلك المنطقة المئات من القبائل المتناحرة والمتحاربة، إضافةً إلى ذلك كان موقع جزيرة العرب مانعاً طبيعياً ضد أي محاولة اقتحام من قبل الدول العظمى آنذاك، وأيضاً لم يكن فيها أي مطمع اقتصادي قوي[6]، وهذا يعني وجود إمكانية حقيقيّة لنجاح الرسالة المحمديّة، ولكن لا يعني أن الساحة خالية من الأعداء الذين يمكن أن يجهضوا حركة رسول الله. هنا واجه رسول الله (ص) على امتداد بعثته المباركة ثلاثة محاور معادية لحركته ورسالته الإلهية:
المحور الأول: قريش، ويُلحق بالحزب القرشيّ معظم باقي قبائل العرب بالتبعيّة. وهذا المحور هو الأشدّ بأساً على الحركة الإسلاميّة، وظلّ يحاربها حتى بعد سيطرة المسلمين على مقاليد الأمور وبسط سلطة الإسلام على مكّة معقل قريش.
المحور الثاني: محور النفاق المدنيّ، ويمثّل المشركين من أهل يثرب الذين بادروا إلى معاداة الإسلام، ثمّ سارعوا إلى الدخول ضمن جسم مجتمع المسلمين لأسباب تأتي في محلّها، واستمرّوا - وهم ضمن المجتمع - بمحاربة الإسلام وهدم الواقع الذي فرضه، وشكّلوا محوراً معادياً حقيقياً.
المحور الثالث: اليهود، فهم امتلكوا بنية اجتماعية واقتصادية وشبه سلطة سياسية في مناطقهم، وشكّلوا محوراً معادياً للحركة الاسلامية. ويُعدّ الأخطر بعد محور قريش.
وتجدر الإشارة إلى أن الرسول واجهته أطراف أخرى مثل جبهة الروم والفرس، أو قبائل العرب غير المتحالفة مع قريش، وهي منتشرة في أرجاء جزيرة العرب. ولكن هذه الأطراف لم تشكّل تحديّا حقيقياً وخطيراً.
أولاً:حركة المواجهة مع قريش:
قريش قبيلة كانت لها قوة مهيبة وسيادة اقتصاديّة وأدبيّة وصلت إلى حدِّ التقديس؛ فهي ذرية إسماعيل وحماة الحرم وأهله، وسدنة الكعبة والأصنام وأهل الشعائر. وهي الأكثر عدداً[7]، والأقوى عتاداً والأغنى مالاً؛ فهي تسيطر على أكبر تجارة في الجزيرة العربية، وتتحكم بشبه سلطة سياسيّة بموجب تحالف الإيلاف[8].
كل ذلك أعطى لقريش مكانة سياسية واجتماعية واقتصادية جعلتها تستكبر عن قبول الدعوة النبويّة الإلهيّة التوحيديّة. فهي دعوة إلى التوحيد ونسف مفاهيم المجتمع الجاهلي القائمة، وأولها عبادة الأصنام. وإنّ حلول دين جديد في معقل الجاهلية والشرك سوف يزلزل هذا الوضع القائم، ويطيح بمكانة قريش والقوة الاقتصادية التي وصلت إليها. خصوصاً أنّ دعوة التوحيد سوف تستتبع نسف الشأنيّة الخاصّة والفوقيّة لقريش، وفرض قيم المساواة وحماية الحقوق وحرمة ظلم الضعيف. ثم إنّ القيم الدينيّة بذاتها ليست مقبولة عند مجتمع جاهلي اعتاد الظلم والإغارة والسلب والربا والفحش والتفلت من الضوابط. هذا المجتمع بطبيعته سيهاجم أي دعوة للقيم العادلة السامية.
إذاً، استشعرت القيادات الحاكمة في قريش الخطر من هذا الدين، بل واعتقدت أنّ رسول الله (ص) يطمح للرئاسة. فهنا يخاطب جمعٌ من سادة قريش رسولَ الله(ص) ويقولون له: " يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فلا نعلم أحداً أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآلهة وعِبتَ الدين وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة، فإن جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسوّدك، وإن كنت تطلب ملكاً ملّكناك"[9]، ويقول لهم أحد رجالهم، وهو عقبة بن أبي معيط: "اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا على دينكم وتحمّلوا المشاقّ لأجله، فإن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد أمرٌ يُراد به زوال نعمة أو نزول شدّة"[10]. فالخوف من اضطراب الوضع القائم والضامن لمصلحة هؤلاء النخبة هو أحد أهم أسباب رفض الدعوة النبويّة كما هي الحال في أي مجتمع آخر.
بادرت قريش، إذاً، إلى معاداة رسول الله (ص) ومحاربته، لتبدأ بذلك حقبة من الصراع طيلة بعثته الممتدة على ثلاثة وعشرين عاماً. ويستمر هذا الصراع إلى ما بعد استيعاب الإسلام لقريش. وفيما يأتي نستعرض أبرز محطّات المواجهة:
1.الهجرة إلى الحبشة:
يمكن اعتبار الهجرة إلى الحبشة أول خطوة للمواجهة. والهجرة حركة سلبية، بمعنى أنّها ليست ردّاً عملياً على قريش، بل هي حركة تراجع ظاهري لرفع الضغط عن المسلمين وحرمان قريش من الاستفادة من وحشيّتها وقمعها. يقول(ص): "لوخرجتم إلى الحبشة فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد..."[11]
2.الهجرة إلى يثرب:
هي مرحلة الانتقال الى القاعدة الآمنة؛ حيث يعتبر الوصول والاستناد إلى القواعد الآمنة أهم خطوة تمرُّ بها المواجهة الاستراتيجية.
