كيف نوازن بين عامل وعنصر الكفاءة والنخبة، وبين مشاركة الناس؟
إنّ مشاركة الناس من الأُمور الفطريّة، ودور النخبة أيضاً فطري، فهل يطغى هذا الجانب وتكون الوصاية للخبرة على مشاركة الأُمة، أو يطغى دور مشاركة الأُمة على النخبة، فقد تختار الأُمة ما لا ترتضيه النخبة، وتختار النخبة مالا ترتضيه الأُمة، فأىّ يحكّم من الاثنين؟
ومن ثمّ اختلفت صياغة الديمقراطيّة في كيفيّة المشاركة:
منها: ما يقول بأنّ الأُمة تنتخب النخبة، والنخبة تنتخب الحاكم.
ومنهم من يقول: إنّ الأُمة هي مباشرة تنتخب الحاكم، لكن بإشراف النخبة.
ومنهم من يقول: إنّ الانتخاب والمنتخب له شرائط، فليس للمنتخب أن ينتخب ويجري عمليّة الانتخاب على صعيد مطلق ويفتح الباب على مصراعية، بل هناك شروط في المنتخب لابدَّ أن يحدّدها القانون.
فمن ثمّ انثار جدل قانوني وحقوقي واسع لديهم أيضاً، يشير إليه الدكتور السنهوري في مقدّمة كتابه «الوسيط» وكتابه الآخر «الحقّ ومصادر التشريع»: إنّ هناك عند القانونيين الغربيّين مدرستين: مدرسة المذهب العقلي، ومدرسة المذهب الفردي. مدرسة المذهب العقلي تقول بأنّه لابدّ من إعطاء دور للعقل أكبر على حساب الحريّات المطلقة للفرد، وهناك من يقول: إنّ الفرد تطلق له الحريّات ولو على حساب العقل.
هذا الجدل لم يحسم إلى الآن في النظريّة الديمقراطيّة، يعني دور العقل والعلم ودور الفرد، مرادهم من الفرد في الواقع هو الغرائز والشهوات والنزعات الفرديّة، والحلول التي تطرح ليست حلولاً كاملة تامة.
وطبعاً هناك مشاكل عديدة في التقنين الغربي الديمقراطي، ولكن هذه أهمها حاولتُ أن أُشير إليها، وإلا فمسألة الديانة مثلاً بعد ما رفضوها، شاهدوا اليوم أنّ عدم التقيّد بالديانة يجرّ المجتمع إلى نكبات كثيرة، ورأوا أنّ الصرح الأخلاقي في التزام الديانة تخدم النظام الاجتماعي.
وأودّ أن أُبيّن بشكل إجمالي أنّ في النظريّة الإماميّة، مع أنّ أصل الحاكميّة من اللّه عزّ وجلّ ثمّ للرسول (صلى الله عليه وآله) ثمّ للأئمة (عليهم السلام) ـ وهذا معنى قد يطلقه القانونيّون الوضعيّون بأنّه استبداد إلهي، لكنّه في حقيقته يؤمّن تمام الممارسة والمشاركة للمجتمع عبر عدّة قنوات عديدة:
أولها وأهمها: أنّ مسؤوليّة إقامة النظام العادل، وقلع النظام الجائر، وإبقاء النظام العادل، ومراقبة النظام على مسيرة العدالة، هذه المسؤوليّة في النظريّة الإماميّة ملقاة على الأُمّة، بدليل قوله تعالى (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بَعْضُهُم أَولِيَاءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ)[1].
وقد جسّد ذلك الإمام الحسين (عليه السلام) حينما قال: «وَإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي (صلى الله عليه وآله)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»[2].
فزعزعة المنكر السياسي أو القضائي أو المالي أو الأخلاقي أو الحقوقي، أو في أيّ مجال من المجالات العامّة أو الخاصّة، إنّما هو من مسؤوليّة الأُمّة، أولاً وبالذات.
