قراءة علمية في كتاب"الحلّ الإسلامي ما بعد النكبتين"[1]
د. حسن البنّا[2]
بطاقة الكتاب:
o تصنيف الكتاب: فكر سياسي واجتماعي.
o اسم الكتاب: الحلّ الإسلامي ما بعد النكبتين.
o اسم المؤلّف: توفيق الطيّب.
o بيانات النشر: ط2، القاهرة، المختار الإسلامي، 1979م.
تعريف بمؤلّف الكتاب:
o شخصيّة المؤلّف:
يعتبر المفكّر توفيق الطيّب من المفكّرين الإسلاميين المغمورين، وهو مفكّر إسلامي جزائري الأصل تنقّل ما بين دمشق الشام وبيروت والدول الأوروبية وامريكا قسراً تارة وبإرادته أخرى؛ نظراً لآرائه.
o الإنتاج الفكري:
- الحلّ الإسلامي ما بعد النكبتين.
- التعايش الليبرالي والاشتراكي في مواجهة الإسلامية.
- القرآن وأصل الحياة.
- مقالات في مجلة المسلم المعاصر حول الحركات الإسلامية.
o منهجه الفكري:
يعتبر توفيق الطيب مهندس أفكار يأنس بالجمل الخبرية، والمنهج النقدي والمقارن، فهو بحدّ ذاته ثورة عقلانية على الصعيد التنظيري، وعقلية ثورية على الصعيد العملي؛ الفلسطيني بالذات، ومتمكّن من قضايا التراث الإسلامي والعالمي على مستوى المسائل والمواضيع والمفاهيم والمصطلحات.
تعريف بالكتاب ومحتوياته:
هو عبارة عن كتيّب من القطع الصغير يقع في حوالي 76 صفحة، أهداه إلى الذين لا يفكّرون بعقلية ما قبل النكبتين أو بعقلية ما بين النكبتين، بل إلى الذين صهرت آلام النكبتين أعصابهم فأيقظت فيهم حسّ التفكير العميق الجادّ بالمستقبل... إلى جيل ما بعد النكبتين.
ويحتوي على مقدّمة تدور حول النكبة والفكر على مستوى:
- الاتّجاه.
- الخصائص.
ومن ثمّ تسائل: هل من مخرج؟
بينما المتن تناول فيه: فشل تجارب الأنظمة العربية الليبرالية منها والاشتراكية، من حيث الدرجة والشدّة والزمن وطبيعة التحدّي الصهيوني، وأورد بالأدلّة والأمثلة أنّه قد تمّ القضاء على التحدّيات في مطلع القرن الماضي؛ عبر:
- التصفية النفسية لدى الفرد المسلم.
- التصفية التاريخية في المجتمع المسلم أيضاً.
ولقد حدّد أخطاء التجربتين:
- أولاً: في مجال الشرط الموضوعي.
- ثانياً: في مجال الشرط النفسي.
وما أفضت إليهما من نتائج، منها:
- تعثّر حركة النهضة.
- تناقضات المثقّف العربي ونتائجه الخطرة.
- تناقضات الأنظمة العالمانية الليبرالية بالأمس البعيد والاشتراكية الثورية بالأمس القريب.
وما خلّفته الهيمنة الغربية – مرحلة الاستعمار والاستكبار، من: تفكّك سياسي، وجمود فكري، وتفاوت اجتماعي، وثقافة استعمارية. ورغم صغر الكتيّب إلا أنّه مرجع للمفكّرين فقط.
عرض الكتاب وتقويمه:
المحور الأوّل
قيم الإنسان بين التجربتين(الليبرالية والاشتراكية) في المنظور العربي والغربي
يوجد عدّة أخطاء أساسية للتجربتين الليبرالية والاشتراكية باتت سبب أزمتهما وفشلهما معاً، وهي:
1. أنّهما لم تدركا جوهر الفكر الغربي الحديث ولا جوهر العصر الأوروبي الحديث؛ ونتيجة ذلك فهما لم تدركا جوهر التحدّي الغربي الحديث لحضارتنا؛ فجوهر الفكر الأوروبي الحديث يُلتَمَس في الأساس الفلسفي الذي يهيمن عليه علم الطبيعة الحديث، والذي قامت عليه الصناعة الحديثة. وجوهر العصر الأوروبي الحديث هو العلم؛ حيث إنّه عصر العلم والصناعات الحديثة، وهو في الوقت نفسه جوهر التحدّي الغربي الحديث لنا. وليس هو لا العقيدة ولا الفن.
وقد قلت بهذا الاعتبار؛ لأنّ التقدّم المرتبط بالعلم والصناعات يتّصل بالنظام العقلاني من الحضارة الأوروبية فحسب، ولا يمسّ نظام قيمنا الأخلاقية والجمالية، ولا النظام العقدي أو الإيديولوجي.
