باتت مسألة العلم المعاصر ذات صلة وثيقة بمدى وعي الإنسان لقيمته ولتطبيقاته، وازدادت الحاجة لتنمية المعارف حول العلم بعدما اندمج العلم والتكنولوجيا في نظام متكامل وباتت العلوم الإنسانية كلّها تتقرّب من العلم التجريبيّ لزيادة جرعة المصداقيّة في أعمالها ونتائجها، واعتبر الجميع أنّ العلم ضرورة ملحّة للمجتمعات التي تنشد الارتقاء وتلبية احتياجاتها ومنافسة الأمم المتقدّمة. ونظرًا للتأثير المتصاعد في حركة العلم على البشريّة ولدخوله في عمق نسيجها الاجتماعيّ والثقافيّ، ولكي يبقى هذا الدخول مقبولًا في المجتمعات، فإنّ من الضرورة بمكان أن تتوافر مجموعة من المستويات الأخلاقيّة لرجال العلم وللبيئة السياسيّة والاجتماعيّة والأنظمة من حولهم، تكون مسؤولة عن ضبط أنشطتهم التكنولوجيّة، وهذه بالضبط ما تمّ الاصطلاح عليها باسم القيم العلميّة.
ويذهب بعضهم إلى اعتبار القيم العلميّة بأنّها محصّلة لمجموع الاتّجاهات الإيجابيّة لدى الأفراد إزاء موضوع علميّ أو موقف متّصل بالعلم([1]) أو أنّها الأحكام المعياريّة الضمنيّة التي تتكوّن لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات ذات الصبغة العلميّة، يصدرها الفرد تجاه القضايا والمشكلات العلميّة ويتفاعل معها وتتّضح في اهتماماته واتجاهاته وسلوكه([2]) وتمثّل القيم العلميّة فرعًا في مصفوفة القيم ذات المفهوم الثلاثي العناصر:
1- المعرفيّ، المسؤول عن تزويد الفرد بالمعلومات عن طبيعة القيم العلميّة.
2- الوجدانيّ، المسؤول عن تشكيل الميول والاتّجاهات لديه.
3- الأدائيّ، المعنيّ بسلوكيّاته.
ويكتسب الفرد قيمته العلميّة من أصوله الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، فيشعر نحوها بالقبول وتكون من عوامل تشكيل شخصيّته، وتدفع المرء إلى مواجهة الظواهر المختلفة بحكمة واقتدار، فهي تؤثّر في سلوكه تأثيرًا مباشرًا([3])، وتعتبر القيم التي يكسبها الإنسان في صغره أكثر استقرارًا، أمّا التي يكسبها في كبره فهي عرضة للتغيير([4])، وتصبح القيم العلميّة الأساس الأخلاقيّ العلميّ للمهنة ومنها على سبيل المثال: الموضوعيّة، الأمانة العلميّة والخصب الفكريّ والاستعداد للتجربة، وتحمّل المسؤوليّة وضبط النفس والدقّة في التجربة والمرونة العلميّة والتعليل العلميّ([5]).
ويجمع المختصّون على وضع القيم في نمطين: قيم تتّصل بالمتغيّرات فتعتمد على العلم وقيم تتّصل بالثوابت فتعتمد على الفلسفة (العقل). ومن هنا، فإنّ خلط موضوعات الفلسفة بموضوعات العلم عشوائيًّا يفسد العلم والفلسفة معًا. ولكن مع ذلك فإنّ العلاقة تبقى حميمة ومتواصلة بينهما (ذات حوار دائم وتفاعل) فالفلسفة تستشير العقل وتستنبط المناهج وتحدّد وجهة البحث العلميّ والسير الفعليّ وفق مناهجه، ولذلك فرّق البعض بين مصطلحي العقل والعلم. فالعقل هو الذي يعتني بالأحكام الأوّليّة والأفكار المستوحاة منها، بينما العلم هو البحث عن الحقائق بصورة مباشرة، كما أنّ الفلسفة تهتمّ بالثوابت بينما العلم يهتمّ بالمتغيّرات. وأنّى كان الفرق بينهما، فإنّهما يتواصلان، وتراكم الجزئيّات يوجب الإحاطة بالكلّيّات، كما أنّ معرفة المتغيّرات تهدينا إلى تلك القوانين الثابتة التي تضبطها. وهكذا تحديد المنهج الصحيح يوصلنا إلى المعرفة بصورة أسهل.
