إنّ القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته ينقد أقوال الصحابة وأفعالهم بوضوحٍ، كما أنّه في بعض آياته يثني على طائفةٍ منهم، فمن الخطأ أن نركّز على طائفةٍ دون طائفةٍ، فها نحن ندرس في هذا الفصل بعض الآيات التي تنقد أفعالهم وآراءهم، كما ندرس في الفصول القادمة الآيات المادحة.
تنبّؤ القرآن بارتداد لفيفٍ من الصحابة
القرآن يتنبّأ بإمكان ارتداد بعض الصحابة بعد رحيل الرسول(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وذلك لمّا انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحد وقُتل من قُتل منهم. يقول ابن كثير: نادى الشيطان على أنّ محمّداً(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قتل. فوقع ذلك في قلوب كثيرٍ من الناس، واعتقدوا أنّ رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد قُتل، وجوّزوا عليه ذلك، فحصل ضعفٌ، ووهنٌ، وتأخّرٌ عن القتال، روى ابن نجيح عن أبيه أنّ رجلاً من المهاجرين مرّ على رجلٍ من الأنصار وهو يتشحّط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أنّ محمّداً(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمّدٌ قد قُتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل اللّه سبحانه قوله: {وَما مُحمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ ماتَ أَو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيئاً وَسَيَجْزي اللّهُ الشّاكِرين}.
والظاهر من الارتداد هو الأعمّ من الارتداد عن الدين الذي جاهر به بعض المنافقين والارتداد عن العمل كالجهاد، ومكافحة الأعداء، وتأييد الحقّ إنساء ما أوصى به رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).
وهذه الآية تخبر عن إمكانية الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل الرسول، فهل يمكن أن يوصف بالعدالة التامّة الّتي هي أُخت العصمة من كان يُحتمل فيه تلك الإمكانية؟ ولذلك ترى أنّهم لا يرضون بنقد آراء الصحابة وأقوالهم.
ترك الرسول قائماً وهو يخطب
بينا رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يخطب الجمعة قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى لم يبق معه إلاّ اثنا عشر رجلاً. فقال رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتّى لا يبقى منكم أحدٌ سال لكم الوادي ناراً، فنزلت هذه الآية:{وَإِذا رَأوا تِجارةً أَو لَهْواً انفضّوا إِليها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّه خَيْرٌ مِنَ اللَّهو وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللّهُ خَيرُ الرّازِقين}(الجمعة: 11).
أفمن يقدّم اللهو والتجارة على ذكر اللّه ويستخف بالنبيّ، يكون ذا ملكةٍ نفسانيّةٍ تحجزه عن اقتراف المعاصي واجتراح الكبائر، ما لكم كيف تحكمون؟
-خيانة بعض البدريّين
يقول سبحانه:«وَما كانَ لِنَبىّ أن يغُلَّ وَمَنْ يَغْلُل يَأْتِ بِما غَلَّ يَوم القِيامَةِ ثُمّ توفّى كُلّ نَفس ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلمُون}(آل عمران: 161).
قال ابن كثير: نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعلّ رسول اللّه أخذها فأكثروا في ذلك، فأنزل اللّه:{وَما كانَ لِنَبيّ أن يغلّ وَمَنْ يَغْلل يَأْتِ بِما غلّ يَوم القِيامَة} وهذا تنزيه له (صلوات اللّه وسلامه عليه) من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة، ثمّ تبيّن أنّه قد غلّ بعض أصحابه} .
والآية تعرب عن مدى حسن ظنّهم واعتقادهم برسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حتّى اتّهموه بالخيانة في الأمانة وتقسيم الأموال، ثمّ تبين أنّه قد غلّه بعض أصحابه، فهؤلاء الجاهلون بمكانة النبي، أو من مارس الخيانة في أموال المسلمين لا يوصفون بالعدالة.
فاسقٌ يغرّ النبيّ وأصحابه
يقول سبحانه: {يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمين}(الحجرات:6).
أمر اللّه سبحانه بالتثبّت في خبر الفاسق ليحتاط له؛ لئلاّ يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً، قال ابن كثير: قد ذكر كثيرٌ من المفسّرين أنّ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) على صدقات بني المصطلق إلى حارث بن ضرار، وهو رئيسهم، ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة، فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق ـ أي خاف ـ فرجع حتّى أتى رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال: يا رسول اللّه إنّ الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبعث البعث إلى الحارث(رضي اللّه عنه)، وأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث. فلمّا غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إنّ رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة وأردت قتله، قال رضي اللّه عنه: لا والذي بعث محمّداً(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالحقّ ما رأيته بتة ولا أتاني، فلمّا دخل الحارث على رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: منعتَ الزكاة و أردتَ قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحقّ ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) خشيت أن تكون سخطةً من اللّه تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: {يا أيُّها الّذين آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسق بنبأ} إلى قوله: {حكيم} .
