الجمعة 22 تشرين الثاني 2024 الموافق لـ 12 جمادى الاولى 1446هـ

» قراءات ومـــراجعــات

تاريخ الصلاة


مقدّمة

ذُكرت بعض التفاصيل المتعلّقة بسِير أنبياء الله تعالى ورسله صلوات الله عليهم في الكثير من سور كتاب الله المجيد، إلاّ أنّ التأكيد في (سورة الأنبياء) كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عندما كانوا يبتلون بالضائقات أو إذا نزل في ساحتهم بلاء أو مكروه، كانوا يُسارعون بمدّ يد التوسّل والاستعانة بالله تعالى راجين لطفه وعونه، وكان الله سبحانه يفتح أمامهم الطرق المغلقة، ويُنجّيهم من سيول البلايا والرزايا. كيف لا، وهم الذين جعلهم الله تعالى أئمة أبراراً يهدون بأمره آناء الليل وكل النهار، وأخبرنا أنّ ممّا أوحاه إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة، فقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[1]، فإقامة الصلاة ممّا أوحاه الله تعالى إليهم جميعاً، وقد أخبرنا نبيّنا المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم  عليهم السلام  أخوة من أمّهات شتّى دينهم واحد من أولهم إلى خاتمهم، وسُنّتهم واحدة: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[2].


نهج الأنبياء

قد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتضمّن ما يدلّ على افتراض الصلاة على الأنبياء والمرسلين الذين بعثوا قبل نبيّنا المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هذه الآيات المباركة ذكرُ الله عزّ وجلّ لجملة من الأنبياء بأوصافهم، ثم قوله جل شأنه: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ


عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾، وأتبع الله تعالى هذه الآية المباركة بقوله:

﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[3]، فتأمّل رحمك الله تعالى كيف أنّ النبيّين من ذريّة آدم ومن الذين حملهم الله تعالى مع نوح عليه السلام، ومن ذرية إبراهيم ويعقوب عليهما التحية والسلام، وكلّ من هداه الله واجتباه من ذراريهم هم أهل الصلاة ومقيميها، ثم أخبر تعالى أنّه خلف من بعد المذكورين   عليهم السلام خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات توعّدهم الله بملاقاة العقوبة المخزية. من خلال ما تقدّم يظهر لنا بوضوح أنّ الصلاة هي نهج الأنبياء، ومقترن وجودها بوجودهم صلوات الله عليهم، وبناءاً على ذلك يُمكن اعتبار الصلاة أقدم العبادات تاريخاً، وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها من شرع إلى شرع[4]، ونحن فيما يلي سنستعرض شواهد على هذا الأمر وذلك عبر جملة من آيات كتاب الله المجيد كونه تبياناً لا تُهدم أركانه، وهو الثقل الأكبر ومصدر التشريع الأول، ومن خلال الروايات الشريفة التي وردتنا عن الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كونهم أعدال كتاب الله وسفرته، وورثة خاتم الأنبياء وأحفاد إمام المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الطيّبين الطاهرين، وهم أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل.


صلاة النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ ونوح

حدّد مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المكان الذي صُلب فيه عمّه زيد الشهيد رضوان الله عليه في الكوفة، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين، وهو آخر السراجين، فنزل، وقال لصاحبه: "انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول


الذي خطّه آدم عليه السلام، وأنا أكره أن أدخله راكباً"[5]، فأبونا آدم عليه السلام  قد خطّ مسجداً كي يُصلّي لربّه سبحانه وتعالى. كما بنى البيت الحرام قبل ذلك، ووضع أساسه، وكساه الشعر، وحجّ إليه[6].


وسأل أبو بكر الحضرمي مولانا الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قائلاً: أيّ البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال عليه السلام : "الكوفة يا أبا بكر هي الزكية الطاهرة فيها قبور النبيّين المرسلين، وغير المرسلين، والأوصياء الصادقين،وفيها مسجد سهيل - السهلة - الذي لم يبعث الله نبياً إلا وقد صلّى فيه..."[7]، وكذلك روى هذه الكلمات أبو بصير عن مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بعين لفظه، فأمعن النظر فيه[8].