تلك هي المشكلة، وهي تكمن في أنّ التحدّي الغربي لم يكن تحدّياً للإسلام؛ بوصفه عقيدةً ولا نظاماً أخلاقياً. رغم السكونيّة التي اتّصف بها الفكر الإسلامي في مرحلة الحضارة، التي حصل فيها الاحتكاك الجديد مع الغرب، ورغم التحجّر في معايير تقويمنا الخُلُقي؛ ذلك أنّ صمود العقيدة الإسلامية قرون الاستكبار كلّها أمام كلّ أنواع التدمير والتخريب، من حضارة ذات جهاز فني دقيق، لهو أصدق دليل على أنّ الحقيقة القيّمة تكمن في رصيدها؛ وأنّ الفطرة الإنسانية لا تتلاءم مع سواها. وهناك دليل آخر يتمظهر في ثورات المسلمين التي تعدّ أسطع دليل على القوّة الأخلاقية الكامنة فيهم، ودليل ثالث يتجلّى في ثورات العالم الإسلامي اليوم؛ بوصفها دليلاً واقعياً ملموساً على أنّ الروح الإسلامي لا يقهر.
2. أنّها نقلت التحدّي من مجاله الحقيقي إلى مجال آخر، ومن مجال العلم إلى مجال العقيدةن ومن مجال الصناعة إلى مجال الفنّ والأدب، بحيث التقت في النهاية مع التيّار المعارض للنهضة وللثورة معاً. وهو بالضبط ما كان وما يزال يريده الغرب.
ولا نستمدّ ذلك من سياسته التعليمية تجاهنا في عصر الحكم الأجنبي فحسب، بل من دليل حسّي واقعي؛ هو قيام الوطن القومي اليهودي[3] على أرضنا، والذي يمثّل أوجّ التحدّي الغربي السياسي والثقافي معاً.
وليس أدلّ على مخالفتهما لتيار النهضة؛ أن تدعو الليبرالية إلى العقل في طور الثورة الوطنية التي كنّا نحتاج فيها إلى الثورة؛ حيث كان هدفنا الحرّيّة، وأن تدعونا الاشتراكية إلى الثورة في طور البناء والتقدّم الاجتماعي الذي كنّا نحتاج فيه إلى العقل؛ حيث إنّ هدفنا التقدّم، ولا شكّ أبداً في أنّ الحرّيّة كانت تحتاج إلى عقلية ثورية. ولا شكّ أبداً في أنّ التقدّم يحتاج إلى ثورة عقلانية.
إنّ عدم إدراكهما التحدّي الغربي الحديث القائم في مشكلة التخلّف العلمي والصناعي، وعقلانية التنظيم المقترنة بهما، أو ما أطلقنا عليه اسم النظام العقلاني من الحضارة، ونقلهما موضوعه إلى نظام المفاهيم والقيم الأخلاقية والجمالية؛ أي من مجال السلم والصناعة إلى مجال العقيدة والفن والأدب؛ كلّ ذلك جعل تصوّرهما لحركة النهضة مقلوباً؛ ما أدّى إلى استدلال فاسد جعل أحكامهما على الحضارة الأوروبية نفسها معكوسة. وهذا هو خطؤها الثاني؛ فبدل أن تركّز الاهتمام على العلوم الطبيعية والرياضية والتصنيع؛ بوصفها أساس التقدّم الأوروبي الحديث راحت تهتمّ بالعلوم التاريخية والفنون.
وهي بدلاً من أن ترى في علم الطبيعة الحديث والصناعة الحديثة شرط التقدّم، وأن تنظر إلى المذاهب الاجتماعية التي رافقته كنتيجة له؛ راحت تجعل من نقل الأشكال الاجتماعية وتطبيقاتها في بلادنا؛ شرط التقدّم، وقد قلّت الأشكال الاجتماعية لا المذاهب الاجتماعية. ولأدلّ على أنّها نظرت إلى تلك النتائج لا كمجرّد ظواهر، بل كبدائل؛ أي نظرة ساكنة جعلتها تصبغ عليها صفة التعميم والإطلاق.
لذلك فهي لم ترَ المشكلة في الإنسان، بل في النظام، ولم يشغلها البحث في المذهب، بل في نقل صوره وقوالبه. تلك هي مأساة العقلية الشكلية التي سيطرت عليها في فهم مشكلة حضارتنا.
بتعبير أكثر وضوحاً؛ بدل أن تحاول فهم التطوّرات التي أدّت تطبيقات علم الطبيعة الحديثة والصناعة في المجتمع الأوروبي، أو فهم تفسيرات الظواهر التي نشأت عن ذلك، كما فعل مفكّروا الغرب بعد هيجل ونيتشه؛ راحت تأخذ أحد تفسيرات تلك الظواهر، فتجعل منها مسلّمة، وتأخذ إحدى صيغ التطوّر الاجتماعي؛ أي إحدى النظم الاجتماعية؛ فتجعلها نموذجاً، كما فعلت الليبرالية في دعاويها المختلفة؛ المذهب الحرّ والديمقراطي.
وبدلاً من أن تحكم على التطوّرات الاجتماعية الأوروبية التي رافقت ظاهرة الرأسمالية وما أعقبها؛ راحت تجعل من تحوّل بنى المجتمع الأوروبي آلية التطوّر على الإطلاق. ومن أحد تفاسيرها؛ أي ظاهرة الرأسمالية الأوروبية: علم التكنيك الاجتماعي. ومن تكرار تلك التجربة؛ «حتمية تاريخية»، كما يفعل الماركسيون.
فهي لم تنظر إلى مجموعة تلك الظواهر؛ بوصفها تجربة أوروبية في مجرى التاريخ الأوروبي، بل راحت تعزلها من تيار التاريخ، وتجمّدها، وتعلّقها في الهواء. وهو أمر يناقض جوهر الماركسية نفسها؛ لتجعل من فلسفة التاريخ لاهوتاً جديداً، لا بدّ من الإيمان به وبطقوسه أيضاً.
