تمهيد1
إذا أردنا أن ندخل في بحث العدل الإلهيّ استنادًا إلى المعيار الصّحيح ، فيجب أن نعرف حقيقة جميع تلك الأمور التي توهّموا أنّها مصاديق للشرّ والتّمييز غير المسوَّغ والظلم، ونرى هل يوجد موجودٌ تتوّفر فيه حقًّا إمكانيّة الوجود في نظام الوجود العام، ثمّ لم يوجد رغم ذلك، أو مُنع عنه أحد الكمالات الوجوديّة الذي كان مؤهّلًا له في النّظام الوجوديّ العام؟ وهل أُعطي لموجود شيءٌ لا ينبغي أن يُعطى له؟ بمعنى هل يفيض من الله سبحانه - بدلًا من الخير والرّحمة - شيء هو نقيض الخير والرّحمة، بل هو مصداق الشرّ والنّقمة، ونقيض الكمال، بل عين النّقص؟
الإشكالات الأساسيّة2
لماذا يوجد تمييز واختلاف في هذا العالم؟ لماذا يكون هذا أبيض وذاك أسود، وهذا قبيح وذاك جميل، وهذا سالم معافًى وذاك مريض؟ بل لماذا هذا إنسانٌ وذاك خروف أو دودة الأرض، وهذا جماد وذاك نبات، وهذا شيطان وذاك ملاك؟ لماذا لا يكون الجميع بصورةٍ واحدة؟ لماذا لا يكونون جميعًا بيضًا أو سودًا؟ لماذا لا يكونون جميعًا بصورةٍ جميلة؟ وإذا كان من المقرّر لزامًا وجود هذا التّمايز، فلماذا لم يُخلق الأبيض أسود والأسود أبيض أو القبيح جميلًا أو الجميل قبيحًا؟
ولماذا يتمّ إيجاد الأشياء ثمّ إعدامها؟ ولماذا كتب الموت على المخلوقات؟ ولماذا يؤتى بالإنسان إلى هذه الدّنيا، ثمّ يرسل إلى ديار الفناء بعد أن يذوق لذّة الحياة، ويتمنّى الخلود والبقاء في الدّنيا؟ ويرتبط هذا النّوع من الأسئلة بمسألة العدل والظّلم على النّحو الآتي، إذ يُقال: إنّ العدم المحض أفضل من الوجود النّاقص، وليس لأيّ شيء أو أيّ أحد حقّ قبل وجوده، ولكنّه إذا وُجد صار له حقّ البقاء، ولذلك فإنّ سعادة الأشياء وراحتها قبل وجودها تكون أكبر من حالها بعد إيجادها ثمّ إخراجها من دار الحياة دون أن تتحقّق أمانيها، وعليه فإنّ الإتيان بها إلى هذه الدّار ظلمٌ لها.
وكيف يمكن تفسير وجود أشكال النّقائص، كالجهل والعجز والضّعف والفقر؟
ويقوم ارتباط هذا السؤال بمسألة العدل والظّلم على تصوّر هو: أنّ من الظّلم منع فيض العلم والقدرة والقوّة والثّروة على الموجود المحتاج إليها، وحيث إنّه لا حقّ للموجود قبل وجوده، ولكنّه يمتلك حقّ الحصول على ضروريّات الحياة فور وجوده - حسب ما يفترضه هذا التصوّر - لذلك فإنّ الجهل والعجز والضّعف والفقر والجوع ونظائرها هي نوع من منع الحقّ.
وإنّ وجود الآفات والبلايا والمصائب يسوق الموجود إلى دار الفناء، وهو في نصف الطّريق أو ينغّص عليه حياته فيقاسي الألم والأذى، وهو يقضي مدّة وجوده المحدودة، فكيف يمكن تسويغ كلّ ذلك؟ وكيف يمكن تسويغ وجود الميكروبات والأمراض وأشكال الظّلم والقمع والسّرقات والحوادث الطّبيعيّة مثل السّيول المدمّرة والعواصف المخرّبة والزّلازل، ومصائب الفراق وغيره، والحروب والتّناقضات ووجود الشّيطان والنّفس الأمّارة بالسوء؟
إنّ قضيّة النّظام الأحسن، وحلّ إشكاليّة وجود الشّرور فيه، تُعدّ من أهمّ مباحث الفلسفة، وقد أدّت هذه المعضلة الفلسفيّة إلى ظهور العديد من الاتّجاهات فلسفيّة في الشّرق والغرب.
