عوامل ساعدت على ظهور الخوارج
و بعد . . فلم يكن ظهور الخوارج في مناسبة حرب صفين أمراً عفوياً وليد ساعته ، و إنما كان ثمة أجواء و مناخات ، و عوامل و أسباب ساعدت على ظهورهم ، و نذكر منها :
العامل الثقافي الناقص أو المنحرف ، حيث كانوا في الأكثر أعراباً جفاة ، لم يستضيئوا بنور العلم ، و لا اهتدوا بهدى العقل .
إن أكثرهم كانوا من تميم ، و هي من ربيعة ، و كانت القبائل الربيعية ـ حسبما يراه البعض ـ تحسد قريشاً على استيلائها على الخلافة ، و بينها و بين مضر إحن جاهلية ، خفف الإسلام من حدتها ، و لم يذهب بكل قوتها . و لعل لأجل ذلك نجد أبا حمزة الخارجي حينما غزا المدينة كان يقتل القرشي و يدع الأنصاري ، كما أن الأصمعي يصف الجزيرة بأنها خارجية ، لأنها مسكن ربيعة ، و هي رأس كل فتنة .
لقد شاع عن الخوارج : أنهم من الزهاد و العباد حتى اعتقد كثير من الباحثين : أن ثورتهم كانت خالصة لله تعالى ، و لم يكن للدنيا في تفكيرهم أي نصيب . و لكن الذين يبدو هو أن الدنيا كانت تستأثر بجانب كبير من تفكيرهم ، و اهتماماتهم ، و قد كان لمفاهيمهم الجاهلية ، و عصبياتهم القبلية و مصالحهم الشخصية ، و أملهم بالفوز و النصر أثر كبير في إصرارهم على موقفهم ذاك من علي عليه السلام ، و الذي كان مبنياً على حالة من الشك و التردد كما صرحوا به أنفسهم ، و كما صرح به الإمام الصادق عليه السلام . أما موقفهم من الأمويين و غيرهم من حكام الجور فقد كان لهم فيه مقالاً ـ كما عن علي عليه السلام ـ و لم يكن لديهم أدنى شك في صحته و سلامته . و لكن ذلك لا يعني أنهم في حربهم لهم لا يطلبون الحكم و السلطان ، أو الحصول على شيء من حطام الدنيا أيضاً ، فإن ذلك كان مد نظرهم ، و مطمح نفوسهم ، و كشاهد على كل ما تقدم نذكر :
ألف ـ إن علياً عليه السلام يقول عنهم : " غرهم الشيطان ، و أنفس بالسوء أمارة ، غرتهم بالأماني ، و زينت لهم المعاصي ، و نبأتهم بأنهم ظاهرون " .
و يدل على صحة ذلك : ما كانوا يرتكبونه من جرائم و موبقات في حق الأبرياء حتى النساء و الأطفال ، و حتى قبل معركة النهروان أي قبل أن يضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدياً يبيح لهم تلك العظائم و الجرائم .
ب ـ إن من جملة ما نقموه على علي عليه السلام : أنه لم يقسم بينهم السبي في حرب الجمل ، كما قسم بينهم الغنائم .
ج ـ إن شيخاً منهم بعد أن رجع عن مقاتلتهم أخبر عنهم : أنهم كانوا إذا هووا أمراً صيروا حديثاً .
د ـ إن شبيب بن يزيد الشيباني قد طلب من عبد الملك أن يفرض له في أهل الشرف ، فرفض ، فغضب و جمع الرجال ، و خرج عليه يحاربه .
و قد أخذ أتباعه عليه ، أنه كان لا يطبق التعاليم الخارجية على قومه . أما نجدة الخارجي ، فلم يعاقب رجلاً كان يشرب الخمر في معسكره ، بحجة أنه شديد النكاية على العدو . و بعض زعمائهم و هو عبيدة بن هلال يتهم بامرأة حداد ، فيحتال خليفتهم ( قطري بن الفجأة ) لتبرئته .
هـ ـ و في بعض حروبهم : ( جعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها ، و السوط ، و العلف ، و الحشيش ، أشدّ قتال ) .
و ـ و زياد بن أبيه يولي أحدهم سابور و يرزقه أربعة آلاف درهم كل شهر ، فيلزم الطاعة ، و لا يفارق الجماعة ، على حدّ تعبيرهم ، كما أن زياداً حينما يعطيهم ما يركبون يقبلون بالتردد عليه ، و السمر عنده .
ز ـ بل إننا نجدهم مستعدّين لان يقتل بعضهم بعضاً في قِبال إطلاق سراحهم من سجن ابن زياد .
إلى غير ذلك من الشواهد التي لا مجال لتتبعها .