هكذا الرأسمالية[4] هي الخطيئة، والبروليتاريا هي الشعب المختار والحزب المخلّص، والثورة هي الفداء، والشيوعية هي محكمة السماء، والمحترفون الثوريون الذين يستشفّون أعمق أعماق الطبقة الكادحة، يمثّلون الوعي الصحيح للكادحين، فهم الكهنة الجدد الذين يتلقّون الأسرار الحقيقية، من خلال رؤاهم ويذيعونها على المؤمنين. وأخرويّات هذه العقيدة الجديدة ليست ميتافيزيقية، بل هي أخرويّات علمية؛ فهي اشتراكية علمية. أمّا الطقوس والابتهالات فيتلمّسها هؤلاء من نظرية تكتيك الحزب عند لينين.
وهي بذلك أضاعت حتى فرصة الاستفادة من منطق البحث ومنهجه في العلوم الإنسانية الأوروبية أيضاً.
فما جلبناه للمسلم المثقّف المتلهّف إلى المعرفة والمتحرّق إلى النهضة لم يكن «دراسات» أو «تأمّلات» تسهم في تحريك السواكن*، بقدر ما جلبنا له عقائد قيميّة جديدة تتطلّب التسليم والإيمان والتصديق بها، وهي بذلك كله تعبّر عن خطئها في فهم مشكلة الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، بل وعن خطأ أفدح منه في فهم الإنسان الأوروبي ومجتمعه أيضاً، ودلّت بكليهما على تهافت نظرتها إلى الإنسان عامّة.
ذلك أنّ الإنسان طبيعة وتاريخاً كائن حيّ، وكائن اجتماعي أيضاً. فردٌ، لكنّه فردٌ من أمّة بالذات، في مجتمع بالذات، ذو ثقافة خاصّة؛ لحضارة معيّنة.
فالإنسان الأوروبي ليس هو الإنسان على الإطلاق، وما هو أوروبي ليس مساوياً لما هو طبيعي؛ لأنّ الأوروبيين ليسوا هم العالم، وتاريخها هو تاريخها وحدها، وتفسير تطوّراته ومصطلحات هذا التفسير خاصّ بها وحدها، وإذا كان علم الطبيعة الحديث أوروبياً فإنّ الطبيعة نفسها ليست أوروبية وليست حديثة.
وكذلك قيم الحرّيّة والعدالة الإنسانية، فالليبرالية الأوروبية ليست هي علم الحرّيّة، والماركسية ليست هي علم العدالة، بل هما بالضبط تفسيرات لظاهرتين اجتماعيتين في التطوّر التاريخي للمجتمع الأوروبي الحديث في القرنين الماضي والحالي.
إنّ هذا لا يعني الانغلاق والرفض – كما يتّهم الليبراليون والاشتراكيون الاتّجاه الإسلامي -، بل يعني بالضبط توفير الشروط الموضوعية للانفتاح والحوار، وبالتالي تبادل وتفاعل ثقافيين مُجديين. أمّا موقف النقلة والتقليد والجمود – موقفهم – فهو وحده الذي حال وسيحول -أيضاً- دون ذلك. وللأوروبيين الحقّ في أن يروا في أحد نماذج تاريخهم صورة الإنسان الأكمل، فيجعلوا منها صورة مطلقة، بينما الآخر عندهم هو الجحيم – هو إنسان الغاب –، أو يروا في تفسير ظاهرة من ظواهر مجتمعهم «التفسير الصحيح»؛ فيعطوه صفة الشمول.
وهو ما كان يحدث إلى عهد قريب جداً، لكنّ ذلك يبقى رأيهم وحدهم.
ولهم أيضاً أن ينظروا إلى تاريخ أوروبا على أنّه تاريخ العالم، وتفسير حوادثه على أنّها قابلة للتعميم. لقد أُعطيت قيم الأفكار المرتبطة بالنظام العقلاني للأفكار المرتبطة بنظام القيم الأخلاقية والجمالية من الحضارة الأوروبية، وطُبِّقت الأحكام المتّصلة بالعلم والصناعة على المفاهيم والقيم؛ بحيث أصبحت الأحكام العلمية خصائص للأحكام الأخلاقية والجمالية، فأعطوها صفة العموم والشمول والواقعية والموضوعية والحتمية أيضاً. ولكنّ هذا ليس هو الواقع.
والحقيقة أنّه ما من أحد أدرك فداحة الخطأ في هذه النظرة، مثل: المفكّرين الأوروبيين اليوم؛ حيث أدركوا معها كم جرّت عليهم المدرسة التاريخية من أخطاء. وفهمها الإنسان؛ بوصفه كائناً تاريخياً؛ من خلال التراث الغربي وحده.
ولست أشكّ في أنّ هذه النقطة بالذات ستكون مفتاح كلّ نقد إسلامي للعلوم الأوروبية في المستقبل. لقد حوّلت النصرانية الفكر الأوروبي؛ عبر عالم الطبيعة، كما كان الحال عند اليونان، إلى عالم الإنسان. وبذلك تحوّل عالم الطبيعة والفطرة إلى مفهوم الطبيعة الإنسانية إلى وجود تاريخي، وقد كان هذا التحوّل الخطير نتيجة تنصير المفاهيم اليونانية. ولذلك آثاره البعيدة في الفكر الأوروبي.
