لم تتبن الفلسفة السياسية الغربية الحرية بنحو مطلق، كذلك الفقه الذي يرى حدودا لهذه الحرية لا ينبغي تجاوزها.. وتسعى هذه الدراسة لبيان عدم وجود أي نوع من التعارض بين الإسلام ومصادر التشريع (الكتاب- السنة) وبين الحريات الفردية، المدنية والسياسية.
هذه الدراسة للباحث الإيراني محمد حسن قدردان ملكي, صادرة عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي عام 2008، وهي تعتمد على أسلوب البحث الفقهي، وتستعرض الرأي الفقهي أولا، ثم تعالج ذلك الرأي من خلال الرجوع إلى الأدلة الفقهية وملاحظتها (الكتاب- السنة- الإجماع) ثانيا.
وتسعى الدراسة للمقارنة بين بعض الآراء الفقهية ونظريات يتبناها بعض فلاسفة السياسة الغربيين والحقوقيين منهم, وذلك من خلال استعراض الأدلة الفقهية للحرية؛ لإظهار ضعف مقولة التنافي بين الدين والحرية.
الحرية ذلك المجهول
يبدأ المؤلف بتعريف الحرية تعريفا قاموسيا -في لغته الفارسية- حيث تأتي الكلمة بمعنى التخلص -الخلاص- التسلط على الفعل -الاختيار- ضد العبودية والأسر والإجبار.
ويشير إلى وجود نوعين من الحرية هما: الحرية التشريعية، والحرية الاعتبارية
فالحرية التشريعية يعرفها بأنها مجموعة من الحقوق التي يمتلكها الشخص الحر بشكل طبيعي أو تعاقد
أما الاعتبارية فتخص وجوده في المجتمع بوصفه كائنا اجتماعيا.
ويطرح الكاتب هنا أصناف الحريات الفردية مدللا عليها من وجهة النظر الفقهية، ومن بين هذه الحريات: حرية الحياة
ومن الموارد الفقهية في هذا القسم: حرمة القتل بصفة عامة، وحرمة قتل الإنسان نفسه (الانتحار)، وحرمة الإجهاض، وحرمة الاغتيال.
أما قيود هذه الحرية من الناحية الفقهية فتتمثل في القصاص، وارتكاب بعض الذنوب كاللواط والزنا، والارتداد، والإفساد في الأرض.
وتحت عنوان: "حرية الإقامة والتنقل" يقول المؤلف إن الأصل فيها الإباحة، وقد شكل هذا النص مادة قانونية في دستور الجمهورية الإسلامية، ورأى أن القيد الوحيد الذي لاحظه التشريع الديني والفقهي لهذا النوع من الحرية يرتبط بالبعد المعنوي للإنسان، بمعنى أن الإنسان وإن كانت له حرية التنقل واختيار مكان لعيشه إلا أنه لابد أن يلحظ في اختياره لمحل إقامته وعيشه الحفاظ على دينه وإيمانه.
ومن النتائج الأساسية المترتبة على حرية التنقل والإقامة: عدم جواز حبس الإنسان أو توقيفه أو نفيه، سواء كان ذلك بشكل مؤقت أو دائم
ولكن هذا الأصل مقيد ببعض القيود كسائر الأصول الأخرى؛ ففي الفقه مثلا يشكل "أصل البراءة" من أي نوع من الحكم أو العقوبة الأساس الذي تقوم عليه حرية الإنسان، وهذا الأصل هو المدون في دستور الجمهورية الإسلامية، وقد كان محل تأييد من قبل الفقهاء ومنهم الإمام الخميني، وقد ورد فيه: "الأصل هو البراءة، ولا يعتبر أي مواطن مجرما من وجهة قانونية إلا أن يثبت ذلك في المحاكم الرسمية"، ولا يمكن حبس أحد إلا بحكم قد ورد تعيينه في القانون.