وروى عبد الله بن سنان، عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام ، أنّه قال: "لمّا مات آدم فبلغ إلى الصلاة عليه، قال هبة الله (نبي الله شيث عليه السلام) لجبرائيل: تقدّم يا رسول الله، فصل على نبي الله، فقال جبرائيل: إنّ الله أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدّم أبرارولده، وأنت من أبرّهم، فتقدّم فكبّر عليه خمساً عدّة الصلوات التي فرضها الله على أمّة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي السنة الجارية في ولده إلى يوم القيامة"[9].


وأمّا صلاة نبي الله إدريس عليه السلام: فشاهدها الآية المتقدّمة كونه من الذين ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾، ثم قول إمامنا الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام وهو يوصي صاحبه ابن مهران ويوجّهه: "إذا دخلت الكوفة، فائت مسجد السهلة، فصلِّ فيه، واسأل الله حاجتك لدينك ودنياك، فإنّ مسجد السهلة بيت إدريس النبي عليه السلام


الذي كان يخيط فيه، ويُصلّي فيه... إلى آخر كلامه سلام الله وتحيّاته عليه"[10].


ولقد حظيت الصلاة بالمرتبة الثانية بعد التوحيد في الشريعة التي شرّعها الله لنبيّه نوح عليه السلام وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام مولانا الإمام أبو جعفر الباقر فيما حمله عن آبائه الكرام عليهم السلام حيث قال: "كانت شريعة نوح عليه السلام أن يُعبد الله بالتوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ ميثاقه على نوح عليه السلام، والنبيّين أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأمره بالصلاة، والأمر والنهي، والحلال والحرام...."[11] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾[12].


صلاة إبراهيم وآل إبراهيم

قال الله تعالى فيما اقتصّ من خبر خليله إبراهيم حين أسكن أُمّنا هاجر وابنه اسماعيل  عليهم السلام   جوار أسس البيت الحرام، وابتهل إلى الله قائلاً: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾[13]، وحكى الباري سبحانه في فرقانه الحكيم ابتهالاً آخر من ابتهالات خليله إبراهيم بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق، فحمد الله وتوجّه إليه داعياً: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾[14].


كذلك حظيت الصلاة في شريعة إبراهيم عليه السلام بالمكانة عينها التي حظيت بها في شريعة نبيّ الله نوح عليه السلام ، فقد روى مولانا الإمام الصادق فيما حمله عن آبائه


الكرام عليهم السلام: "كان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ألف سنة، وكانت شريعة إبراهيم بالتوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها وهي الحنيفية، وأخذ عليه ميثاقه، وأن لا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئاً، قال: وأمره بالصلاة، والأمر والنهي..."[15].


وبعد أن مدح الله تعالى في القرآن الكريم نبيّه المرسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ووصفه بأنّه صادق الوعد حكى لنا شيئاً من سيرته، فقال: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾[16]، وهذا النعت من أشرفَ الخِصال وأَجلَّ الصفات، والمراد بأهله: خاصّته من عترته، وعشيرته وقومه كما هو ظاهر اللفظ.


ولأنّ الصلاة تدعو إلى التوحيد والتطهير أَمَرَ خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام قومه بالتوحيد، وخلع الأنداد ونهاهم عن بخس المكيال والميزان وأمرهم بإيفاء الحقوق، فما زاد قومه إلا إعراضاً وبعداً عنه قائلين له: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[17] إِذ كانوا يعتبرون أنفسهم ذوي فهم، وأنّ شعيباً - والعياذ بالله - يجهل الأُمور !! وكانوا يتصوّرون متسائلين أنَّ هذه الصلاة ما عسى أن تؤثّر في تطفيف المكيال وبخس الميزان؟ على أنّه من المعلوم أنّ أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين إقامة الصلاة، وبين الصدق والأمانة.