الجواب الإجمالي
الإجابة على هذه التّساؤلات على نحوين: مجملة وتفصيليّة، الإجابة المجملة هي حيث قلنا: إنّ المؤمنين يقنعون أنفسهم بجوابٍ إجماليّ على هذه الإشكالات فيقولون: إنّ هذه الأسئلة تثير مجموعة من المجهولات والاستفهامات ولا تشكّل نواقض لأصل العدل الإلهيّ، والحدّ الأقصى هو أن نقول: لا عِلم لنا بالأسرار. لقد عرفنا الله بأنّه عليمٌ حكيمٌ غنيٌ كاملٌ عادلٌ وجوادٌ، ولذلك فنحن نعتقد أنّ كلّ ما هو كائنٌ قائمٌ على أساس الحكمة والمصلحة، وإن لم نعرف تفصيليًّا جميع الحِكَم والمصالح، فلا علم لنا بأسرار التّقدير الإلهي3.
ولكن يوجد هنا موضوعٌ آخر هو أنّ أغلب النّاس يعرفون الله بآثاره، أي بواسطة نظام الخلق، فهو مصدر معرفتهم له سبحانه، وهذه المعرفة ستكون ناقصة، وسيقع أصحابها في الاضطراب الاعتقاديّ - بدرجةٍ أو بأخرى - عندما يجدون مجهولات في مصدرهم المعرفيّ ولا يمكن حلّ إشكالاتهم إلا بالدّراسة التّفصيليّة لموارد الإشكال، فهم لم يعرفوا الله مستقلًّا عن عالم الخلق، ولذلك لا يمكن أن تهديهم معرفتهم لله بصفات الكمال المطلق والغنى المطلق والجمال المطلق إلى التعرّف على حقيقة أن ّنظام الخلق هو أجمل وأكمل أثر لأجمل وأكمل مؤثّر. فطريقهم الوحيد للتعرّف على عالم الخلق هو الطرّيق الحسّيّ العاديّ والمألوف، وهم يرون الله في مرآة العالم، ولذلك إذا رأوا على هذه المرآة بقعة تؤثّر على صفائها تأثّرت بها الصّورة التي تعكسها المرآة لله عزّ وجلّ في أذهانهم4.
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، فإنّ هذه الإشكالات والشّبهات تُثار بكثرةٍ في المحاضرات والكتابات في عصرنا الحاضر، خاصّة من قبل ذوي النّزعات المادّية5.
بين الاختلاف والترجيح
قيل إنّ الاختلاف هو التّفرقة بين الأشياء غير المتساوية في الاستحقاق، والترجيح هو التفرقة بين الأشياء المتساوية في الاستحقاق.
والمثال الذي يوضح الفرق بين الأمرين هو أنّنا لو أخذنا إناءين يسع كلّ واحدٍ منهما عشرة ليترات، وملأنا أحدهما عشرة ليترات ماءً والآخر خمسة فهذا هو التّرجيح، لأنّ سعة كلّ واحد منهما واحدةٌ، لأنّنا متى وضعنا في الأول ماءً أزيد فقد رجّحناه على الثّاني. وكذلك الحال في معلّم المدرسة إذا كان لديه تلميذان متفوّقان فأعطى أحدهما مكافأةً دون الآخر فإنّه قد رجّحه عليه. وأمّا لو كان لدينا إناءان يسع أحدهما عشرة ليترات والآخر خمسة، وملأنا العشرة عشرة، والخمسة خمسة، فهذا هو الاختلاف، ولا يوجد أيّ ترجيح فيه، لأنّ قابلية واستعداد أحدهما غير قابلية واستعداد الآخر، وكذلك لو كافأ معلم المدرسة المتفوّقَ دون الضعيف، فهو لم يرجّح بينهما6.