يُلاحظ أنّ رسول الله (ص) قام بفعالية سياسية نشِطة منذ وصوله إلى يثرب، وتصرّف في الأمور على أنّه في موقع القوّة، على عكس ما توحي حالته للمراقبين من أهل يثرب واليهود وقريش، فعمد إلى بناء المسجد النبوي، أول مركز قيادة في الإسلام، وأعلن مواقيت الصلاة وشرّع الأذان، ثم قام بحركة مؤاخاة المهاجرين والأنصار في محاولة لنسج علاقة مجتمعية قائمة بديلة عمّا قبل الإسلام، تمكّنهم من مواجهة التكتّلات المحيطة بهم.
وفي سياق تصدّره للمشهد والأخذ بزمام المبادرة أصدر رسول الله(ص) نصوصاً تشريعية تحكم علاقة المسلمين بعضهم ببعض. وفي ما بعد أصدر مواثيق تحكم العلاقة مع المشركين وأخرى مع اليهود[12]. وتلا ذلك تواصله مع قبائل العرب المحيطة ليأمن جانبها من خلال موادعة قبيلة ومصاهرة أخرى وتهديد غيرها.
3. الضغط وتهديد المصالح:
ينتقل رسول الله (ص)- وهو في موقع الدفاع - بعد مرحلة الاستقرار، إلى خطوة متقدّمة في المواجهة، وهي الضغط على قريش عبر محاصرة طريق التجارة عِماد اقتصاد مكّة؛ فقد كانت يثرب تقع على طريق الشام، وهذا يعني بوضوح تهديد مصالح قريش الاقتصادية وإمساكها من يدها التي تؤلمها. فرسول الله (ص) يريد الضغط على قريش ودفعها إلى التفاوض والمهادنة والصلح؛ يريد منها الاعتراف بوجود الإسلام، والكفّ عن العدوان على المسلمين واستلاب أملاكهم وملاحقتهم، وأن تُخلّي بين المسلمين وسائر أهل جزيرة العرب، وضمان عدم الاعتداء على من يدخل الإسلام منهم، وعدم استغلال سطوتها وجبروتها في الإساءة لرسول الله والتشهير به أمام العرب كما تفعل في مواسم الحج والأسواق، وتقول إنّه ساحر أو مجنون، وإنّ القرآن هو أساطير منقولة، وغير ذلك. لا سيما أن كلام قريش معتبر عند من يسمعها، فهي عشيرة النبي وهي أدرى به.
إن تهديد تجارة قريش وتحويل طرقها وخصوصاً طريق الشام إلى منطقة مضطربة، فضلاً عن غايات الأمن وفرض الهيبة الرادعة أمام محيط المدينة المنوّرة الفتيّة، وضرورة الإعداد العسكري لمواجهة أي عدوان محتمل من قريش، كل ذلك اقتضى إنشاء السرايا العسكرية الأولى، وبدأت معها ما تسمّى (حملات السرايا). ولم يحدث في هذه الحملات أي اشتباك مسلّح بين المسلمين وقريش، بل كانت أوامر رسول الله(ص) واضحة بعدم التعرّض.
4. سريّة الحمزة بن عبد المطّلب(رض):
جاءت قافلة قريش من الشام تريد مكّة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجرة النبي (ص)، وفيها أبو جهل في ثلاثمئة راكب من أهل مكّة. فعقد رسول الله (ص) لواءً للحمزة بن عبد المطلب، وكان أول لواء عقده بعد أن قدم المدينة[13]، وبعثه إلى ساحل البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد. فلقيَ أبا جهل بذلك الساحل في ثلاثمئة راكب من أهل مكّة، وكان مجدي بن عمرو الجهني موادعاً للفريقين فحجز بينهم[14].
ومجدي الجهني كان من شبكة الإيلاف التي حاكتها قريش عبر مئات السنين لحماية قوافلها، ومع ذلك فقد وقف موقفاً محايداً، ممّا يدل على نجاح سياسة فرض الهُدن التي سلكها سابقاً مع قبائل العرب المحيطة.
5.مرحلة الصدام العسكري:
أ. معركة بدر الكبرى:
في السنة الثانية للهجرة صعّد رسول الله (ص) تهديده لتجارة مكّة، ودعا المسلمين للخروج والتعرّض لقافلة ضخمة قادمة لقريش من أجل استرداد أموالهم التي استولت عليها قريش عندما هاجروا إلى المدينة. فقال (ص): "هذه عير قريش فيه أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها"[15]، وذلك بعد نزول الإذن الإلهي{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بغَيْرِحَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِع وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَر ُفِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }[16]. والآية صريحة بأن موقف المسلمين دفاعي، وأنّهم مظلومون أُخرجوا من ديارهم. وكانت كل السرايا التي أرسلها رسول الله للتهديد والضغط، وإلّا فإنّ رسول الله (ص) لم يكن ليخوض حرباً في سبيل قافلة تجارية.
هذا بالإضافة إلى أنّ الاستيلاء على القافلة هو بمثابة استرداد أموال المسلمين والتعويض عن ديارهم المسلوبة التي خسروها بسبب التهجير. ثُمَّ إن القافلة بقيادة أبي سفيان نجت من كمين جيش المسلمين عندما انحرفت عن الطريق عمداً ولكنّها قبل ذلك أرسلت إلى مكّة تستنفرهم، ووصلت القافلة آمنةً إلى مكّة وأرسلت خبر وصولها إلى حشود قريش التي ذهبت لنجدتها، لكنّها تغطرست وعزمت على شنِّ عدوان كبير على المسلمين بعدد من المقاتلين يقارب التسعمئة، في مقابل ثلاثمئة ونيّف من المسلمين. فكانت معركة بدر الكبرى على رأس ستة عشر شهراً من مقدم رسول الله المدينة[17]. وانهزمت قريش فيها شرّ هزيمة، لتبدأ بعد ذلك سلسلة عدوانية شاملة.