- تنازعهم في الغنائم إلى حدّ التخاصم
إنّ صحابة النبي بعد انتصارهم على المشركين في غزوة بدر، استولوا على أموالهم وتنازعوا فيها إلى حدّ التخاصم، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ.
وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحقّ بها منّا، ونحن منعنا عنه العدوّ وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول اللّه: لستم بأحقّ بها منّا، نحن أحدقنا برسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّةً، واشتغلنا به فنزل: {يسألونك عن الأنفالِ قُل الأَنفالُ للّهِ والرَّسُولِ فاتَّقُوا اللّه ذات بَيْنِكم وأَطيعوا اللّه ورسوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤمنين}(الأنفال:1).
قال ابن كثير: سأل أبو أمامة عبادة عن الأنفال؟ قال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه اللّه من أيدينا وجعله إلى رسول اللّه، فقسّمه رسول اللّه بين المسلمين عن سواء .
- استحقاقهم مسَّ عذاب عظيم
كانت السنّة الجارية في الأنبياء الماضين أنّهم إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم ينكّلون بهم بالقتل ليعتبر به من وراءهم حتّى يكفّوا عن عدائهم للّه ورسوله، وكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ويستقر دينهم بين الناس، فعند ذلك لم يكن مانعٌ من الأسر، ثمّ يعقبه المنّ أو الفداء.
يقول سبحانه في آيةٍ أُخرى: {فإذا لَقِيتُمُ الّذين كَفَروا فَضربَ الرِّقابِ حتّى إِذا أَثخَنْتُموهُمْ فَشدّوا الوَثَاقَ فإِمّا منّاً بعدُ وإِمّا فِداء}(محمد:4)، فأجاز أخذ الأسر، لكن بعد الإثخان في الأرض واستتباب الأمر.
غير أنّ لفيفاً من الصحابة كانوا يصرون على النبي بالعفو عنهم، وقبول الفداء منهم (قبل الإثخان في الأرض)، فأخذوا الأسرى، فنزلت الآية في ذم هؤلاء، وعرّفهم بأنّهم استحقوا مسَّ عذابٍ عظيمٍ لولا ما سبق كتابٌ من اللّه، يقول سبحانه: {ما كان لنبيّ أن يكونَ لَهُ أَسرى حتّى يُثخِن فِي الأَرض تُريدُونَ عَرَض الدُّنيا وَاللّهُ يُريدُ الآخرة واللّهُ عَزيزٌ حَكيم * لَولا كِتابٌ مِنَ اللّه سَبق لَمَسَّكُم فيما أخذتُمْ عذابٌ عَظيم}(الأنفال:67 - 69).
- الفرار من الزحف
لقد دارت الدوائر على المسلمين يوم أُحد، لأنّهم عصوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم على الجبل طمعاً في الغنائم، فأصابهم ما أصابهم من الهزيمة التي ذكرتها كتب السيرة والتاريخ على وجهٍ مبسوطٍ. وبالتالي تركوا النبيّ(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في ساحة الحرب وليس معه إلاّ عددٌ قليلٌ من الصحابة، ولم تنفع معهم دعواته(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالعودة إلى ساحة القتال ونصرته، فقد خذلوه في تلك الساعات الرهيبة، وأخذوا يلتجئون إلى الجبال حذراً من العدو، ويتحدّث سبحانه تبارك وتعالى عن تلك الهزيمة النكراء بقوله: {إِذْ تُصْعِدونَ وَلا تَلوُونَ عَلى أَحَد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ في أُخراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللّه خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون}(آل عمران:153).
- المنافقون المندسّون بين الصحابة
لقد شاع النفاق بين الصحابة منذ نزول النبي بالمدينة، وقد ركّز القرآن على عصبة المنافقين وصفاتهم، وفضح نواياهم، وندّد بهم في السور التالية: البقرة، آل عمران، المائدة، التوبة، العنكبوت، الأحزاب، محمد، الفتح، الحديد، المجادلة، الحشر، والمنافقون.
وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ المنافقين كانوا جماعةً هائلةً في المجتمع الإسلامي، بين معروفٍ عُرف بسمة النفاق ووصمة الكذب، وغير معروفٍ بذلك، ولأنّه مقنّعٌ بقناع الإيمان والحب للنبي، فلو كان المنافقون جماعةً قليلةً غيرَ مؤثرةٍ لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم.