وما يهمّنا هنا ما يلي:
1- إنّ الغربيين أصبحوا يعيّنون خصائص الإنسان؛ من خلال التاريخ، ويحاولون فهمه؛ من خلال هذه الخصائص، ولا يفسّرون تاريخ الإنسان؛ من خلال خصائصه الطبيعية – الخِلقة والخُلق معاً –. وهناك فرق كبير بين أن نعتبر الإنسان جزءً من الطبيعة، فنسلّم بأنّ له خصائص طبيعة ثابتة خلال كلّ أطوار التاريخ، فنعيّن على أساسها مفهومنا عنه، وبين أن نستلخص للإنسان؛ من خلال أطوار تاريخه، خصائص معيّنة، فنجعلها خصائص طبيعية له.
2- إنّ هذه الخصائص استخلصها الغربيون من التاريخ الغربي وحده، والمعايير التي استندوا إليها في ذلك معايير خاصّة بحضارتهم؛ سواء الفلسفة الإغريقية، أو اللاتينية المسيحية، حتى الفلسفات الأخلاقية الحديثة فهي معايير خاصّة بقارّة معيّنة؛ لحضارة معيّنة.
لقد كانت كلمة عالم إلى وقت قريب جدّاً مرادفه لديهم في المصطلح التاريخي لكلمة أوروبا أو الغرب، وكانوا يتحدّثون عن تاريخ العالم بهذه الصفات: "المركزية الأوروبية"، "العقلية الإنجلوسكسونية والفرانكفونية"، "الإنجلو أمريكية"، "النظام الدولي"، على أنّ كلمة تاريخ العالم نفسها تعبير خاطئ؛ لأنّ العالم ليس له تاريخ، بل هناك تاريخ الإنسان في العالم.
3- حين أنكرت الطبيعة الثابتة للإنسان؛ كانت النتيجة أنّه قد أصبح صنعه سهلاً(نظرية الاستنساخ/ الإنسان الآلي: الروبوت)، خاصّة على أثر انجازات العلم الحديث.
وهكذا بدأت بعض المذاهب التربوية تنكر الفطرة وتتحدّث عن صنع الإنسان. وأصبحت أهداف الثورات «تغيير الإنسان»، و«صنع إنسان جديد»، وحينما أصبح تاريخ الإنسان فقد غدت «حتمية الطبيعة حتمية تاريخية»، وحينما كان المقصود عندهم بتاريخ الإنسان تاريخ الإنسان الأوروبي؛ فقد أصبحت حتمية التاريخ في الواقع تغريباً بالقوّة؛ أي بقوّة التفوّق العلمي للغرب، بما فيه القوّة المادّية(لاحظ نيتشه وشوبنهور في مجال فلسفة الأخلاق، وكذلك فوكوياما ونهاية التاريخ، وهينتغتون وصدام الحضارات).
لقد كان هذا هو أحد الأسباب العميقة في رأيي لفشل كلّ محاولات المذاهب الإنسانية في الغرب، بل إنّه السبب الذي يحول بين الفكر الأوروبي المعاصر وبين قيام حركة إنسانية حقيقية، لا مذهب إنساني جديد.
باختصار: فإنّ الليبرالية والاشتراكية بدل أن تهتمّا بعلم الطبيعة والتكنولوجيا أخذتا فلسفة التاريخ؛ فجعلاها علماً، وأخذتا فلسفة الاجتماع؛ فجعلاها تكنولوجيا[5]. وبصورة أدقّ: أخذتا إحدى فلسفات التاريخ وأحد مذاهب علم الاجتماع.
ولعلّ هذا ما يفسّر هذا الجمود والتحجّر العجيب في الفكر العربي اليوم، مع أنّ صفة >عطالة< من مفهوم المادّة في علم الفيزياء - فيزياء نيوتن - قد أصبحت موضع شكّ في الفيزياء الذرية اليوم، وبدت صفة الديناميكية هي صفة الفكر الإنساني الأصيلة. فإنّ قانون العطالة ما يزال سارياً على تفكير الاشتراكية الماركسية في بلادنا، بل هم يريدون تطبيقه علينا أيضاً. بل هناك ما هو أدهى من ذلك؛ حيث إنّ التطوّرات في الفكر السوفيتي سابقاً تدلّ على أنّ التكنولوجيا نفسها ستكسر جمود الإيديولوجيا. أمّا جمودهم الإيديولوجي فقد استحال إلى ضرب من التحجّر.
ويفسّرون من جهة أخرى «الوصاية الفكرية» التي تمارسها الأنظمة المستبدّة الثورية فيه. فما لم يخلع الإنسان العربي عن نفسه هذه الوصاية، ويشقّ بعقله وتراثه وقيمه؛ فإنّ من المستحيل أن نخرج من حالة العقم والفوضى العقلية القائمة اليوم، وأن نفوز بتجربة حسّيّة لا تجريديّة.
وهذا هو المؤمَّل اليوم؛ «عقلية ثورية»، بل كذلك «ثورة عقلية» معاً.