ب. معركة أُحد:
بعد الانتصار الإلهي الحقيقي في بدر أصابها الوجوم، وقد أُطيح بجبروتها وارتعبت؛ فقد أقفل المسلمون طريق التجارة وحاصروها حتّى الخناق، وتهددت سيطرة قريش على أسواق الجزيرة العربية والأقاليم المجأورة. يُعبِّر عن ذلك قول صفوان بن أميّة لرجال قريش: " إنّ محمداً وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا فما ندري من أين نسلك، وإن أقمنا نأكل من رؤوس أموالنا ونحن في دارنا هذه فلم يكن لنا بقاء، إنّما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى الحبشة"[18]. فشنّت قريش ثاني عدوان لها وقامت معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة للنصف من شوّال[19]، وتمكّنت في هذه المعركة من ضرب المسلمين وتكبيدهم خسائر مؤلمة؛ حيث استشهد سبعون مقاتلاً من المسلمين منهم الحمزة (رض)، لكنّ رسول الله والمسلمين استطاعوا امتصاص الصدمة ولم تتفاقم الخسائر بنحوٍ خطير.
ج. معركة الأحزاب:
فيها كان العدوان الثالث الذي تشنّه قريش، وهو أعظم وأقوى حشد تتوصّل إليه جبهة الشرك بأطرافها المختلفة، من قريش واليهود وقبائل العرب المشركة؛ حيث بلغ الحشد عشرة آلاف مقاتل[20]، منهم ألفا راكب يشكّلون قوّة اقتحام ضاربة للمدينة. وامتدّت هذه المعركة من ذي القعدة في السنة الرابعة إلى أوائل السنة الخامسة للهجرة[21]. يقول الإمام علي (ع): "إنّ قريشاً والعرب تجمّعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهتها حتّى تقتل رسول الله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطّلب"[22]. انهزم جيش الكفر نتيجة عوامل عديدة، منها: انعدام وحدة القيادة، فقريش يقودها أبو سفيان، وكل قبيلة يقودها رئيسها، واليهود لهم قادتهم. ومنها انعدام وجود خطّة حربية موحّدة، وانعدام وحدة الهدف في ما بينهم، وابتعادهم عن أرضهم ومراكز تموينهم. بينما امتلك المسلمون وحدة القيادة والهدف وأفضلية الموقع، ثُمَّ عمدوا إلى حفر الخندق الذي شكّل حاجزاً حصيناً، الأمر الذي أدى إلى انسحاب قريش بعد أن وصلت إلى السقف الأعلى في حشدها ضد المسلمين.
إنّ عدم تمكّن هذا التحالف العريض من تحقيق أهدافه، وثبات جبهة المسلمين وجمود القدرة على الحسم العسكري من الطرفين، يؤشِر إلى وصول الأمور إلى مرحلة التوازن العسكري، عبّرعن ذلك رسول الله (ص)بقوله: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا[23]". وقال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"[24]
6. التحرّك لقلب موازين القوى:
كان على رسول الله (ص) القيام بعدة خطوات باتّجاه قلب موازين القوى من أجل الانتقال إلى الحسم النهائي والسيطرة على معقل الشرك عند قريش في مكّة. هنا تتوزّع على الساحة أربع قوى هي قريش وقبائل العرب و اليهود و المسلمون، إنّ الطرف الذي يمكن ضمّه للإسلام وبالتالي تحقيق التفوّق من خلاله هو قبائل العرب ثم يكون المطلوب شقّ صف قريش واليهود للقضاء على كلا الطرفين الواحد تلو الآخر.
إنّ حالة التردد والانتظار مسيطرة على قبائل العرب، وكان على رسول الله (ص)أن يحلّ هذه العقدة عندهم بإيجاد حالة من الهدنة مع قريش وانتزاع اعتراف رسمي منها، فتكون بذلك فاتحة مرحلة استقطاب العرب إلى دعوة رسول الله (ص) تدريجياً. وقريش بعد الضغط الكبير الذي فرضه رسول الله عليها بسيطرته على طرق التجارة وعدم قدرتها على فكّ الحصار، وصلت إلى حالة من التسليم بوجود الإسلام، واستحالة استئصاله بعد صدّه لثلاثة حروب متتالية، وهزيمة قريش فيها. وقد أخذت الحرب من قريش خيرة أبنائها ولم يعُدلها القدرة على استنفار عسكري، فلن يقدّم لها العرب واليهود أكثر ممّا قدّموا، وبالتالي هي تعيش أزمة وتبحث لها عن حل. وكان على رسول الله (ص)أن يرمي إلى قريش طوق النجاة. والطريق إلى ذلك هو أن يتحرّش المسلمون بقريش بحالة لا بدّ فيها من التفاوض، وفي هذا الصدد صدر قرار من رسول الله (ص) بالتوجّه إلى مكّة لأداء العمرة، وهذا سيكون تحدّياً لقريش وإقداماً جريئاً؛ فهو جاء معتمراً مسالماً، وهم أهل الحرم وحماته، ولا يريد رجال قريش أن تذمّهم العرب قاطبة في حال صدر منهم أي عدوان، فلا يمكنهم أن يُطيحوا بمكانة الحرم والشعائر وهتكها، وهم المؤتمنون عليها، وكذلك لا يقبلون بدخول المسلمين إلى عقر دارهم – مكّة، فتقوى بذلك شوكتهم وتتناقل العرب خبرهم وينحطُّ جبروت قريش؛ فكان لا بد من المفاوضات، وجرت المفاوضات التي أفضت إلى صلح الحديبية التاريخي في السنة السادسة للهجرة.