وهناك ثلةٌ من المحقّقين ألّفوا كتباً ورسائلَ حول النفاق والمنافقين، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم، فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم.
نعم المنافقون ليسوا من الصحابة، ولكنّهم كانوا مندسّين فيهم، وعند ذلك فكثيراً ما يشتبه الصحابي الصادق بالمنافق، ولا يتميّز المنافق عن المؤمن، حتّى أنّ النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ربما كان لا يعرفهم، يقول سبحانه: {وَمِنْ أَهل المَدينة مردوا عَلى النِّفاق لا تعلمهم نَحْنُ نعلَمهم}(التوبة:101).
فهذا يجر الباحث ـ الذي يريد الإفتاء على ضوء ما قاله الصحابة ـ التفتيش عن حال الصحابي حتّى يعرف المنافق عن غيره، فلو اشتبه الحال فلا يكون قوله ولا روايته حجّةً.
السنّة النبوية وعدالة الصحابة
درسنا عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم، وخرجنا بالنتيجة التالية: أنّ حال الصحابة كحال التابعين، ففيهم عادلٌ وفاسقٌ، وصالحٌ وطالحٌ، منهم من يُستدرّ به الغمام، ومنهم من دون ذلك.
ومن حسن الحظ أنّ السنّة النبويّة تدعم ذلك الموقف، فلنذكر منها نزراً قليلاً حسب ما يقتضيه وضع الرسالة.
- زعيم الفئة الباغية
روى مسلم عن أبي سعيد قال: أخبرني من هو خيرٌ منّي ـ أبو قتادة ـ أنّ رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: بُؤسَ ابنُ سمية تقتلك فئة باغية .
ونحن نسأل القائلين بعدالة الصحابة من هي الفئة الباغية التي قتلت عماراً؟! وهل كان فيها من صحابة النبي من يؤيّد موقف الفئة الباغية؟! لا شكّ أنّ معاوية كان يترأس الفئة الباغية، وكان عمرو بن العاص وزيره في الحرب، وكان انتصار معاوية في حرب صفين رهن مكيدة عمرو بن العاص، وكان بين الفئة الباغية من الصحابة النعمان بن بشير الأنصاري، وعُقْبة بن عامر الجهني، وأبو الغادية يسار بن سبع الجهني وغيرهم.
- عصيان أمر النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بإحضار القلم والدواة
قد روى أصحاب الصحاح أنّ النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أمر بإحضار القلم والدواة؛ ليكتب كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً، وقد حال بعض الحاضرين بينه وبين ما يروم إليه، وقد أخرجه البخاري في غير موردٍ من صحيحه.
ففي كتاب العلم أخرج عن ابن عباس أنّه قال: لما اشتدّ بالنبيّ(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وجعه، قال: «ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده»، قال عمر: إنّ النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) غلبه الوجع، وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قـال: «قـوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع»، فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبين كتابه .
الانقلاب على الأعقاب بعد رحيل النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)
فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول اللّه(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: يرد عليّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيحلّؤن عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقهرى .
وأخرج أيضا عن العلاء بن المسيب قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك صحبت النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبـايعته تحت الشجرة، فقال: يابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده .
وغيرها من الروايات التي تنتهي أسانيدها إلى شخصيات نظراء: سهل بن سعد، أبي وائل عن عبد اللّه، أنس بن مالك، أبي هريرة، ابن المسيب، واقتصرنا بما رواه البخاري وتركنا مانقله غيره، وما ظنّك بحديثٍ يرويه الإمام البخاري وقد نقل شيئاً منه في الفتن، وقسماً أكثر في باب الحوض.
ولابدّ من الكلام في مقامين:
الأوّل: من هم الذين أخبر النبي عن ارتدادهم بعد رحيله؟
الثاني: ما هو المراد من ارتدادهم؟
أمّا الأوّل: فالقرائن القطعية تدلّ على أنّ المراد بعض أصحابه الذين عاشوا معه، وكان يعرفهم وهم يعرفونه واجتمعوا معه في فترةٍ زمنيةٍ، وليس هؤلاء إلاّ لفيفٌ من أصحابه.
وأمّا الأمر الثاني، فهل المراد من الارتداد هو الخروج عن الدين، أو المراد من الارتداد هو الأعم من الرجوع عن العقيدة، أو السلوك على غير ما أوصى به النبي في غير واحدٍ من الأُمور؟، ولعل المراد هو الثاني حيث إنّ النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أوصى بالثقلين وأهل بيته، فخالفوا وصية الرسول، كما أنّهم خالفوا في كثير من الأحكام، المذكورة في محلّها، فقدّموا الاجتهاد على النصّ، والمصلحة المزعومة على أمره، وبذلك أحدثوا في دينه بدعاً، ليس لها في الكتاب والسنّة أصل.