وقد اتفق الفقهاء على أن من صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة إجراء الأحكام والحدود القضائية، ويرى الكثير منهم أن إجراء الإحكام الجزائية في الإسلام هو بيد الفقيه والحاكم الشرعي فقط، وأنه لا يصح لغيره من سائر الناس التصدي لإجراء الأحكام من عند أنفسهم، بل إن من يقوم بذلك يعاقب عليه.
ومن الحريات التي يشير إليها الباحث "حرية التملك"، والتي تعد من المسلمات الفقهية؛ بمعنى ملكية الإنسان لأمواله، وعمله والجهد الذي يبذله، وحرية التصرف فيه، ونفي أي حق للغير في التسلط عليه؛ وهو ما يعبر عنه بـ"قاعدة السلطنة"، وأساس هذه القاعدة هو الرواية المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس مسلطون على أموالهم» وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيها أن حرمة المال كحرمة الدم إذ قال: «حرمة ماله كحرمة دمه».
وفي ذلك يذكر الشهيد المطهري:
أن الإسلام يقر أصل الملكية الفردية، نعم ثمة فوارق بين ما يقر به الإسلام تحت عنوان الملكية، وبين ما هو موجود في النظام الرأسمالي، وليس هنا موضع بحث ذلك.. وإن لازم الملكية الفردية هو (التبادل)، وقد أقر الإسلام مجموعة من القواعد للتبادل ومن جملتها هذا الأصل، أي إن الثروة لا ينبغي أن تنال بالطرق الباطلة؛ بمعنى أن المال والثروة التي تنتقل من يد إلى يد أخرى، ومن يد المصنع لها إلى يد ثان، ثم إلى يد شخص ثالث، لابد أن تكون مقابل فائدة مشروعة تعود على صاحب الثروة.
الحرية المدنية
ويرى المؤلف أن الحريات المدنية لا تنحصر في الحقوق الفردية، بل تشتمل إضافة إلى ذلك على سلسلة من الحقوق والحريات التي تكون دائرتها أوسع من الحقوق الفردية المتعارفة؛ فشمول الحريات المدنية للحريات الفردية، ولما هو أوسع منها، ينسجم بشكل واضح مع تفسير الحرية بأنها نفي السلطة والجبر الخارجي، ولو جعلنا الحرية ضمن دائرة القانون فإن منشأ الحريات المدنية لن يكون هو الأفراد، بل القوانين الاجتماعية المشروعة والدولة؛ وبهذا يكون لهذه الحريات تعريفها الخاص.
الفارق الثاني بين الحريات الفردية والحريات المدنية هو الفرد نفسه، والذي قامت الليبرالية الكلاسيكية للدفاع عنه، وأما الحريات المدنية فهي أوسع من ذلك؛ إذ إن موضوع الحريات الفردية قد يكون هو الجماعات، أو الأحزاب أو المجتمع كله؛ ولأجل الوصول إلى مثل هذه الحرية لا تكفي الحريات الفردية، بل تتوقف على تشكيل الجماعات والمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعروفة، والتي لها حقوقها الخاصة.
ويؤكد المؤلف على أمر مهم وهو:
أن الإسلام يسعى لتأمين الحاجات الاقتصادية والمادية للإنسان، ويعطي ذلك أهمية خاصة؛ وذلك خلافا لبعض الأديان، فتأمين الحقوق والحاجيات المادية والدنيوية هو جزء من المشروع الإسلامي، ومن خلال النهي عن العزوف عن الدنيا يدعو الإسلام إلى التنعم بالنعم الإلهية، ومثال ذلك ما ورد في بعض الروايات من أن الفقر كاد أن يكون كفرا.