فلم يعد هناك عذر لمثقّف مسلم بعد اليوم: أن يطالع كتاباً أوروبياً مفتوناً، بل دارساً وناقداً. ولا أن يقف أمام لوحة لا يفهمها معجباً، بل متأمّلاً. ولا أن يقف أمام آلة مبهوراً، بل متعلّماً ومسيطراً. ولا أن يتصرّف أمام أوروبي مرتبكاً، بل واثقاً ومعلّلاً. وربما يصبح يوماً ما معلّماً، أو كما يريده القرآن الكريم شاهداً. وكذلك لم يعد هناك عذراً أمام المجتمع الإسلامي بعد التصفية التاريخية الراهنة في مناطق عدّة من العالمين العربي والإسلامي(لبنان وغزّة...).
فلم تعد مساحة بيضاء في الصراع الفكري، أو منطقة فراغ في الصراع السياسي. أو معمل تجارب للأنظمة الاجتماعية، بل لا بدّ من فكر إسلامي مبدع، وحركة إسلامية حيّة، وحلّ إسلامي نهائي.
المحور الثاني
القيم والمسألة الأخلاقية والتراث
لأن كان الخطأن الأوّلان يتّصلان بعدم إدراك الشرط الموضوعي لحركة النهضة؛ فإنّ الخطأ الثالث يتمثّل في عدم إدراك الشرط النفسي لها. ولئن كان إدراك جوهر التحدّي الغربي الحديث لنا إدراكاً صحيحاً؛ بمعرفة جوهر الفكر الغربي الحديث وأصوله؛ ما يشكّل الشرط الموضوعي لمعرفة جوهر الأزمة، وبالتالي مفتاح النهضة؛ فإنّ اكتشاف التراث وبعثه وإحياء المفاهيم والقيم التراثية؛ هو الشرط النفسي لتجاوز الأزمة وتحقيق النهضة؛ إذ لا يمكن أن تجدِّد شيئاً ما لم يتجدَّد الإنسان نفسه. والإنسان لا يمكن أن يتجدَّد بالعلم والصناعة ونظام الحكم، بل بالبعث الروحي وبالحقيقة القيمية؛ أي بتجديد منظومة المفاهيم والقيم والأخلاقية والجمالية.
وعدم إدراك هذا الشرط النفسي حال بيننا وبين «إجراء عملية التبادل» الحضاري مع الغرب أيضاً، فلا نحن عرفنا أصولنا، ولا أصول الفكر الغربي. وحركة الترجمة لأصدق دليل على ذلك.
بتعبير آخر: لقد كانت نظرتنا الساكنة إلى الأفكار الأوروبية وإعطاؤنا لها قيماً رياضية مطلقة حائلاً بيننا وبين فهم قيمها الاجتماعية؛ حتى لكأنّ الحقيقة تبدأ منذ أن نلتفت إليها... وكأنّ لنا أعين ميدوزا؛ بحيث لا يسقط بصرنا على الأفكار حتى تتحجّر...
هذه النظر الساكنة جعلتنا نغفل أهمّيّة التركيب النفسي في «ظاهرة الثقافة»، وبالتالي نغفل عن تقويم الشرط النفسي«لعملية التبادل الحضاري»؛ وأعني بذلك أنّنا أغفلنا التفرقة الجوهرية بين القيم الذاتية والقيم التاريخية لها، أو بين القيم المعرفية والقيم التراثية، أو بين قيم الأفكار المجرّدة وقيم الأفكار؛ وهي تؤدّي وظيفتها الاجتماعية من خلال شبكة العلاقات الاجتماعية لمجتمع ما.
فالقيمة الذاتية للفكرة؛ هي قيمتها بما هي قوّة، وبما هي معرفة، وبما هي ثمرة إبداع العقل الإنساني.
وأمّا القيمة التاريخية للفكرة؛ فهي قيمتها بما هي فعل، وبما هي تحقيق اجتماعي مرتبط؛ بثقافة بالذات، ولأمّة بالذات، ولحضارة بالذات.
والقيم التاريخية للأفكار؛ هي القيم التي تصلنا بطريق التراث، بواسطة التربية في مجتمع معيّن. وهي التي تكوّن «الضمير الاجتماعي» للفرد، وتولّد فيه «الفعاليّة الاجتماعية<، وتضبط «سلوكه الاجتماعي». والوعي التاريخي المشترك لقيم هذه الأفكار هو ما نسمّيه «بالضمير الجمعي». وهو الذي يشكّل الرابطة العضوية بين أفراد أمّة من الأمم، وعليه تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية. وهو الذي يعطي لوجود الأمّة مغزى. وهو الذي يقدّم لكيانها ولاستمرارها كأمّة وكثقافة؛ تبريراً؛ هو حجّتها أمام نفسها وأمام الأمم والثقافات الأخرى.
إنّ القيم التاريخية للأفكار قيم تراثية، وهي تغنى؛ كلّما زاد الحوار الحيّ مع التراث شدّة، وتشتدّ فعاليّتها؛ كلّما توثّقت الصلة بـ «مضمون» التراث وتجاوزت عنه – عن طريق النقد – أشكاله وقوالبه. وكلّما حصل ذلك أمكن للمرء أن يقع على « الخالد فيه» فيدرك بذلك مدى انفتاحه وشموله. ويشعر بالتالي بضرورة بقائه واستمراره؛ بوصفه رصيداً لخبرة أمّته التاريخية، وهو يتمثّل في الحكم التالي: هذه القيم يجب أن تبقى؛ أي يجب أن يتناقلها جيل عن جيل. وصيغة هذا الحكم هو جوهر القيم التراثية.