وعندما نقول: مسؤوليّة الأُمّة، سواء الأكثريّة التزمت أو لم تلتزم، بل الكلّ لو لم يلتزم يبقى فرد واحد وهو الحسين سلام اللّه عليه لابدّ عليه أن يقوم بذلك.
وهذا نوع من إعطاء الصلاحيّة للأُمّة بشكل كبير، لا نشاهده في كثير من النظريّات الديمقراطيّة، ولا حتى في نظريات الشورى عند العامّة، هذا رافد أوّل مهم، طبعاً هذا الرافد لا يتصادم مع كون القيادة بيد المعصوم; لأنّ الحكم فعل يقوم به طرفان، والنظام الاجتماعي موجود يقوم على طرفين: الطرف الأول: هو الحاكم القائد المدبّر، والطرف الآخر: القاعدة.
فالقاعدة حيث لا تستجيب، فليس بإمكان المدبّر الكفوء الصالح أن يدبّر ويقود.
ومن لطائف النظريّة الإماميّة، أنّ هذه الرقابة ليست مخصوصة على النظام الذي يرأسه، أو على الحكومة التي يرأسها غير المعصوم، كالفقيه مثلاً الذي هو نائب المعصوم أو عدول صالحي المؤمنين، بل حتى على نظام المعصوم، والسرّ في ذلك أنّ المعصوم من الرسول أو الإمام، وهو وصيّ الرسول، وإن كان معصوماً، إلاّ أنّ جهازه ليس بمعصوم، ومن ثمّ احتاج المعصوم إلى معاونة وإعانة ونصيحة من الأُمّة له، بأن يراقبوا ولاته ووزراءه وشرطته وكلّ أفراد وأعضاء حكومته.
وهذا هو الذي يفسر كثيراً من تعابير أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «فإنّي لست بفوق ما أن أخطئ»[3] (1) عندما تولّى السلطة بعد مقتل عثمان، يشير إلى خطأ الدولة، لا خطأه (عليه السلام) وهو معصوم منزّه عن الخطأ.
وكذلك مثلاً ما حصل من براءة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ممّا فعله خالد بن الوليد، عندما اعتدى على بني أسلم أو بني جمح في فتح مكة، حيث كانت له ترات جاهليّة معهم، وهم قد أسلموا، إلاّ أنّه حاول أن يقتصّ بثاراته الجاهليّة، فتبرأ النبي (صلى الله عليه وآله) ممّا فعله، ثمّ جبر دماء تلك القبيلة.
المهم الذي أُريد أن انبّه عليه، وهو أنّ هذا الرافد ـ وهو رقابة الأُمّة على الجهاز الحاكم ـ لا يختصّ بالولاية أو الحكومة والمحافظة التي يرأسها غير المعصوم، بل حتى في جهاز المعصوم، وهي ليست بمعنى تتصادم مع العصمة.
إنّ كثيراً من الكُتّاب القانونيين أو الحقوقيين أو المؤرّخين أو المفكّرين غير الشيعة من أبناء السنّة أو من كُتّاب المستشرقين، يظنّون أنّ النظريّة الإماميّة، حيث تشترط العصمة، تعني إلغاء دور الأُمّة ورقابة الأُمّة.
وهذا خاطىء جداً، بل إنّ رقابة الأُمّة ـ كما قلنا ـ تكون حتى في زمن المعصوم، وهي من الوظائف اللازمة، وقد شاهدنا في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في حكومته وسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أنّه كان يحرّض الأُمّة على مراقبة الولاة، ومراقبة أُمراء الجيوش، ومراقبة القضاة.
بل في قضيّة المراقبة والرقابة في النظريّة الإماميّة والنظريّة الإسلاميّة حتى لأصل نبوّة النبي (صلى الله عليه وآله) وإمامة الإمام (عليه السلام)، يعطى للمجتمع البشري دوره أيضاً، بمعنى أن يعطى للأُمّة دور في الاستكشاف، يعني لابدّ أن تستكشف النبي (صلى الله عليه وآله) بالمعجزات وما شابه ذلك من الشواهد والبيّنات العقليّة الفطريّة ممّا يدلّل على أنّه نبي أو إمام.