والله عزّ وجلّ تصرّف مع الخلق على أساس اختلافهم فأعطى كلّ واحد ما يستحقّه، ولم يرجّح أحدًا على أحدٍ. فالله عزّ وجلّ لم يحرم أحدًا من خلقه أمرًا كان يستحقّه وأعطاه للآخرين، وإذا منع إنسانًا ما من بعض الفيوضات الإلهيّة فإنّما هو نتيجة عدم استحقاقه وعدم قابليّته واستعداده لهذه الرّحمة.
تحليل النّظام الكونيّ
إنّ الباحث في مجال الرّدّ على هذا الاعتراض في مسألة العدل الإلهيّ يجد نفسه لا محالة واقعًا في أحضان بحثٍ فلسفيٍّ عميقٍ مهما حاول الابتعاد عنه، ويرى عبارة عميقة للفلاسفة (إنّ اختلاف الموجودات ذاتيٌّ من ذاتيّاتها، ولازمٌ لنظام العلّة والمعلول). وهذه العبارة تصلح جوابًا، لكنّها معقّدة وبحاجة إلى شرحٍ وتوضيحٍ ضمن مقدّمات ترتبط بتحليل النّظام الكونيّ، والإرادة الإلهيّة في بداية خلقة الكون، وبالنّظام الذي اقتضته هذه الإرادة، وهل تعرّض القرآن الكريم لهذا النظام أم لا.
1- الإرادة الإلهيّة واحدة7
إنّ الإرادة الإلهيّة لم تتعلّق بكلّ موجودٍ على حدة، فلم تتعدّد إرادته بتعدّد الموجودات، فهو سبحانه لم يخلق الموجود الأوّل، ثمّ تعلّقت إرادته بالموجود الثّاني فخلقه، ثمّ بالثّالث وهكذا، وإنّما الكون بأسره من بدايته إلى نهايته تعلّقت به إرادة إلهيّة بسيطة واحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾8، وإرادته لوجود الأشياء عين إرادته لوجود نظامها.
2- النّظام الطّوليّ
يوجد في الكون نظامٌ يسمّى بالنّظام الطّوليّ بين العلّة والمعلول، أي إنّ إرادة الله اقتضت أن تكون الأشياء رتبةً بعد أخرى، وأن تكون كلُّ سابقةٍ علّةً للاحقةٍ، والتّرتيب هنا ليس بحسب الزّمان، لأنّ الزّمان أحد المخلوقات ، بل ترتيب الأسبق رتبةً وأنّ وجود الأولى هو علّةٌ لوجود الثّانية9.
فالله عزّ وجلّ له صدرُ قائمة الوجود، والملائكة هم المنفّذون للأوامر الإلهية، وبين الملائكة أيضاً توجد سلسلةٌ من المراتب، فبعضٌ له مقام الرئاسة والأمر، وبعضٌ يُعدّ من الأعوان وآخر من الأنصار كملك الموت عزرائيل عليه السلام وأعوانه الموكّلين بقبض الأرواح، ولكلٍّ منصب معيّن ووظيفة خاصّة ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾10.11
ولذا ينسب القرآن الكريم تدبير الكون تارةً إلى الله، قال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ﴾12، وأخرى إلى الملائكة، قال تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرً﴾14.13
وعليه إذا كانت (الف) علّةً لـ (باء) فلأجل خصوصيةٍ موجودةٍ فيها، لا أنّها أمرٌ اعتباريٌّ، ولا يمكن أن تنعكس المسألة بأن تصبح (باء) علّةً لـ (ألف)، فوجود كلّ رتبةٍ هو عين حقيقتها، فلم يوكّل ملك الموت بقبض الأرواح اعتباراً، بل لخصوصيةٍ فيه، ولقابلية عنده، وكذلك جبرائيل فيه خصوصيةٌ غير موجودةٍ في غيره وهكذا، لا يمكن أن يقوم ملك بوظيفة الآخر، ولا أن يحلّ أحدٌ مكان الآخر. والإنسان لأنّه لا يدرك الخصائص الذاتية للأشياء ولا يعرف مراتبها الوجودية ولا علاقتها الواقعية في ما بينها، يسأل لماذا لا يكون الإنسان بدل الحيوان أو العكس؟ وليس هذا إلا قياساً للنّظام الذاتيّ للعالم على النّظام الاعتباريّ الجعلي للإنسان، وبتعبير آخر إنّ هذه الأسئلة تنشأ من قياس الحقائق الذّاتيّة على الاعتبارية الاجتماعية15.