وبذلك يتحوّل التراث من أن يكون «عبء الماضي»؛ ليصبح «أفق المستقبل». ويتحرّر من «قانون الإكراه الاجتماعي»؛ ليصبح ضرباً من «الواجب الأخلاقي».
وهذه القيم التاريخية تختلف عن القيم المعرفية؛ بأنّ هذه الأخيرة قيم معلّلة، بينما القيم التراثية قيم فاعلة. وبأنّها مفسّرة، بينما القيم التراثية قيم مغيّرة. وبأنّ الأولى عامّة، بينما الثانية: خاصّة. وأنّ الأولى نتعلّمها، والثانية نتنفّسها. وبأنّ الأولى مرتبطة بالعلوم الطبيعية وإلى قدر محدود بالصناعة، أمّا الثانية فبمجال العلوم الإنسانية.
لذلك فنحن لا يمكن أن نصدر على القانون العلمي، أو على العملية الصناعية حكماً علمياً منطقياً؛ نعبر عنه بخطأ أو صواب، وأمّا السلوك الإنساني فلا يمكن أن نصدر عليه هذا الحكم – إلا في ظلّ سلطة مطلقة!! – بل نحاول تفهّمه.
إنّ القيم التراثية هي التي تجعل عمل الإنسان مفهوماً، وتصرّفه ذا مغزى. ولو كان التصرّف الإنساني ضرباً من التكنيك الفردي، أو كانت المواقف الاجتماعية ضرباً من التكنيك الجمعي؛ لبطل كلّ حديث عن الحرّيّة وعن الإنسان.
وقد يحتجّ البعض بأنّ علم الطبيعة الحديث والصناعة الحديثة وعقلانية التنظيم المرافقة لهما قد قلّلت من أهمّيّة هذه الفروق. وهذا وهم من الأوهام؛ لأنّ العلم والتصنيع لا يمكن أن يرث التاريخ، ولا يمكن أن يحلّ المسائل الأخلاقية.
وهذا الوهم القائم على الخلط بين مفهومي "تقني" و"عملي"، وبين "نظام القيمة الأخلاقية والجمالية" و"النظام العقلاني للحضارة". وهذا ما كشفت عنه دراسات علم الإنسان المعاصر. المهمّ هنا أن نؤكّد أن عملية نقل الأفكار من منبتها التاريخي يجعلها تتجرّد من قيمتها التراثية؛ فتصلنا «مجموعة معارف» وبالتالي أي:
- لا يمكن أن تؤدّي في طور حركة النهضة؛ إلا إلى «التكديس» على صورة «سعة علم»، أو إلى التشويه على صورة «تقليد مضحك».
- لا يمكن أن تؤدّي الوظيفة الاجتماعية نفسها التي أدّتها في نطاق ثقافتها ومجتمعها.
- لا يمكن أن ينشأ عنها ابتكار فردي، ولا بدّ أن تولِّد فاعليّة اجتماعية؛ لأنّها تفتقر إلى الأساس النفسي لذلك. فضلاً عن أن تكون أساساً للبعث الروحي؛ شرط النهضة الأوّل؛ أي الثورة داخل النفس.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ إحياء القيم التراثية وتحديد مفاهيمها هو الذي يهيئ للبعث الروحي الذي يدفع بدوره للتغيير (الفردي والاجتماعي معاً). إنّه لم يكن عبثاً أن تحاول الطليعة الواعية لأي مجتمع يودّ النهضة أو التجديد بفكرة «العودة إلى الأصول».
إنّ الغفلة عن هذه الحقيقة(في حركة نهضتنا)؛ سبب أزمة الليبرالية العلمانية والاشتراكية الثورية، وهو في الوقت نفسه؛ سبب مأساتها ومأساة المثقّف العربي معاً. لقد كنّا نلقي بذوراً لم نفحصها؛ في تربة لم نحرثها؛ وفي مناخ لم نعرف خصائصه. وكنّا كمن يزرع بذوراً ميتة في تربة بكر، أو كمن يستنبت بذوراً حيّة في تربة قاحلة؛ فالتربة هي المجتمع، والبذور هي الأفكار، وفحصها هو التفريق بين قيمتها الذاتية والتاريخية، والحراث هو معرفة الأزمة، والمناخ هو الثقافة ومعرفة خصائصه هي إدراك الشروط النفسية لعملية التركيب.
لقد كنّا نستورد ما يروق لنا من الأفكار فنلقيها في المجتمع، وبالتالي لم نعِ القيم التراثية الحيّة في ثقافته، ولم ندرك الشرط النفسي للتغيير الاجتماعي. فنحن قبل أن ننظر في ظروف مجتمعنا كان فكرنا متعلّقاً بمجتمع آخر يثير إعجابنا.
لقد نفضنا أيدينا من تراثنا قبل أن نقوم بحركة إحيائه. وأحياؤه لا يكون فقط بإعادة طبعه، بل بإعادة فهمه وتمثّله واستيعابه وهضمه والتزام معاييره وحقائقه ومعالجته؛ بما يقابله من تراث عالمي، من ثمّ توظيفه في واقعنا.