إذاً ليس هناك نوع من تشطيب للعقل البشري أبداً، ولا للوعي البشري، ولا لليقظة البشريّة، ولا للدور الفاعل البشري في نظريّة الإمامة.
وكما ذكرتُ إنّ هذا باب يفتح منه أبواب عديدة، وبحوث وبنود عديدة، وهذا اُسّ من أُسس النظريّة الإماميّة، في حين كون الولاية من الإمام، إلاّ أنّه تبقى الأُمّة لها المراقبة والمشاركة في إقامة كلّ معروف، وزعزعة كلّ منكر ولو بالمشاركة والرقابة، هذا هو الباب الأوّل لمشاركة الناس الموجودة في النظريّة الاماميّة.
النافذة الثانية المهمة لمشاركة الناس في النظريّة الإماميّة:
دور أهل الخبرة، فمن مسلّمات فقه الإماميّة حجيّة قول أهل الخبرة، وهذا نوع من الدور إلى أهل الخبرة، وسنبيّن أنّ هذا نوع من تحكيم دور العلم والكفاءة والأعلميّة والخبرويّة.
وهذا نوع من الرافد الذي يفسح المجال لدور مشاركة الناس حتى في حكومة المعصوم; لأنّه في حكومة المعصوم ليس كلّ الأعمال يقوم بها المعصوم، وإلاّ فكثير من المرافق يقوم بها الجهاز، وهذا الجهاز لابدّ أن يقوم على أُسس، وهذه الأسس هي تحكيم دور الخبرة والعلم، مضافاً إلى أنّهم (عليه السلام) في موارد عديدة ملزمون من قبل اللّه تعالى أن يعملوا بالموازين الظاهرة.
ودور آخر للأُمّة وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان قد ينشعب من الدور الأول، لكن قد يجعل قسماً بإزاء القسم الأول قائماً مستقلاًّ بحياله، يعني من الواجب على كلّ فرد فرد أن يحافظ على وعي المجتمع وثقافة المجتمع الصالحة، فلا يسمح لكلّ فرد أن يصادر الوعي العام، وأن لا يقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا ريب أنّ هذا الفكر هو إرادة اجتماعيّة ضاغطة على نظام الحكم، أنّه نوع من الحكومة بشكل آخر، وهي حكومة المجتمع أيضاً، بحيث هي تحكم على النظام الحاكم، أو تحكم على الأفراد، أو تحكم على بقيّة مرافق القوّة في المجتمع.
وهذا رافد مهم جدّاً «لتأمرون بالمعروف وتنهن عن المنكر أو ليستعملن عليكم شراركم»[4]، فإذا كانت البيئة الفكريّة والنفسيّة الاجتماعيّة سالمة، تكون صائنة ومعقّمة عن وصول موجود خبيث في رأس نظام الحكم، بل أمان عن أيّ انحراف جائر في المجتمع، وهذا أيضاً نوع من المشاركة للمجتمع.
ودور آخر للمجتمع للمشاركة في تقرير المصير، وهو دور أصل إقامة الحكم أو زعزعته ـ كما ذكرنا ـ أو مناصرة الحكم أو المقاومة، وبعبارة أُخرى: يكون لهم في كلّ فعل حكومي صالح المشاركة بشكل إيجابي، ويكون لهم في كلّ فعل حكومي نظامي المعاوقة بشكل سلبي دور سلبي باتجاهه. فهذه أدوار أربعة أو أكثر للمجتمع في المشاركة لا تخلو عن أهميّة كبرى.
* آية الله الشيخ محمد سند - بتصرّف
[1] التوبة ( 9 ): 71.
[2] بحار الأنوار 44: 329، أبواب ما يختص بتاريخ الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية.
[3] مصباح البلاغة ( مستدرك نهج البلاغة ) 2: 69.
[4] الكافي 5: 56، كتاب الجهاد، باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحديث 3.