استفاد رسول الله (ص) من الأجواء التي حصلت بعد الصلح في نشر الدعوة، وحقّق ما كان يريده منذ بداية فرضه الضغط على قريش، وتهديد تجارتها كما ذكرنا، وبعد مُضي عامين على صلح الحديبية، وقريش سيّدة الشرك والوثنية تشاهد حركة رسول الله المطّردة والمتنامية، ومعسكر الإسلام يمتد ويدخله الناس من كل حدبٍ وصوب، وقد أحاط بقريش من كل جانب، بل وقد تم القضاء على حلفائها اليهود، وهي لا تحرّك ساكناً بحكم الصلح المعقود. فانقلبت موازين القوى انقلاباً حقيقياً.
بقي رسول الله (ص) منتظراً من قريش أن تنقض الإّتفاق ليصير في حلٍّ منه، ويبدو أنّ النكسة الجزئية التي أصابت المسلمين في غزوة مؤتة كانت القشّة التي قصمت ظهر الاتّفاقية، فقد تحفّز في قريش تيّار يرى أنّ هذا الصلح جمّد قريش عسكرياً وسياسياً، وتركها تنصرف إلى تجارتها. وعبّر عن ذلك عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، وانبعثت في هؤلاء الجرأة على نقض الصلح[25].
7 . فتحُ مكّة:
قبل الكلام على التحليل السياسي لا بد من التعرّض إلى فكرة عنوانها الطفرة الاجتماعية؛ فقد كان الناس يقبعون في جاهلية متجذّرة لقرون من السنين، وتشرّبوا بكل عاداتها. ورسول الله قام بانقلاب حادّ وجذري خلال فترة سريعة (ثلاثٍ وعشرين سنة)، كانت طفرة وتحوّلاً مصيرياً في حياة الإنسان العربي. والمنطق لا يمنع وقوع الطفرة الاجتماعية، ولا يمنع أن ينقلب الناس من الشرك إلى الإيمان خلال فترة قصيرة، ولكنّ هذه الطفرة تكمن فيها خطورة عالية، وهي أنّها لا تعبّر عن رسوخ العقيدة واستحكامها في وجدان الإنسان؛ فإنّه حتّى تركُزَ العقيدة وتترسّخ يجب أن يتحقق عمل تربوي على مدى أجيال متلاحقة؛ فالجيل الأول هوالحلقة الأضعف لأنّه مُلاصق للجاهلية، ويحمل إرثها وتربيتها، وذلك لا يزول بين ليلة وضحاها، وهؤلاء أمام أي امتحان سوف يسقطون ويتراجعون، خصوصاّ في حالة غياب إمام معلّم مربٍّ. ثمّ يأتي الجيل الثاني أقوى وأكثر ثباتاً، لأنّه ترعرع في الإسلام. ثمّ الأجيال المتلاحقة تقوى بنيتها العقائدية والعلمية والأخلاقية مع مرور الزمن المقرون بالإعداد والتربية والتقدّم الإيماني والعلمي، وليس التقدّم العسكري والسلطوي. فالتقدّم الحضاري الرفيع تحملهُ النخبة المؤمنة العالمة فقط، تحمله إلى الأمم الأخرى الجاهلة برسالة الإسلام، وإلّا كيف يمكن أن يحمل العرب الجاهليون رسالة السماء إلى الجاهليات الأخرى الفارسية والرومية وغيرها.
إنّ فتحُ مكّة حدثٌ مصيري خطير جرَّ على الساحة الإسلامية مُتغيرات وعوامل خطيرة. فقد دخل الأعداء إلى ضمن المنظومة السياسية الإسلامية، واختلّ ميزان القوى الذي كان قائماً قبل الفتح؛ فالمهاجرون الآتون من قريش الذين تكمن في قلوبهم مطامع خاصّة وحبّ الرئاسة، هم أقلية بالمقارنة مع الأنصار، الكتلة ذات الأكثرية والتي لا تحمل ما يحمله المهاجرون. وقبائل العرب المتفرّقة تميل بحكم الواقع إلى كفّة الأنصار؛ حيث إنّهم بالإسلام انفكّوا من سطوة قريش وتبعيَّتها لقريش التي لا زالت خارج الدائرة،أمّا بعد الفتح فقد دخلت قريش بخُيلائها وجبروتها وكبريائها مع ما لها من مكانة سياسية وأدبية كما ذكرنا سابقاً، وهي الآن تقول بالإضافة إلى ذلك نحن أهل النبي وعشيرته. إذاً، تضخّمَ وزنُ المهاجرين بعد انضمام قريش، والأخيرة جذبت القبائل الأخرى إلى طرفها فحصل الانقلاب الخطير في موازين القوى، فتحوّل موقف قريش من معاداة الإسلام إلى استيعاب الموقف والسعي للسيطرة على الدين الجديد وإخضاع النظام السياسي لها؛ أي الانتقال من زعامة الجاهلية إلى زعامة الإسلام. فأخذت تُعِد العدّة لامتلاك زمام الرئاسة واستلاب مكاسب الإسلام. لذلك كان الموضوع الوحيد الخطير المطروح في نواديها هو اسم الوارث للنبي (ص) في قيادة الأمة. في روايةٍ يقول أحد رجال بني هاشم لرسول الله: "يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدّث، فإذا رأونا سكتوا، فغضب رسول الله ودرّ عرق بين عينيه"[26]، ورسول الله (ص) يقول للإمام علي: "يا علي إنّك ستلقى بعدي من قريش شدة من تظاهرهم عليك، وظلمهم لك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، فقاتل من خالفك بمن وافقك فإن لم تجد أعواناً فاصبر واكفف يدك ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإنك مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة، إنَّه قال لأخيه موسى:{إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}"[27].
