أنكر الماديون الشخصية اللامادية للإنسان، وقالوا: إنها كلام فارغ بناءً على أصلهم من أن المادة التي تُرى هي الموجود الوحيد، أما ما ينسب للنفس والعقل من أفعال وآثار فهي آثار للجسم لا للعقل وأفعال للمادة لا للنفس تماماً كالجمع والطرح والضرب ينسب إلى العقل الالكتروني وتسجيل درجة الحرارة إلى ميزانها الطبي (الترمومتر)!
وما أبعد ما بين هؤلاء وبين ديكارت الذي قيل عنه من جملة ما قيل: انه أبو الفلسفة الحديثة. ووجه البعد أن ديكارت استدل على وجود الجسم الذي يراه بوجود الفكر الذي لا يراه، دون العكس، وذلك حيث قال: أنا أفكر فاذن أنا موجود. ولم يقل: أنا موجود فإذن أنا أفكر لأن الحقائق الرياضية لا يعترضها الشك على العكس من الحقائق الطبيعية. ومثله تماماً قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) في الحكمة 281 من نهج البلاغة: "قد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه".
وسأذكر هنا سؤالين من أستاذ شهير وجوابنا عنهما:
السؤال الأول: هل ترشدني إلى دليل واضح قصير وبسيط على وجود الله يتناسب مع ادراك الصبيان كي أعلمه لتلاميذي؟ وكان الوقت ليلاً، قلت له: أرشدك إلى دليلين لا إلى دليل واحد، وخذ الدليل الأول من الله سبحانه بنصه وحروفه، وليس فيه حرف واحد لغيره، وكأنه، جلت حكمته، قد خاطب به الصبيان ومن هو في مستوى عقولهم.. احفظ الآية الآتية وحفّظها صبيانك، واسأل كل واحد منهم: ماذا فهم منها، ودعه يتكلم بما يفهم، ثم عقب على كلامه بما تراه مناسباً.
وهذه الآية الكريمة الجلية: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) فهل تريد دليلاً أقوى وأبلغ وأبسط وأوضح من هذا الدليل؟
قال: عظيم، فأين الدليل الثاني؟ قلت له: أتنكر هذه اللمبة التي نستضيء بنورها؟ قال: وكيف أنكر نوراً أستضيء به؟ قلت: لو أنكرتها لكنت تماماً كمن ينكر وجود أديسون الذي أعطانا هذه اللمبة.. أبداً لا فرق بين إنكاره وإنكارها، أليس كذلك؟ قال: بلى، بكل تأكيد. قلت: هل هذه اللمبة ونورها أعظم من الشمس ونورها؟ ولا أقول لك الكون بمن فيه وما فيه. قال: الشمس ونورها أعظم، ما في ذلك ريب، قلت: كذلك إنكار خالق الشمس ووجوده هو انكار لوجود الشمس ونورها تماماً كإنكار الكهرباء المستلزم لإنكار أديسون.
قال في سؤاله الثاني: ولكن يقولون: إن الكون بشمسه وكل ما فيه ومن فيه قد وجد صدفة وتلقائياً. قلت: ولماذا لم توجد اللمبة صدفة؟ حتى عود الثقاب وجد بسبب. قال: زدني. قلت: لو صدقت الصدفة كقانون لما كان في الدنيا علوم وقوانين ولا مصانع ومختبرات ولا مدارس وجامعات.
قال: ولماذا؟ قلت: العلم هو انتقال من جزئي مشاهد ومحسوس إلى قاعدة كلية تنطبق على جميع أفرادها طرداً وعكساً لأن من أخص خصائص العلم الشمول والعموم وإلغاء كل ما هو خاص. مثلاً ـ لاحظ نيوتن سقوط التفاحة من الشجرة، فسنّ قانون الجاذبية وقال: كل جسم فيه قوة جاذبة كما فيه قوة سالبة دافعة: ولو صحت الصدفة وصدقت، ما ساغ لنيوتن وغيره أن يؤمن ويوقن بالجاذبية ولا بأية قاعدة علمية إطلاقاً.
* فلسفات أخلاقية - بتصرّف