لقد نفضنا أيدينا عن تراثنا قبل أن نكتشفه ونكتشف قيمه الحيّة الفاعلة في المجتمع، وقبل أن نقيم تجارب تاريخية ذات أهمّيّة كبرى، كتجربتنا مع الثقافة اليونانية؛ بوصفها ضرباً من التحدّي الغربي الثقافي لنا، وتجربتنا مع الحروب الصليبية؛ بوصفها نوعاً من التحدي الغربي السياسي لنا أيضاً. فلم نقارن بين الحالتين، ونبيّن أوجه الشبه وأوجه الافتراق، ولم ندركهما في إطار وحدة تاريخنا واستمراره. وبالتالي لم نقوِّم مغزى هاتين التجربتين التاريخيتين الهامّتين في معركة التحدّي الغربي الحديث: الثقافي منه؛ المتمثِّل بالعلم الحديث والصناعة الحديثة، والسياسي؛ المتمثِّل بالغزو الأوروبي والأميركي الاستكباري. ثمّ مع الحركة الصهيونية والوجود الصهيوني اليهودي الذي يجسّد التحدّيين معاً.
لقد كانت الليبرالية العالمانية ضدّ تيار النهضة، في حين أنّها ظنّت باتّجاهه. وكانت الاشتراكية الثورية ضدّ تيار التقدّم، في حين توهّمت أنّها في تياره. لقد ألغتا كلّ إمكانية للتركيب المبدع؛ حين ألغتا «أطروحة التراثية»، وغفلتا عن الشرط النفسي له -أيضاً-، في ظلّ أنظمة بوليسيّة قمعيّة.
[1] منشورة في مجلة الحياة الطيبة، العدد 24، شتاء 2012م.
[2] متخصّص في الفلسفة والاجتماع، ورئيس مركز الدراسات والبحوث الفكرية في بيروت.
[3] كانت الصهيونية تحتجّ بأنّ العرب متخلّفون قيمياً، وأنّ رسالتها تمدّنية؛ هذا من حيث الدعوى. أمّا من حيث الواقع فلو كانت بلادنا تمتلك القوّة المستندة إلى العلم والصناعات لحال ذلك بينها وبين اختيارها وطناً لها في فلسطين.
[4] لوفيت، كارل: دراسات في كتابه من هيجل إلى نيتشه؛ بلوخ، أرنست: تاريخ العالم والأحداث المقدّسة. وفي كتابه مبدأ الأمل دليلاً آخر على الأساس اللاهوتي لمفاهيم فلسفة التاريخ الماركسية؛ لذلك فليس عجباً أن يستفيد من هذا المؤلّف اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنانت على السواء. والجدير بالذكر أنّهما يهوديان.
* التعبير للكاتب التونسي محجوب بن ميلاد: الفكر الإسلامي والنهضة.
[5] يُراجع: مصطفى، كمال: تكنولوجيا العلوم الاجتماعية، القاهرة.
د. حسن البنّا[2]
بطاقة الكتاب:
o تصنيف الكتاب: فكر سياسي واجتماعي.
o اسم الكتاب: الحلّ الإسلامي ما بعد النكبتين.
o اسم المؤلّف: توفيق الطيّب.
o بيانات النشر: ط2، القاهرة، المختار الإسلامي، 1979م.
تعريف بمؤلّف الكتاب:
o شخصيّة المؤلّف:
يعتبر المفكّر توفيق الطيّب من المفكّرين الإسلاميين المغمورين، وهو مفكّر إسلامي جزائري الأصل تنقّل ما بين دمشق الشام وبيروت والدول الأوروبية وامريكا قسراً تارة وبإرادته أخرى؛ نظراً لآرائه.
o الإنتاج الفكري:
- الحلّ الإسلامي ما بعد النكبتين.
- التعايش الليبرالي والاشتراكي في مواجهة الإسلامية.
- القرآن وأصل الحياة.
- مقالات في مجلة المسلم المعاصر حول الحركات الإسلامية.
o منهجه الفكري:
يعتبر توفيق الطيب مهندس أفكار يأنس بالجمل الخبرية، والمنهج النقدي والمقارن، فهو بحدّ ذاته ثورة عقلانية على الصعيد التنظيري، وعقلية ثورية على الصعيد العملي؛ الفلسطيني بالذات، ومتمكّن من قضايا التراث الإسلامي والعالمي على مستوى المسائل والمواضيع والمفاهيم والمصطلحات.
تعريف بالكتاب ومحتوياته:
هو عبارة عن كتيّب من القطع الصغير يقع في حوالي 76 صفحة، أهداه إلى الذين لا يفكّرون بعقلية ما قبل النكبتين أو بعقلية ما بين النكبتين، بل إلى الذين صهرت آلام النكبتين أعصابهم فأيقظت فيهم حسّ التفكير العميق الجادّ بالمستقبل... إلى جيل ما بعد النكبتين.
ويحتوي على مقدّمة تدور حول النكبة والفكر على مستوى:
- الاتّجاه.
- الخصائص.
ومن ثمّ تسائل: هل من مخرج؟
بينما المتن تناول فيه: فشل تجارب الأنظمة العربية الليبرالية منها والاشتراكية، من حيث الدرجة والشدّة والزمن وطبيعة التحدّي الصهيوني، وأورد بالأدلّة والأمثلة أنّه قد تمّ القضاء على التحدّيات في مطلع القرن الماضي؛ عبر:
- التصفية النفسية لدى الفرد المسلم.