وعنه (ع– من كتاب له إلى أخيه عقيل - : "دع عنك قريشاً و تَرْكاضَهم في الضلال، وتَجوالهم في الشقاق، وجِماحَهم في التِّيْه؛ فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللَّه (ص) قبلي، فجَزَت قريشاً عنّي الجوازي! فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أُمّي"[28]، وعنه(ع) : "ما لنا ولقريش! يخضمون الدنيا باسمنا ويطؤون على رقابنا، فياللَّه وللعجب! من اسم جليل لمسمّى ذليل"[29]، وقال (ع):"ولولا أن قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة و سلَّماً إلى العزّ و الإمرة لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا "[30].
ولكن لا بدّ من فتح مكة، كان يجب إزالة الجاهلية والوثنية. لا يمكن أن يتنازل رسول الله عن تكليفه ومهمّته في إثبات التوحيد وتبليغه ومحق الوثنية، ونقل هذه الأمّة من براثن الجاهلية إلى حضاريّة الإسلام، مع كل ما في الأمة من آفات وهنات، وهذه هي مرحلة التنزيل، نقل الأمة من الكفر والجحود إلى الرضا والتسليم بكلمة التوحيد وشهادة الرسالة والنبوّة. ولا يستطيع رسول الله (ص) ترك معقل الكفر والظلم، بل يريد أن يجذب الجميع إلى الإسلام حتّى رؤوس الكفر والجاهلية الذين طالما حاربوه، رغم كل الآفات التي فيهم، فإذا تحقق ذلك يمكن أن تأتي مرحلة التزكية والصيانة، وهي مرحلة ما بعد رحيل النبي الأعظم (ص) التي أناطها الله – تعالى – بالإمام علي بن أبي طالب (ص).
فالله – تعالى - يريد من الرسول التبليغ والباقي- وهوكثير – هو مسؤولية اثني عشر إماماً من بعد الرسول، سيتحمّلون مسؤولية صيانة الإسلام وحمل الناس عليه، تربوياً وأخلاقياً وعلمياً وجهادياً، وغرس الأفكار وتنمية المفاهيم العقديّة الحقّة.
استنتاج:
مما سبق يُلاحظ كيف أنّ رسول الله (ص)أعطى نموذجاً لبناء السياسة على المبدئية والصدق، وهذا لم يكن ليحصل لولا أنّه (ص) مرتبط بالعالم الملكوتي الأعلى، على عكس ما هوالسائد من أنّ السياسة حرفة التشويش والانتهازية والمصلحية؛ فمثّل النبي (ص) السياسي الصدق كله مع قضيته والمضحّي بكل ما يملك من أجلها، ويكفي للدلالة على ذلك الاطّلاع على ما جرى على أهل بيته وأصحابه الصادقين، بعدما رحل (ص) إلى الرفيق الأعلى.
لقد كان السلم ونبذ العنف عنواناً عالياً في حركته، وأبرز مشهد لذلك هو في فتح مكّة وتعامله مع قريش التي آذته وهجّرته وشهّرت به وحاربته وكبّدته الكثير من الآلام، بل ولم يكن هذا الصفح والسلمية أمراً سهلاً بلحاظ القضية الرسالية أيضاً، فهؤلاء الذين صفح عنهم رسول الله من جبابرة الكفر القائمين على محاربة الإسلام، والتربّص به واستلاب مكتسباته، ولكن كما هو واضح لولا اتصال النبي (ص)بالعناية الإلهية - وهوالأهل لها- لما امتلك البصيرة التي نجح بها في إرساء دين الله - تعالى -، فالموضوع هنا في أحد جوانبه هو ثورة عارمة تهدف إلى هدم حالة بكل مقوّماتها وإحلال الدين السماوي.
ثانياً:حركة المواجهة مع اليهود:
اليهود كانوا أحد الأطراف الفاعلة في المنطقة، وتاريخياً كانوا معتقدين بظهور خاتم الأنبياء(ص)، وينتظرونه انتظاراً جادّاً مقروناً بكل مستلزماته العمليّة[31]، حتّى لقد حملهم هذا الانتظار الجاد على اختيار المنطقة التي يعتقدون أنّها مهجر النبي الخاتم (ص)، كما هو عندهم في الأخبار التي توارثوها جيلاً بعد جيل، فعانوا من أجل ذلك الكثير، وكانوا يصرّحون بذلك ويعتقدون أنّه سوف يأتي لينصرهم على العرب ويجعلهم حكاّماً سادة على الآخرين، فسجّل القرآن هذه الحقيقة:{ وَلَمَّاجَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[32].