صلاة ذرية نبي الله يعقوب عليه السلام

منهم ثالث أولو العزم من الرسل كليم الله تعالى موسى عليه السلام  عندما أتى الوادي المقدّس طوى، وتلقّى الرسالة، فخاطبه الباري سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا


فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[18] وسارت أيام الدعوة إلى الله حتى أوحى الله إليه ولأخيه نبيّ الله هارون عليهما السلام: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[19].


وأمّا النبي الشاكر، والأوّاب الذاكر سليمان بن داود عليهما السلام، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ هذا النبي العظيم كان يُصلّي الغداة (الصبح) في الشام، والظهر في بلاد فارس[20].


وأمّا خبر صلاة نبي الله زكريا عليه السلام فقد قرنها الله تعالى ببشارته لهذا النبي العظيم لما وهب له يحيى عليه السلام فخلّدها الله تعالى بفرقانه الحكيم آيات تُتلى آناء الليل وأطراف النهار: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾[21]، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن رابع أولي العزم من الرسل عيسى المسيح عليه السلام  بأنّه قال، وهو في المهد صبيّاً: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[22]. وكذلك أمّه البتول الطاهرة مريم عليها السلام فبعد أن أكرمها الله بعظيم المنزلة عنده جلّ شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾[23] خاطبتها الملائكة: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[24] لتكون من الشاكرين للمنعم جلّ شأنه على هذه النعمة العظيمة. وينقل لنا القرآن الكريم أنّ الصلاة هي ثاني الوصايا التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه، وهو يعظه، فقال له أولاً: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ


عَظِيمٌ﴾[25] ثم خاطبه قائلاً له: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[26].


ومن الآيات الكريمة الدالّة على أنّ الصلاة كانت مفروضة على أهل الكتاب قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[27]، ومن المعلوم لدينا أنّ الله سبحانه وتعالى جمع الأنبياء عليهم السلام ليلة الإسراء والمعراج، فصلّى بهم خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم إماماً، وهم كانوا يُصلّون بصلاته، ولا شكّ أنّ هؤلاء المأمومين من أنبياء الله ورسله كانوا يقتدون بإمام الأئمة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كبّر كبّروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا قام قاموا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قعد قعدوا، وإذا سلّم سلّموا من ورائه صلوات الله عليه وآله وعليهم جميعاً، فهذا ما يقتضيه الشرع في اقتداء المأموم بالإمام في كلّ أفعاله حذو القذّة بالقذّة، وبالمحصّلة إنّ الروايات الواردة عن أئمّة الهدى من أهل بيت النبوّة عليهم السلام - في ذكر صلاة بقية الأنبياء عليهم السلام - كثيرة، ولولا خوف السأم لأطلقنا في استقصائها عنان القلم، لكن الذي ذكرناه كافٍ لما أردناه، والله الموفّق.


تاريخ الصلاة في الإسلام

أجمع علماء الإسلام قاطبة على أنّ الصلوات الخمس قد فُرضت على الأمّة المحمّدية في ليلة الإسراء والمعراج حيث كان خاتم النبيّين  صلى الله عليه وآله وسلم  وافداً على الله تعالى، ولأنّ ضيف الكريم كريم، أتحفه مولاه بهذه التحفة التي هي غرّة الطاعات ورأس المعاملات والقربات، وفضلها على سائر العبادات لمزايا كثيرة، ومن هذه المزايا أنّها فُرضت