فإذا قرّرت فلسفة الأخلاق ضرورة التجانس والتناغم في المجتمع، فإنّ علم المجتمع يأتي ويبيّن أبعاد هذا التجانس وآفاقه كأن يُقال مثلًا إنّ أفضل التجانس هو التجانس بين أفراد الطبقة دون إلغاء الطبقة مثلًا، بينما يأتي علم الرياضيّات ليبيّن كيف يتمّ التجانس على أرض الواقع بالأرقام (توماس مور).
وإذا اعتمدت الفلسفة الأخلاقيّة مبدأ تدخّل الدولة، فإنّ آليّة هذا التدخّل تكون من اختصاص العلم بالاستفادة من الدوافع والمنفّرات، أو بتعبير آخر الترغيب والترهيب (هوبز) وكذلك حين تعتمد فلسفة الأخلاق مبدأ الضرر والمنفعة على أساس القيم المادّيّة، فإنّ آراء (متشنيكوف) تنفع في هذا الحقل، لمعرفة ردود كلّ فعل من المنافع، لتقييم النتائج على أساسه، وهكذا يتدخّل علم الطبّ في حقل الأخلاق.
وفي أُطر أخرى، نجد تعريفات مغايرة لأخلاقيّات البحث العلميّ، هي في جوهرها مشابهة لما طرحناه قبلًا، منها ما يقدّم باعتبارها المبادئ الأساسيّة التي تقوم عليها القوانين والأعراف وفقًا للقواعد المعمول بها بوصفها قواعد بنّاءة لضبط السلوك، تستهدف تحديد الأفعال والعلاقات والسياسات التي ينبغي اعتبارها صحيحة أو خاطئة. ولا بدّ لكلّ ما ينبغي أو يجب في مفهوم الأخلاقيّات من أن يكون مقنعًا للعقل، وذلك باعتماده على المنطق، واتّصافه بالتنسيق والتماسك وارتكازه على الحقائق والمعطيات الدقيقة وقابليّته للتطبيق على الناس كافّة بالعدل والإنصاف.
وبات من المتسالم عليه أن لا تحول الحدود الجغرافيّة دون تطبيق أخلاقيّات العلم في أيّ مكان، فالناس على الرغم من اختلافهم وتباين ثقافتهم، إلّا أنّهم جميعًا يتّفقون على قيم معيّنة أهمّها الإنسان الذي يمثّل قيمة لا تقبل المساومة. وثمّة ضرورة أن يتّصف البحث العلميّ بالموضوعيّة والدقّة، وإمكانيّة تكرار النتيجة والتبسيط والاختصار وبالتوجّه نحو غاية أو هدف وبالتعميم في الحالات المشابهة.
ولا يخفى أنّ القيم الدينيّة والفلسفيّة والعقائديّة والثقافيّة هي المنابع الرئيسة لأخلاقيّات المهن الصحيحة، وفي طليعتها أخلاقيّات الطبّ، ويتفرّد إقليم شرق المتوسّط، كما هو معلوم، بأنّه مهد الأديان السماويّة الثلاثة الكبرى وهي: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. والدارس لأديان التوحيد الثلاثة هذه يجد أنّها تدعو إلى مبادئ أخلاقيّة متماثلة جدًّا، ويلحظ أنّ هذه المبادئ هي المنبع الرئيس لأخلاقيّات المهن الصحيّة في بقاع شاسعة من العالم.
المصدر: أخلاقيّات العلم عند الإمام الخامنئي (دام ظله)
Farell، R.P.، Journal of the History of science society، 96(2) (2005)،pp 312-313. [1] [2] للمزيد انظر: ممدوح عبد المجيد، "فعّاليّة استخدام استراتيجيّة مقترحة لتدريس العلوم"، المؤتمر العلميّ السابع للجمعيّة المصريّة للتربية العلميّة، الإسماعيليّة، 27-30 أيلول (2003)، الصفحات 259-305.
[3] دلال استيتية وتيسير صبحي، مجلة مركز البحوث التربوية، جامعة قطر، 11 (21)، 2002، الصفحة 129-165.
[4] حمد الرشيد، المجلّة التربويّة، مجلّة النشر العلميّ، جامعة الكويت 14 (56)، 2000، الصفحة 13-63.
[5] عبد الودود مكروم، القيم ومسؤوليّة المواطنة، دار الفكر العربيّ، القاهرة (2004).