اشتغل اليهود بالتجارة والصناعة والزراعة، وتحكّموا بالأسواق تحكّماً فاحشاً واحتكروها ونشروا الربا فيها. وحاربوا الإسلامَ منذ اليوم الأول لظهوره عليهم في المدينة، رغم أنّهم كانوا أول من بُشِّر بخاتم الأنبياء، لأنّه لم يكن منهم بل كان عربياً، فاستكبارهم منعهم من القبول به(ص)، وبرسالته التوحيدية العادلة التي تنادي بالمساواة، وتُطيح بما يتبجّحون به من تفوّق علمي، وأنّهم أهل الكتاب الأو ل ويعلمون الأسرار والمعارف. جاء الإسلام وحارب ممارساتهم مثل الربا والاحتكار ونشر الفتن والمشاركة في سفك الدماء، وأدانهم على انحرافاتهم وخوّنهم في حمل رسالة نبي الله موسى (ع).
أحرجهم رسول الله (ص)في الفترة الأو لى لقدومه إلى المدينة، فعقد معهم معاهدة تنصّ على أن لا يتعرّض المسلمون لليهود، في مقابل ألّا يتآمر اليهود على المسلمين، بالإضافة إلى بنود أخرى مذكورة. وقد قبلوا بهذا الاتّفاق. وكان رسول الله (ص) يحتاج أيضاً إلى هذا الاتفاق لأنّه كان يترقّب صداماً قريباً مع قريش؛ فترتيب الأولويات يقتضي زرع التهدئة والموادعة بين جميع الأطراف داخل المدينة وخارجها. فاستجاب اليهود في الفترة الأولى ورضوا بالمعاهدة، ولكنّهم كانوا دائما يشكّكون بالإسلام وينتقصون من المسلمين ويمارسون الضغوط الاقتصادية عليهم. وبعد معركة بدر فوجئوا بانتصار الإسلام، وأحسّوا بخطر الإسلام الوجودي عليهم، وهم من قبل راهنوا على قريش للقضاء على المسلمين فلم يبادروا إلى الحرب.
أمّا بعد هزيمة قريش في بدر فقد غيّر اليهود أسلوبهم وبادروا إلى الغدر بالمسلمين.
1. بنو قينقاع:
كانوا أو ل من غدر بالمسلمين في حادثة اعتداء على امرأة مسلمة في أحد أسواق المدينة، فلحق أحد المسلمين بالمعتدي وقتله، فاجتمع عليه اليهود وقتلوه. بعد ذلك هدّدهم رسول الله بحرب كحرب بدر أو أن يُسلموا، فهم يعلمون أنّه نبيٌ مُرسل، فقالوا: يا محمد إنّك تحسب حربنا مثل حرب قومك، لا يغرّنّك أنّك قهرت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم الفرصة، وإنّا والله أصحاب الحرب، والله لو حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس، قد والله لو لقيتنا للقيت رجالاً<[33]،حاصرهم رسول الله (ص)خمسة عشر يوماً إلى أن نزلوا على حكمه، وحكم عليهم رسول الله بالجلاء من المدينة"[34].
2. بنو النضير:
ثاني تجمّع يهودي أيضاً نقضوا ميثاقهم مع رسول الله (ص) عندما حاولوا اغتيال النبي، بعد دعوة وجّهها زعماء القبيلة إلى النبي(ص)، كشفهم رسول الله (ص)، وأرسل إليهم أن اخرجوا من بلده، وأما أن تأذنوا بحرب[35]. تعنّتَ اليهود واختاروا الحرب، فحاصرهم رسول الله (ص) إلى أن استسلموا، وحكم عليهم أن يخرجوا من المدينة بدون أن يحملوا معهم شيئاً من متاعهم.
3. بنو قريظة:
ثالث قبيلة يهودية تنقض العهد مع رسول الله (ص)، ولكنّ هذه القبيلة رغم أنّها شاهدت ما حصل للقبائل الغادرة قبلها، فإنها لم تتّعظ، بل قامت بخيانة جريئة حين دعمت وساندت قريشاً وباقي الأحزاب في معركة الخندق. فتوجّه رسول الله (ص) مباشرة بعد معركة الخندق وحاصرهم في حصنهم. وبعد استسلامهم وتحكيم الصحابي سعد بن معاذ قضى عليهم بقتل الرجال وسبي النساء والذراري[36].
4. معركة خيبر:
جاءت معركة خيبر في سياق قلب موازين القوى وتفتيت معسكر الأعداء. فبعد اتفاق رسول الله (ص) مع قريش على صلح الحديبية، وتجميد أي نشاط عسكري لها، تفرّغ لحرب حلفائها يهود خيبر الذين جهّزوا جيوش الأحزاب ضدّه، واستمرّوا في حربه منذ وصوله إلى المدينة. وكان يهود خيبر هم الذين شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الأمة الإسلامية الوليدة الناشئة في المدينة والقضاء عليها، ما حمل رسول الله على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر، وأن يجرّد جميع سكّانها من السلاح؛ لأنّه كان يخشى أن يقوم هذا الشعب المتغطرس الخبيث ببذل الأموال الطائلة لتأليب العرب الوثنيين مرّة أخرى[37]. وتوجّه إلى حربهم في محرّم سنة سبع للهجرة[38]،وتمّ القضاء عليهم.
استنتاج:
بعد سرد أبرز محطّات المواجهة مع اليهود آنفاً، لعلّ أبرز نقطة تُلاحظ هنا هي أنّ مواجهة رسول الله (ص) لليهود مواجهة صادمة وقاضية، ويتضّح للقارئ كيف أنّ رسول الله – وهو في موقع القوّة - يردّ على العدوان الذي يهدد الرسالة السماوية ردّاً قاضياً، وذلك مع ارتكاز التحرّك النبوي على السلمية واللاعنف المبدئي.
ثالثاً: مواجهة المنافقين:
المنافقون من الأطراف التي واجهها رسول الله (ص)، وشكّلت تحدّياً أمنيّاً وسياسياً للأمة الإسلامية الفتيّة. ولا بد من الإشارة إلى أنّ المقصود هنا هم المنافقون من غير قريش،أمّا قريش ومن يواليها فقد مرّ ذكرهم سابقاً في هذه المقالة.