3- النظام العرضي
يوجد في الكون نظامٌ آخر وهو النّظام العرضيّ، وهو يعني أنّ وجود أيّة ظاهرةٍ معيّنةٍ خاضعٌ لمجموعةٍ من الشّروط المادّية16، وليست هي منفردةً ومستقلّةً عن بقيّة الحوادث.
والحكمة الإلهية إنمّا تظهر إذا نظر الإنسان إلى الأشياء مع ما ترتبط به، لا إذا ما نظر إليها منفردةً ومستقلٍّةً17.
فلو نظرنا إلى رفّاء يرفو سجاّدةً، ثمّ لاحظنا طبيبًا يعالج حروق مريضٍ، فسوف لن نجد - لأوّل وهلةٍ - أيّ ارتباط بين هذين العملين، ولكنّنا لو فحصنا جيّدًا لوجدنا مثلًا أنّ حريقًا كان السّبب في إحراق السّجادة والمريض معًا، فعملهما إذًا منبعث من مصدرٍ واحدٍ. والنّظرة الدّقيقة إلى الكون تقنع المرء بأنّ النّظام العرضي هو المسيطر في الكون، لأنّ كلّ الحوادث تعود إلى علّة أساسيّة، ... ولمّا كانت الضّرورة حاكمة بين العلّة والمعلول لا بدّ أن تكون الضّرورة حاكمة بين جميع الحوادث، وهذا الارتباط الضروريّ العام نشأ من أصول أربعة:
أ- إنّ قانون العليّة والمعلوليّة هو الحاكم، والدليل عليه البداهة، وهو الأساس لكلّ العلوم.
ب- وهذا القانون ضروريّ، فإذا وجد المعلول فلا يعني أنّ العلّة موجودةٌ فقط، بل إنّما اكتسب المعلول ضرورته من ناحية وجود العلّة، فوجود العلّة ضروريّ.
ج- ولا بدّ من وجود تناسب وانسجام تامّ (سنخيّة) بين العلّة والمعلول، فلا يصدر المعلول من أيّ علّةٍ، ولا أيّ علّةٍ يمكن أن يصدر منها أيّ معلول، وإلا لصدر أيّ شيءٍ من أيّ شيء.
د- لا بدّ أن ينتهي الكون إلى علّة العلل، وهذا هو أصل التوحيد في مبدأ الوجود.
ومن الأصول الثّلاثة الأولى نصل إلى أنّ في الكون نظامًا قطعيًّا لا يقبل التّبديل، وبضمّ الأصل الرّابع نستنتج أنّه لا يمكن أن نفصل أيّة ظاهرة تجري في الكون عن سائر الظّواهر المحيطة بها، بل جميعها مرتبطةٌ بشكل يقيني فيما بينها18.
إنّ الكون هو ظلّ الحقّ تبارك وتعالى، والحقّ عزّ وجلّ هو الجميل المطلق والكامل على الإطلاق، وظلّ الجميل جميل بلا ريب ومحال أن لا يكون جميلًا. أجل، إذا نظرنا إلى كلّ جزءٍ من أجزاء الجسم المتناسق الجميل بصورةٍ مستقلّة عن تناسقه مع باقي الأجزاء التي تشكّل بمجموعها وبتناسق مواقعها الجسم الجميل، فإنّنا لن نشعر بجمال هذا العضو وكماله!