موقف النبي ممّن لم تحسن صحبته
ما مرّ من الروايات لا تهدف شخصاً معيّناً بالذكر، وهناك روايات تخص بعض الصحابة بالذكر من الذين لم تحسن صحبتهم، ويخبر عن سوء مصيرهم، ويندد بسوء عملهم، وهي كثيرةٌ، ونذكر منها النزر اليسير:
ـ اللّهم إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالدٌ
أخرج البخاري عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يُحسِنُوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبانا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كلّ رجل منّا أسيره، حتّى إذا كان يوم، أمر خالدٌ أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره، فقلت: واللّه لا أقتل أسيري، ولا يَقْتُل رجلٌ من أصحابي أسيره حتّى قدمنا على النبي فذكرناه، فرفع النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يده فقال: «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد» مرّتين .
ـ امتناع الرسول من الصلاة على أحد أصحابه
أخرج الحاكم في مستدركه عن زيد بن خالد الجهني(رضي اللّه عنه) أنّ رجلاً من أصحاب رسول اللّه توفّي يوم حنين أو خيبر، فامتنع(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من الصلاة عليه؛ لأنّه غلّ في سبيل اللّه، ففتّشوا متاعه، فوجدوا خِرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين .
ـ صحابي يُقتَّص منه
وهذا حارث بن سويد بن الصامت شهد بدراً، لكنّه قتل المِجذَر بن زياد يوم أُحد؛ لثأرٍ جاهلي، فقُتِل بأمر النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). يقول ابن الأثير: «لا خلاف بين أهل الأثر أنّ هذا قتله النبي بالمجذر بن زياد؛ لأنّه قتل المجذر يوم أُحد غيلة » .
عدالة الصحابة والتاريخ الصحيح
- صحابيّ يقتل صحابيّاً ويزني بزوجته
إنّ مالك بن نويرة بن حمزة اليربوعي يعرّفه الطبري بقوله: بعث النبيّ(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مالك بن نويرة على صدقة بني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم بن نويرة الشاعر . ولما ارتحل النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) شاع الارتداد في القبائل، وبعث أبو بكر خالد بن الوليد ليطفئ هذه الفتنة، ولكنّ خالداً، تجاوز الحدّ فقتل الصحابي: مالك بن نويرة، ولم يقتصر على قتله فحسب، بل زنى بزوجته أيضاً.
فلمّا قدم خالدٌ المدينة بالسبي ومعه سبعة عشر من وفد بني حنيفة، دخل المسجد وعليه قباء عليه صدأ الحديد، متقلّداً السيف، وفي عمامته أسهمٌ، فمرّ بعمرٍ فلم يكلّمه ودخل على أبي بكر، فرأى منه كلّ ما يُحب، وإنّما وجد عليه عمر لقتله مالك بن نويرة وتزوّجه بامرأته .
وكانت شناعة الأمر بمكان، بحيث أنّ عمر بن الخطاب لمّا وُلّي الأمر عزله و كتب إلى أبي عبيدة: إنّي قد استعملتك وعزلت خالداً .
- سمرة بن جندب يبيع الخمر
تولّى سمرة بن جندب (أحد الصحابة)إمارة البصرة في عهد معاوية، وقد سفك من الدماء الكثير، ومن شنائع ما اقترفه، بيعه الخمر في عهد عمر.
- مسلم بن عقبة يشن الغارة على أهل المدينة
مسلم بن عقبة الأشجعي من صحابة النبي(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ذكره ابن حجر في «الإصابة» برقم 7977، وكفى في حقّه ما ذكره الطبري في حوادث سنة 64هـ، قال: ولمّا فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثاً، شخص بمن معه من الجند متوجهاً إلى مكة، فلما وصل إلى قفا المشلل نزل به الموت،وذلك في آخر محرم من سنة 64هـ .
ادّعاء العدالة لعامة الصحابة تنكّر للطبيعة البشرية
إنّ الصحابة الكرام لهم غرائزٌ جامحةٌ كسائر الناس، فمن الغريب استثناء هذا الجيل عن سائر الأجيال، وإضفاء هالةٍ من القداسة عليهم بلا استثناء. ولم يكن للصحبة، البعد الإعجازي حتّى يقلب فطرتهم رأساً على عقبٍ، ويحوّلهم إلى أشخاصٍ مثاليّين، بل هم بشرٌ ـ كسائر البشر ـ لهم ميولٌ وغرائزٌ، قد ينفلت زمامها، فتُلقي بهم في وديان الهوى، والظلم، والعصيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف، ج3، ص 536 - 569. (بتصرف).