في ذاك المقام الأسنى على بساط العزّة بحضرة الملأ الأعلى، وفي هذا تنويه بهذه الطاعة، وتشريف لها على سائر الطاعات، واتفقت أقوال من يُعتنى بقوله من علماء الإسلام على أنّ الإسراء كان بمكّة المكرّمة قبل الهجرة النبويّة على مهاجرها العظيم وأهل بيته أفضل الصلاة وأزكى السلام، ثم اختلفوا في السنة التي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما هو مروي عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقيل في السنة الخامسة، أو السادسة، وقيل وقيل، وقيل... والأقوال المنقولة في تعيينها مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به، ولكن المتتبّع يعلم أنّه لا منافاة بين كونه  صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُصلّي صلاة خاصّة، وبين كون الصلوات الخمس فُرضت عليه في السماء ليلة الإسراء، فإنّ فرض أصل صلاته كان قبل ذلك، وإنّ هذا الأمر لم يكن خافياً على من عاداه من قريش فضلاً عن أتباعه. والأخبار التي أوردها جملة من علماء المسلمين وتنصّ على صلاة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  منذ بدء بعثته كثيرة حيث كانَت فَرضاً عَلَيهِ، وسُنَّةً لأمّتِهِ، وكذلك نافلة الليل قد كانت مشروعة له صلى الله عليه وآله وسلم  بنص الكتاب المجيد، والذي فيه أيضاً عدّة من الآيات الكريمة تدلّ على أنّه  صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيّاً كقوله تعالى في سورة العلق: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾[28]، وسورة العلق هي أول سورة نزلت على رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  كما هو معلوم، وفي تفسير هذه الآيات يقول العلّامة الطباطبائي أعلى الله مقامه: المراد بالعبد الذي كان يُصلّي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم  على ما يُستفاد من آخر الآيات حيث ينهاه  صلى الله عليه وآله وسلم  عن طاعة ذلك الناهي، ويأمره بالسجود والاقتراب، وسياق الآيات - على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن ونزولها دفعة واحدة - يدلّ على صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قبل نزول القرآن، وفيه دلالة على نبوّته قبل رسالته بالقرآن، وأمّا ما ذكره بعضهم أنّه لم تكن الصلاة مفروضة في أول البعثة، وإنّما شُرّعت ليلة المعراج على ما في الأخبار، وقوله تعالى:


﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾[29]، ففيه أنّ المسلَّم من دلالتها أنّ الصلوات الخمس اليومية إنّما فُرضت بهيئتها الخاصّة ركعتين ركعتين ليلة المعراج، ولا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل، وقد ورد في كثير من السور المكّية، ومنها النازلة قبل سورة الإسراء كالمدّثر والمزمّل وغيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة[30].


صلاة النبي مع خديجة وعلي  عليهم السلام

قد جاء في العديد من الروايات ذكر صلاة النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  مع أمّ المؤمنين خديجة وأمير المؤمنين علي عليهما السلام في أول البعثة النبويّة الشريفة، ومن هذه الروايات ما رواه إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمرٌ عظيم فقال: أمرٌ عظيم. فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أنّ الله تعالى بعثه رسولاً وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء. قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعاً[31].


وقال مولانا الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام - في خطبته المسمّاة بالقاصعة -: "ولقد كان  صلى الله عليه وآله وسلم  يُجاور في كلّ سنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  وخديجة، وأنا ثالثهما؛ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة"[32].


الصلاة على ما هي اليوم عليه

يقول العلّامة المحقّق السيد جعفر مرتضى العاملي - بعد أن أورد روايتين عن نافع بن جبير والحسن البصري مفادهما أنّ صلاة الحضر أول ما فُرضت فُرضت أربعاً -: ولكنّنا لا نستطيع قبول ذلك، لوجود الروايات الثابتة والصحيحة عند الشيعة، وعند غيرهم، الدالّة على أنّ صلاة الحضر قد فُرضت أولاً ركعتين، ثم زيد فيها - إلا أن يكون المراد: أنّ الصلاة أُبلغت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أولاً كاملة - ولكن المصلحة كانت تلزم أولاً بركعتين ثم صارت تلزم بالكل، وفوّض إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم  أمر تبليغ ذلك في الوقت المناسب[33].


وفي صحيحة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: "إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه، فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[34]، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّوجلّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[35]، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يُخطأ في شيء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله، ثم إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب


ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة، ثم سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر"[36].


ويروي الشيخ الصدوق بإسناده عن سعيد بن المسيب أنّه سأل علي بن الحسين عليهما السلام، فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال عليه السلام: "بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام، وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين، وفي العصر ركعتين، وفي المغرب ركعة، وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقرّ الفجر على ما فُرضت بمكة......"[37] إلى أخر كلامه سلام الله عليه، وفي هذا القدر كفاية لأهل العناية، وصلى الله على سيّدنا ومولانا رسول الله مُحمد وآله الطيّبين الطاهرين.