فنتوهّم أنّه لو كان بصورةٍ أخرى لكان أكمل وأجمل، ولكن عندما ننظر إلى هذا العضو نفسه بنظرٍة شموليّة لكلّ الجسم نرى هذا العضو كجزءٍ ضمن مجموع الأجزاء المشكلة - بتناسق - لهذا الجسم الجميل، عندها ندرك بطلان ما توهّمناه من وجود النّقص في هذا الجزء، فيزول هذا الوهم من نظرتنا.
السنّة الإلهيّة
نحن نشكو ونتساءل: لماذا سلّط الله حفنةً من اليهود هم شرطة لأمريكا على (700) مليون مسلم وبمختلف أشكال التسلّط العسكريّ والسّياسيّ والفكريّ والاقتصاديّ؟ ولماذا انهزم مئة مليون عربيّ في حرب الخامس من حزيران؟ لماذا لا يعزّ الله المسلمين ولا يغيّر قوانين الطّبيعة بما يخدم مصالحهم؟ نحن نسخط بسبب هذا الحال ونتألّم ويحرمنا الألم من لذّة النّوم، فنئنّ وندعو ونستغيث ولكن لا نجد إجابة لدعائنا.
أمّا الجواب الذي يقدّمه القرآن الكريم على كلّ هذه الأسئلة فهو كلمة واحدة لا غير: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾19. وهذا الجواب يعني أنّ الله لا يغيّر قانونه وسنّته، بل علينا نحن أن نغيّر ما بأنفسنا، فنحن غرقى في الجهالات والفساد الأخلاقيّ، بعيدون عن جميع أشكال الوحدة والوفاق، ورغم ذلك نتوقّع النّصر من الله نصنع ألف شائعة من كلّ نوع إثر وقوع حادث بسيط، ونتّخذ الكذب والافتراء منهجًا في تحرّكنا متخلّين عن كلّ فضيلة، ورغم ذلك نريد أن نكون سادة العالم، وهذا محال.
لقد أخبرت الكتب السّماويّة السّابقة عن وقوع تحرّكين اجتماعيين، وثورتين وتحوّلين في الشّعب اليهوديّ الذي بُعث له من الأنبياء أكثر ممّا بُعث إلى أيّ شعبٍ آخر، وذلك بسبب كثرة وجود المفاسد والمفسدين فيه، الأمر الذي يضاعف من حاجته إلى المربّين الإلهيّين، وقد تحقّق بالفعل ما أخبرت عنه الكتب السّماويّة وشهد التّاريخ اليهوديّ وقوع التحرّكين الاجتماعيّين والثّورتين، وقد تحدّث القرآن الكريم في الآيات الأولى من سورة الإسراء عن ذلك، وعن تحقّقه وعن أنّ اليهود سيفسدون في الأرض مرّتين وسينتقم الله منهم إثر ذلك، ثمّ ذكر بسنةٍ ومعادلةٍ عامّة شاملة هي أنّ كلّ فسادٍ يستتبع الهزيمة والشّقاء، وأنّ كلّ إنابة وإصلاح يستتبعان عودة الرّحمة الإلهيّة، وهذه الآيات هي: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرً﴾20.
وهذه الآيات هي - في الحقيقة - شرح وتوضيح للسنّة الإلهيّة العامّة والمذكورة في قوله تعالى: ﴿لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾22.21
لا استثناء في القانون الإلهيّ
هل يمكن أن توجد استثناءات لقوانين عالم الخلق؟ وهل أنّ المعجزات والأمور الخارقة للعادة تمثّل نقضًا لسنّة الله؟
الجواب عن كلا السّؤالين: هو بالنّفي، فلا قوانين الخلق تقبل الاستثناء، ولا المعجزات تمثّل استثناءً في قوانين الخلق. والتّغييرات التي تشاهد في سنن الخلق ناتجة من التّغييرات الحاصلة في شروط جريان السّنن، وليس في أصل السّنن، إذ إنّ جريان أيّ سنّة مرهونٌ بتحقّق شروطها، فإذا حدث تغيير في الشّروط جرت سنّة أخرى، وهذه السّنّة تكون فاعلة في توفّر شروطها الخاصّة أيضًا.