بدأت حركة النفاق في يثرب بدخول الإسلام، وبدأت بشكل سطحيّ ومحدودة. ولكنّها بعد معركة بدر تعمّقت وصارت أعظم خطراً؛ فالانتصار الباهر الذي حقّقه المسلمون تسبّب في رجحان ظاهر لموازين القوى لمصلحة المسلمين داخل المدينة. ووجد الذين لم يعتنقوا الإسلام من أهل المدينة أنفسهم في موقف حرج، بين نار البقاء على كفرهم وخروجهم من دائرة التأثير والعمل السياسي، وبين اعتناق الإسلام، مع ما في ذلك من الانضباط وطاعة القيادة النبوية، والالتزام بالدين وقواعده ومبادئه الأخلاقية.
فرأى الكثير من الأوس والخزرج أنّ خير وسيلة للخروج من حرجهم هي الاعتناق الظاهري للإسلام، والبقاء على شركهم باطنياً، فوُلِدت ظاهرة النفاق قوّةً خفيّة في العمل ظاهرة في التأثير. وكان زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيّ بن أبي سلول أحد شخصيات الخزرج البارزة الذي كان يتحضّر لتزعّم عامّة المدينة، إثرَ اتفاق نادر الحدوث بين الأوس والخزرج بعد آخر الحروب التي جرت بينهم. وهو لم يكن يعتبر الدعوة الإسلامية وامتدادها إلا أنّها دولة تسودها الهيمنة القرشية، واستبطن عداءً للمهاجرين ورأى في هجرتهم احتلالاً مقنّعاً ليثرب. وهو أكثر من آذى رسول الله (ص)؛ فقد دخل رسول الله ذات يوم على الصحابي سعد بن عبادة، وفي وجهه الغضب من أذيّة عبد الله بن أبي، فقال له سعد: " يا رسول الله ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه، فو الله إنه ليرى أن قد سلبته ملكاً"[39].
تحالف المنافقون مع اليهود وضغطوا على رسول الله في كلّ مرة يحارب اليهود فيها وعلى محور الداخل الإسلامي، وتمثلّت سياستهم ضد الإسلام بالخطوات التاليّة:
- الانسحاب من المعارك في اللحظات الحرجة كانسحابهم في معركة أحد
- ممارسة الحرب النفسية ضد المسلمين ومحاولة تهديم معنوياتهم
- إثارة الفتن والمشاكل الداخلية، كما حصل في بنائهم لمسجد ضرار في محاولة لتفريق صفوف المسلمين.
- بلغ إجرامهم إلى درجة التآمر على حياة رسول الله (ص).
في مواجهة النفاق لم يعمد رسول الله إلى الضرب بيد من حديد. ويبدو هذا غريباً حيث إنّنا نرى أنّ قيادة أي ثورة أو نظام حاكم، عندما يكتشف أي مؤشّر على خيانة من أحد الأطراف، يبادر إلى استئصاله مباشرةً، ولا سيّما في المراحل الاولى لتكوّن أي نظام أو دولة. لكن ما يُلاحظ أنّ رسول الله سار بسياسة سلبية، بمعنى عدم الصدام والتعامل الميداني، وتكفّل الوحي الإلهي بفضح النفاق وبيان أوصاف المنافقين وتهديدهم والتحذير منهم والتنبيه إلى مكائدهم.
يعود سبب سياسة المواجهة السلبية هنا إلى مبدأ تعود إليه الأنماط المختلفة في المواجهة التي ظهرت من رسول الله (ص)، مبدأ عقائدي يحكم العمل الرسالي وهو تحقيق مصلحة الإسلام العليا وضمان بقائه وانتصاره، بخلاف ما لو كان الهدف هو السلطة أو الحكومة. ويُلاحظ هنا من أسباب التعامل السلبي:
1. لا يريد رسول الله أن يظهر بشخصية مستبدّة يقتل على الظنّة والتهمة، خوفاً من أن يثير الرهبة في قلوب الآخرين فيصدّهم عن الإسلام. فلمّا طلب عمر بن الخطّاب أن يقتل عبد الله بن أُبَي، أجاب النبي (ص): "دعه، لا يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه"[40]، وقال في مناسبة أخرى: "لا أريد أن يسمع المشركون أنّي أقتل أصحابي"[41]. يبدو واضحاً كم هو حريصٌ على صورة النظام الحاكم في أعين الموالين والخصوم.
2. لا يريد رسول الله (ص) إظهار القتل والتنكيل بالخصوم داخل البيت الإسلامي، ولو كانوا منافقين؛ كي لا يعتقد أحدٌ أنّ ما يفعله حكّام الجور له مثيلٌ ونظير في سيرة رسول الله.
3. قتل المنافقين سيؤدّي إلى فتح جبهة داخلية، حيث يمكن أن يؤدّي قتل أحد المنافقين إلى خروج قبيلته تعصّباً له. فللمحافظة على من أسلم منهم من جهة، واحترازاً من نزاع داخلي من جهة أخرى. تجنّب رسول الله (ص) الصدام معهم.
استنتاج:
إذاً، ترك رسول الله (ص) المنافقين وتحمّلهم، واستقطب المسلمين من حوله وبلّغهم ما يقوله القرآن عنهم محذّراً ومتوعّداً. قال – تعالى -:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمّ َلَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّة َاللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[42]. ومع مرور الوقت وتكرار مواقفهم التخاذلية اُفتضِح أمر المنافقين وأضحوا عديمي القيمة والتأثير، وانكمشوا وعُزِلوا عن أهلهم بحيث صار أقرباء الشخص المنافق يتصدّون له ويوبّخونه.