[1] سورة الأنبياء، الآية 73.

[2] سورة الأحزاب، الآيتان 38 ـ 39.

[3] سورة مريم، الآيتان 58 - 59.

[4] الحسين بن محمد بن المفضل "الراغب الأصفهاني"، مفردات ألفاظ القرآن، ج 1، ص 590، ط: دار القلم، دمشق.

[5] ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏8، ص 280، حديث نوح عليه السلام  يوم القيامة... ص: 267.

[6] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج‏2، ص 229. باب في حج الأنبياء والمرسلين

[7] شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، ج‏6، ص31، باب فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة....

[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج 97، ص 436.

[9] المصدر السابق، ج‏1، ص 163، باب الصلاة على الميت.

[10] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 280.

[11] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج‏8، ص 267، حديث نوح عليه السلام  يوم القيامة، ط: الدار الإسلامية.

[12] سورة مريم، الآية 58.

[13] سورة إبراهيم، الآية 37.

[14] سورة إبراهيم، الآية 40.

[15] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 73، ص 68.

[16] سورة مريم، الآية 55.

[17] سورة هود، الآية 87.

[18] سورة طه، الآية 14.

[19] سورة يونس، الآية 87.

[20] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 14، ص 99.

[21] سورة آل عمران، الآية 39.

[22] سورة مريم، الآيتان 30 ـ31.

[23] سورة آل عمران، الآية 42.

[24] سورة آل عمران، الآية 43.

[25] سورة لقمان، الآية 13.

[26] سورة لقمان، الآية 17.

[27] سورة البينة، الآيتان 4- 5.

[28] سورة العلق، الآيتان 9 - 10.

[29] سورة الإسراء، الآية 78.

[30] المفسر السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيان روائي لتفسير سورة العلق.

[31] الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج5، ص84.

[32] عز الدين أبن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 13 ص 198، طبعة 1: دار الكتب العلمية.

[33] السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، ص 297، ط 4: دار الهادي..

[34] سورة القلم، الآية 4.

[35] سورة الحشر، الآية 7.

[36] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي،ج‏1، ص 266، ط الدار الإسلامية.

[37] محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 454، حديث رقم: 1319، باب علة التقصير في السفر، و علل الشرائع، ج‏2، ص 324، 16 باب العلة التي من أجلها تركت صلاة الفجر على حالها.

1757 مشاهدة | 23-12-2019
جامعة المصطفى (ص) العالمية -فرع لبنان- ترحب بكم

مجلس عزاء عن روح الشهيد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ورفاقه

رحيل العلامة المحقق الشــيـخ علي كـوراني العاملي (رحمه الله)

ورشة تقنيات قراءة في كتاب

ورشة تقنيات تدوين رؤوس الأقلام

ورشة أسس اختيار الموضوع ومعايير صياغة عنوان الرسالة

عزاء عن روح الشهيد جعفر سرحال

المسابقة العلمية الرابعة

دورة في مخارج الحروف العربيّة

حفل تكريم المشاركات في دورة مشروع الفكر الإسلامي في القرآن

دورة إعداد خطيبة منبر حسيني

لقاء مع المربي العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

احتفال في ذكرى المولد الشريف

ندوة كاتب وكتاب: التاريخ السياسي والاجتماعي لشيعة لبنان

لقاء مع المستشار الثقافي لسفارة الجمهوريّة الإسلاميّة

وفد من حوزة الإمام الخميني (قده) يزور الجامعة

دعوة للمشاركة في مؤتمر الإمام الحسين (ع) والنهضة الفكريّة

صباحيّة قرآنيّة في حوزة السّيدة الزهراء (ع)

ندوة كاتب وكتاب: الله والكون برواية الفيزياء الحديثة

العدد 54-55 من مجلَّة الحياة الطيّبة