من هنا يتّضح أنّ تغيير القانون والسنّة لا يكون إلّا بحكم القانون والسنّة دون أن يعني ذلك نسخ قانون بحكم قانون آخر، بل بمعنى أنّ شروط جريان قانون ثابت تتغيّر وتصبح شروطًا لجريان قانونٍ آخر، فيكون القانون الجديد هو الحاكم فيها.
أجل، إنّ الإنسان ليس مطّلعًا على جميع سنن عالم الخلق وقوانينه، فإذا رأى ظاهرةً خلاف ما يعرفه من هذه القوانين والسّنن توهّم أنّها تشكّل نقضًا لجميع القوانين والسّنن، ووصفها بأنّها استثناء لهذه القوانين ونقض لقانون العلّيّة.
... المعجزة لا تعني تعطيل القانون أو التّعالي عنه، فهذا هو الوهم الذي وقع فيه الماديّون بعد اكتشاف قسماً من قوانين الطّبيعة بالأدوات العلميّة، فافترضوا أنّ هذه القوانين هي وحدها القوانين الحقيقيّة، ثم تصوّروا أنّ المعجزات تشكّل نقضًا للقوانين. أمّا نحن فنقول: إنّ ما كشفت عنه العلوم يصدق في ظلّ أوضاع خاصّة ومحدودة هي شروط له، وعندما تشاء إرادة نبيّ أو وليّ لله القيام بعملٍ إعجازيّ فإنّ هذه الشّروط تتغيّر، بمعنى أنّ روحًا قويّة وزكيّة متّصلة بالقوّة الإلهيّة المطلقة تغيّر هذه الشّروط، وبعبارةٍ أخرى فإنّ عاملًا وعنصرًا خاصًّا يتدخّل في الأمر، ويوجد وضعًا جديدًا له شروط جديدة تظهر بتأثير العالم الجديد ، أي الإرادة القويّة والملكوتيّة لوليّ الله ، ومع إيجاد هذه الشّروط الجديدة تكون الفاعليّة لقانونٍ آخر خاصّ بها.
1- العدل الإلهيّ، ص 91- 92.
2- (م. ن)، ص 95 – 97 (بتصرف).
3- العدل الإلهي، ص151- 152.
4- العدل الإلهي، ص 153.
5- (م. ن)، ص 154.
6- (م.ن)، ص166(بتصرف).
7- العدل الإلهي، ص 168(بتصرّف).
8- سورة القمر، الآيتان 49 و 50.
9- العدل الإلهي، ص169 -170 (بتصرف).
10- سورة الصافات، الآية 164.
11- العدل الإلهي، ص171.
12- سورة السجدة، الآية 5.
13- سورة النازعات، الآية 5.
14- العدل الإلهي، ص172.
15- ففي عالم الاعتبار يرى أنّه لا مانع من أن يصبح الرئيس مرؤوساً والمرؤوس رئيساً، بينما في عالم الذاتيات لا بدّ من تقدّم الرئيس مثلاً على المرؤوس، لخصوصية في الرئيس جعلته رئيساً مقدَّماً، ولو تغيّرت لما كان كذلك.
16- العلل المادّية والزّمانيّة مثل عليّة الأب والأم للولد، فهما بنظر الفلاسفة عِلل إعدادية لا إيجادية، لأنّ هذه العِلل لا توجد المعلول، وإنّما تشكّل الأرضية والشروط الإمكانية للوجود من قِبل الفاعل الإيجادي، ولذلك قد يطلق عليها العِلل العرضية بخلاف العِلل الإيجادية الفاعلية، فلكونها أعلى رتبة ومحيطة ومسلطة على هذا العالم تسمّى بالعلل الطولية.
17- العدل الإلهي، ص176.
18- (م.ن)، ص177 – 179(بتصرف).
19- سورة الرعد، الآية 11.
20- سورة الإسراء، الآيات 4 – 8.
21- العدل الإلهي، ص 181- 182.
22- سورة الرعد، الآية 11.