خاتمة:
يُلاحَظ أنّ هناك اختلافاً في مواجهة رسول الله لقريش، التي تميّزت بأنّها حرب طويلة الأمد ذات نفس طويل، تهدف إلى السيطرة على الوضع القائم، بينما مواجهته لليهود كانت حركة حاسمة قاضية. وأيضا تُلاحظ حركة المواجهة السلبية بمعنى المراقبة وعدم رد الفعل، وذلك في مواجهة المنافقين. هنا يمكن القول إن رسول الله (ص) يسير وفق مبادئ عقديّة ورسالية، بما يخدم مصلحة الإسلام العليا؛ إذ ليست قريش عند رسول الله (ص) أعزّ من اليهود، ولا المنافقون أعزّ من قريش، لكنّ الظروف الموضوعيَّة فرضت أن يتحرّك رسول الله (ص) - مع اتصاله بالعناية الإلهية - في الواقع بمنتهى الموضوعيّة وبما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.
[1]طالب في مرحلة الإجازة في الفقه والمعارف الإسلاميّة، جامعة المصطفى(ص) العالميّة في لبنان.
[2] سورة النساء، الآية 105.
[3] سورة يونس، الآية 99.
[4]سورة الكهف، الآية 6.
[5] سورة هود، الآية 12.
[6] راجع: ياسين، محمد كاظم: تاريخ خاتم الأنبياء رسول الله محمد(ص)، ط1، دار المحجة البيضاء، بيروت، 1434هـ.ق/2013م، ج1، ص139.
[7] حشدت لوحدها في معركة أحد ما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل.
[8] هو تحالف معقود بينها وبين مختلف القبائل العربية على طول خطوط التجارة لفرض الأمن اللازم لها.
[9] السيوطي، جلال الدين: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لاط، دار المعرفة،بيروت،لا ت، ج4، ص202.
[10] الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع البيان في تفسير القرآن، ط1، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، 1415هـ.ق/1995م، ج8، ص345.
[11] الحميري، ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق وضبط: محمد محي الدين عبد الحميد، لا.ط، مكتبة محمد علي صبيح، القاهرة، 1383هـ.ق/1963م، ج1، ص213.
[12] راجع: ابن هشام ، م.س، ج2، ص147.
[13] راجع: الواقدي، محمد بن عمر: المغازي، تحـ. مارسدن جونس، لاط، نشر دانش إسلامي، إيران، 1405هـ.ق، ج1، ص2.
[14] راجع: اليعقوبي، أحمد: تاريخ اليعقوبي، لاط، دار صادر، بيروت، لات، ج2 ص 69.
[15] ابن هشام، م.س، ج2 ص606.
[16] سورة الحج، الآيتان 39-40.
[17] راجع: القمي، علي بن إبراهيم: تفسير القمي، تحـ. طيب الموسوي الجزائري، ط3، مؤسسة دار الكتاب ، قم المقدّسة، 1404هـ.ق، ج1، ص272.
[18]الواقدي، م.س، ج1، ص198.
[19] ابن هشام، م.س، ج3، ص106.
[20]الواقدي، م.س، ج1، ص 444.
[21] راجع: م.ن، ج1، ص441.
[22] الصدوق ، محمد بن علي بن بابويه: الخصال، تحـ.علي أكبر الغفاري، لاط، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم المقدّسة، 1403هـ.ق، ص368.
[23] البيهقي، أحمد بن الحسين: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحـ. عبد المعطي قلعجي، ط1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1405هـ.ق/1985م، ج3، ص459.
[24]الشيباني، عز الدين(المعروف بابن الأثير): الكامل في التاريخ، لاط، دار صادر، بيروت،1386هـ.ق/1966م، ج2، ص184.
[25] راجع: ياسين، م.س، ج2، ص302.
[26]ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لاط، دار صادر، بيروت، لات، ج1، ص207.
[27]ابن قيس الهلالي، سليم: سليم بن قيس، تحـ. محمد باقر الأنصاري الزنجاني، ط1، مطبعة نكَارش، قم المقدّسة،1422هـ.ق، ص136.
[28] عبده، محمد: شرح نهج البلاغة، ط1، دار الذخائر، قم المقدّسة، 1412 هــ.ق، ج3، ص62.
[29] المعتزلي، ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحـ. محمد أبو الفضل إبراهيم، لا ط، مؤسسة إسماعيليان للطباعة و النشر والتوزيع، طهران، لا ت، ج20، ص307.
[30]م.ن، ج20، ص298.
[31]ياسين، م.س، ج1، ص53.
[32] سورة البقرة، الآية 89.
[33]الواقدي، م.س، ج1، ص174.
[34]م.ن، ج1، ص177.
[35]راجع: القمي، م.س، ج2، ص359.
[36]راجع: الواقدي، م.س، ج2، ص496.
[37] راجع: ياسين، م.س، ج2، ص166.
[38] راجع: الواقدي، م.س، ج2، ص634.
[39] ابن هشام، م.س، ج2، ص236_237.
[40] البخاري، محمد بن إسماعيل: صحيح البخاري، لا ط، دار الفكر، بيروت،1981م، ج3، ص132.
[41] الهندي، علاء الدين علي المتقي: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحـ. الشيخ بكري حياني، لاط، مؤسسة الرسالة،بيروت، 1989م، ج11، ص295.
[42]سورة الأحزاب، الآيات 60- 62.