4 ـ إن العراق الذي كان على اتصال مباشر بغير العرب قبل فتحه في عهد عمر بن الخطاب ، الذي كان له سياسة خاصة في تمييز العرب على غيرهم ، كان ينظر إلى الخليفة الثاني نظرة خاصة متميزة ، حتى إن علياً لم يستطع أن يمنع جنده من صلاة التراويح حيث تنادوا : يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر ، كما لم يستطع أن يعزل شريحاً عن القضاء ، لأنه منصوب من قبل عمر ، و قد بايعوه على أن لا يغير شيئاً مما قرره أبو بكر و عمر ، على حد تعبيرهم . و أصحاب الجمل أيضاً قد نادوا بأمير المؤمنين : أعطنا سنة العمرين ، و قال الخوارج لقيس بن سعد : " لسنا متابعيكم أبداً أو تأتونا بمثل عمر " إلى غير ذلك مما يدل على عظمة الخليفة الثاني في نفوس الناس و الخوارج بالذات .
و ما اشتهر من أن الكوفة كانت علوية ، فإنما كان ذلك بعد استيطان علي عليه السلام لها ، و بذله الكثير من الجهود في سبيل توعية أهلها على الكثير من الحقائق التي كان لا بُدَّ لهم من التعرف عليها . و من ذلك مناشدته للناس بحديث الغدير في رحبة الكوفة ، و في صفين ، و إخباراته الغيبية الكثيرة لهم ، و منه إخباره بمصير أهل النهروان ، و بحديث المخدّج ، و غير ذلك .
و مع ذلك فلم يكن في الكوفة خمسون رجلاً يعرفونه حق معرفته ، و حق معرفة إمامته كما عن الإمام الصادق ، و إنما يحاربون معه وفاء بالبيعة التي كانت له في أعناقهم ، بالإضافة إلى ما سمعوه من وعن النبي صلى الله عليه و آله في فضله الأمر الذي جعل له مكانة و احتراماً خاصاً لديهم .
5 ـ إن العراق قد فتح في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ليواجه الحياة العسكرية ، و يتحمل آثارها النفسية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية . و إذا كان يرافق ذلك عدم توفر العمق الإيماني إلا في حدود العواطف و الأحاسيس و عدم توفر العناية الكاملة بالتربية الإسلامية ، و التأهيل لاستيعاب التعاليم الإلهية ، ثم التفاعل معها بالشكل المناسب و المقبول ، و المفاهيم الجاهلية ، و الأهواء ، والطابع المميز للحياة آنئذٍ ، و لاسيما على مستوى الزعامات القبلية ، مع فارق وحيد ، و هو أن ذلك أصبح يتلون و يتلبس باسم الدين ، و يستفاد منه في التمرير و التبرير ، و الدين من ذلك كله برئ .
6 ـ إن الذين حاربوا علياً في وقعة الجمل ، و الذين يتعاطفون مع عثمان في محنته التي تعرض لها ، قد أصبحوا الآن في جيش علي عليه السلام فقد كان حي الناعطين في الكوفة عثمانياً ، كما أن الناس كانوا بعد حرب صفين ، فيهم المعجب بنتائجها ، و فيهم الكاره ، و الغاش و الناصح كما يقولون . و إذن . . فليس لنا أن نتوقع من هؤلاء بملاحظة حالتهم الثقافية الدينية ، و علاقاتهم القبلية ، و غير ذلك ، أن يكونوا مخلصين له كل الإخلاص . و لاسيما و أنهم هم الذين يتحملون أعباء الحرب و آثارها لا يرون أنهم يحصلون في مقابل ذلك على نفع يذكر حسب مقاييسهم و مفاهيمهم عن الربح و الخسران في حالات كهذه .
و إذا كان علي عليه السلام لا يقيم وزناً للزعامات القبلية و يقيم علاقاته معها على أساس ما تملكه من معان إنسانية نبيلة ، و ما تقدمه من خدمات في سبيل الدين و الإنسان ، و لم يكن ليميّز أحداً على أحد مهما كانت الظروف و الأحوال . و إذا كان أهل الشام يعتبرون قضية معاوية قضيتهم ، و مصيره مصيرهم ، و هو يبذل الأموال فيهم ، و يشتري الرجال ـ إذا كان كل ذلك ـ فإن الفرصة تكون مواتية لمعاوية ليصطاد الزعامات القبلية في عراق علي بالذات ، و يتحفهم بالأموال و الأماني سراً و جهراً ، و يكيد بهم علياً و الإسلام . و لم يكن ثمة مناعات أو حصانات كافية للوقوف في وجه أمر كهذا ، حسبما تقدم .
تركيبة الخوارج
أما تركيبة الخوارج ، فلم تكن لتشجع على التفاؤل ـ فبالإضافة إلى أنهم أعراف جفاة يهيمن عليهم الجهل و القسوة ـ قد كانوا أخلاطاً من العرب و الموالي ، و العرب منهم يحتقرون الموالى . كما أن معظمهم كان من السفلة فلم يكونوا من أهل البيوتات المعروفة بالشرف و السؤدد ، و لا كان ثمة تقارب في المآرب و الأغراض التي كان كل منهم يطمح إلى تحقيقيها ، و لذا . . فقد كان من الطبيعي أن تكثر بينهم التحزبات و الإنقسامات ، و ليترك ذلك آثاراً بارزة على قدراتهم ، و فعالية مواقفهم و حركاتهم .
1892 مشاهدة | 02-11-2017