حرية العقيدة
ويحدد المؤلف المراد من حرية العقيدة بأنه:
حرية الإنسان في اختيار الرأي والفكرة التي يريدها من بين الآراء والأفكار المختلفة في الموضوعات المختلفة، فقد يتخذ الإنسان موقفا محددا عند مواجهته لقضية من القضايا، ولكنه بعد تحليل تلك القضية، والموازنة بين مختلف الآراء إما أن يتمسك برأيه الأولي ذاك، أو أن يعدل عنه إلى رأي آخر أو اعتقاد مختلف, كما أن حرية العقيدة تشمل مختلف المجالات السياسية، الفكرية، والأخلاقية، والعلوم النظرية والتجريبية، والفن ولاسيما في مسألة الدين؛ فللإنسان بعد أن يقوم بدراسة نظريات الدولة اختيار شكل خاص من هذه النظريات.
وفي هذا الموضوع يقول الشهيد المطهري:
يوجد فرق بين حرية التفكير وحرية العقيدة؛ فحرية التفكير تنشأ من هذا الاستعداد الإنساني عند البشر بالقدرة على التفكير في الأمور, وهذا الاستعداد البشري لابد من أن يكون حرا، وتطور البشرية وتقدمها مرهون لهذه الحرية.
أما حرية العقيدة فلها خصوصية أخرى؛ فليست كل عقيدة تنشأ من تفكير صحيح وسليم؛ إذ إن منشأ الكثير من العقائد هو مجموعة من العادات والتقاليد والعصبيات، والعقيدة بهذا المعنى لا يقتصر أمرها على سد الطريق، بل هي نوع من ردة فعل معاكسة؛ حيث إن فكر الإنسان في مثل هذه الحالة ينغلق ويقفل بدلا من أن يكون منفتحا وفعالا، وبهذا تصبح قوة الفكر الإنساني، وبسبب هذا الانغلاق والتحجر، أسيرة في داخل هذا الإنسان، وحرية العقيدة في هذه الحالة تصبح غير مفيدة، بل يترتب أسوأ الأثر على المستوى الفردي والاجتماعي.
أما حرية العقيدة فتظهر في نفي الإكراه والإجبار في الدين.. إن أشهر آية في هذا المجال، هي قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}, فهذه الآية نزلت في بعض أبناء الأنصار في المدينة الذين اعتنقوا اليهودية، فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة أراد آباء هؤلاء أن يكرهوا أبناءهم على الإسلام، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فنزلت الآية.
والملاحظة الأخرى -كما يقول مطهري- هنا هو أن هذه الآية لم تنزل في مكة؛ حيث كان الإسلام ضعيفا حتى لا يدعى أن الآية كانت في زمان ضعف الإسلام، وعدم امتلاكه للقوة، وأنها قد نسخت بآيات القتال والسيف، كما يرى بعض المفسرين.
الحريات السياسية
ويعرف المؤلف الحريات السياسية على النحو التالي:
إعطاء حرية العمل للمواطنين أو الجماعات والأحزاب من قبل الحكومة؛ للمشاركة في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية، سواء كان ذلك لتأييد الدولة القائمة أم لمعارضتها.
وبشكل عام نلحظ أن الحريات السياسية بالمقايسة مع الدولة من جهتين:
الجهة الأولى: دور الحرية السياسية في تشكيل نوع الحكومة وتعيين الحاكم؛ وهل يتمكن المواطنون ومن خلال الاعتماد على الحريات السياسية من تعيين الحاكم الذي يريدونه أم لا؟
والجهة الثانية: دور الناس والحريات السياسية في استمرار الحكومة وإدارتها؛ وهل لرأي الناس دور أساسي في كيفية إدارة الدولة وتعيين المناصب أم لا؟ فالمشاركة في الانتخابات، كالبرلمان، والبلديات، ورئاسة الجمهورية هي من المصاديق البارزة للحرية السياسية..
إن الناس أحرار في اختيار السلطة الحاكمة، ولا يمكن فرض سلطة محددة عليهم، فلو فرضنا أن الناس لم يرضوا بإقامة الدولة الإسلامية فإنه لا يمكن إقامة مثل هذه الدولة بالقهر والغلبة.
حرية الأحزاب
من الأسئلة المثيرة للجدل داخل الحركة الإسلامية السؤال عن مدى إمكانية القيام بنشاط حزبي في الدولة الإسلامية؟ وقد طرحت الدراسة هذا التساؤل وحاولت الإجابة عليه من عدة جوانب؛ وذلك لأن هناك تعريفات فقهية متعددة للدولة الإسلامية، وكذلك الحال في نظريات مشروعيتها ونظرية ولاية الفقيه، وقد حاولت الدراسة الإجابة من خلال ملاحظة عدة نظريات هي: التعيين المحض، والمشروعية الإلهية, والمشروعية الشورية.
أما على أساس نظرية التعيين المحض
فإن دور الناس وكذلك دور الأحزاب في التأثير على السلطتين التشريعية والتنفيذية لابد أن يتم من خلال إذن الولي الفقيه بذلك، وفي هذا الفرض يتم إعطاء نوع من الحرية لنشاط الأحزاب الموالية، وعلى أساس ذلك يتم فرض شروط خاصة على تصدي أصحاب الشأن السياسي كنواب المجلس ورئاسة السلطة التنفيذية، ويكون ذلك موجبا لسلب أو تضييق تأثير المعارضين، وكثيرا ما تكون هذه الشروط أو عملية تفسير هذه الشروط سببا لتضييق حقوق الجناح الآخر.
ومع ذلك، فإنه لابد من فتح المجال أمام حرية النقد والتعبير عن الرأي المخالف، ما دام لا يصدق عليه عنوان الجرم، وعلامة ذلك أن يكون موجبا للإخلال بالأمن الوطني أو مخالفا للأدلة الشرعية.
ولكن يبقى السؤال: هل للأحزاب أن تقدم على تغيير السلطة من خلال دعوة الناس إلى ذلك بالاعتماد على الطرق القانونية؟
تجيب النظرية المذكورة أعلاه بالنفي؛ لأن حفظ الدولة الإسلامية من الواجبات؛ ولذا تتبنى نظرية التعيين القول بأن حفظ الدولة الإسلامية مشروع وواجب حتى مع عدم رضا الأكثرية، ويصح استخدام أي وسيلة ممكنة حتى العنف لأجل حفظ النظام، ويتجه هؤلاء للمنع من أدنى نشاط سياسي للمعارضة بحجة حفظ النظام.
وأما على أساس نظرية المشروعية الإلهية أو نظرية الشورى
فإن الالتزام بوجود دور للناس في تأسيس الدولة واختيار الولي واستمراره يسمح تبعا لذلك بالحريات السياسية للأحزاب بشكل واسع، فللإمام الخميني كلام حول أصل الانتخاب والاستفتاء على الجمهورية الإسلامية يقول فيه: "إن ما أتوقعه من الشعب الكريم أن يعطي رأيه لصالح الجمهورية الإسلامية؛ فهو الطريق الوحيد في مسيرة الثورة الإسلامية، وللمعارضين ذلك الحق في التعبير عن معارضتهم، وعلى العلماء الأعلام في المدن والقرى والقضاة وسائر الناس أن لا يسمحوا لأحد بسلب هذه الحرية من أحد، والعمل على أن يعطى كل إنسان رأيه بحرية تامة"، "إن المعارضين للجمهورية الإسلامية لهم حرية الرأي".
حرية الأقليات
والدليل الفقهي بحسب المؤلف على ثبوت حرية العقيدة لأهل الكتاب هو سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، وسيرة الإمام علي عليه السلام؛ حيث نجد اعترافا بحرية العقيدة لهم؛ ونموذج ذلك عقد الصلح الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بعد قيام الدولة الإسلامية.
وكذلك العهود المتعددة التي عقدها الإمام علي عليه السلام، والتي تعرضت لها المصادر التاريخية، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك، ولذا يؤكد الإمام الخميني في كتبه الفقهية وخطاباته على هذا الأمر: "لكافة الأقليات الدينية في إيران الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية والاجتماعية، والدولة الإسلامية موظفة بالدفاع عن حقوقهم وأمنهم، وهم محترمون كسائر مواطني إيران من المسلمين".