- التصفية التاريخية في المجتمع المسلم أيضاً.
ولقد حدّد أخطاء التجربتين:
- أولاً: في مجال الشرط الموضوعي.
- ثانياً: في مجال الشرط النفسي.
وما أفضت إليهما من نتائج، منها:
- تعثّر حركة النهضة.
- تناقضات المثقّف العربي ونتائجه الخطرة.
- تناقضات الأنظمة العالمانية الليبرالية بالأمس البعيد والاشتراكية الثورية بالأمس القريب.
وما خلّفته الهيمنة الغربية – مرحلة الاستعمار والاستكبار، من: تفكّك سياسي، وجمود فكري، وتفاوت اجتماعي، وثقافة استعمارية. ورغم صغر الكتيّب إلا أنّه مرجع للمفكّرين فقط.
عرض الكتاب وتقويمه:
المحور الأوّل
قيم الإنسان بين التجربتين(الليبرالية والاشتراكية) في المنظور العربي والغربي
يوجد عدّة أخطاء أساسية للتجربتين الليبرالية والاشتراكية باتت سبب أزمتهما وفشلهما معاً، وهي:
1. أنّهما لم تدركا جوهر الفكر الغربي الحديث ولا جوهر العصر الأوروبي الحديث؛ ونتيجة ذلك فهما لم تدركا جوهر التحدّي الغربي الحديث لحضارتنا؛ فجوهر الفكر الأوروبي الحديث يُلتَمَس في الأساس الفلسفي الذي يهيمن عليه علم الطبيعة الحديث، والذي قامت عليه الصناعة الحديثة. وجوهر العصر الأوروبي الحديث هو العلم؛ حيث إنّه عصر العلم والصناعات الحديثة، وهو في الوقت نفسه جوهر التحدّي الغربي الحديث لنا. وليس هو لا العقيدة ولا الفن.
وقد قلت بهذا الاعتبار؛ لأنّ التقدّم المرتبط بالعلم والصناعات يتّصل بالنظام العقلاني من الحضارة الأوروبية فحسب، ولا يمسّ نظام قيمنا الأخلاقية والجمالية، ولا النظام العقدي أو الإيديولوجي.
تلك هي المشكلة، وهي تكمن في أنّ التحدّي الغربي لم يكن تحدّياً للإسلام؛ بوصفه عقيدةً ولا نظاماً أخلاقياً. رغم السكونيّة التي اتّصف بها الفكر الإسلامي في مرحلة الحضارة، التي حصل فيها الاحتكاك الجديد مع الغرب، ورغم التحجّر في معايير تقويمنا الخُلُقي؛ ذلك أنّ صمود العقيدة الإسلامية قرون الاستكبار كلّها أمام كلّ أنواع التدمير والتخريب، من حضارة ذات جهاز فني دقيق، لهو أصدق دليل على أنّ الحقيقة القيّمة تكمن في رصيدها؛ وأنّ الفطرة الإنسانية لا تتلاءم مع سواها. وهناك دليل آخر يتمظهر في ثورات المسلمين التي تعدّ أسطع دليل على القوّة الأخلاقية الكامنة فيهم، ودليل ثالث يتجلّى في ثورات العالم الإسلامي اليوم؛ بوصفها دليلاً واقعياً ملموساً على أنّ الروح الإسلامي لا يقهر.
2. أنّها نقلت التحدّي من مجاله الحقيقي إلى مجال آخر، ومن مجال العلم إلى مجال العقيدةن ومن مجال الصناعة إلى مجال الفنّ والأدب، بحيث التقت في النهاية مع التيّار المعارض للنهضة وللثورة معاً. وهو بالضبط ما كان وما يزال يريده الغرب.
ولا نستمدّ ذلك من سياسته التعليمية تجاهنا في عصر الحكم الأجنبي فحسب، بل من دليل حسّي واقعي؛ هو قيام الوطن القومي اليهودي[3] على أرضنا، والذي يمثّل أوجّ التحدّي الغربي السياسي والثقافي معاً.
وليس أدلّ على مخالفتهما لتيار النهضة؛ أن تدعو الليبرالية إلى العقل في طور الثورة الوطنية التي كنّا نحتاج فيها إلى الثورة؛ حيث كان هدفنا الحرّيّة، وأن تدعونا الاشتراكية إلى الثورة في طور البناء والتقدّم الاجتماعي الذي كنّا نحتاج فيه إلى العقل؛ حيث إنّ هدفنا التقدّم، ولا شكّ أبداً في أنّ الحرّيّة كانت تحتاج إلى عقلية ثورية. ولا شكّ أبداً في أنّ التقدّم يحتاج إلى ثورة عقلانية.
إنّ عدم إدراكهما التحدّي الغربي الحديث القائم في مشكلة التخلّف العلمي والصناعي، وعقلانية التنظيم المقترنة بهما، أو ما أطلقنا عليه اسم النظام العقلاني من الحضارة، ونقلهما موضوعه إلى نظام المفاهيم والقيم الأخلاقية والجمالية؛ أي من مجال السلم والصناعة إلى مجال العقيدة والفن والأدب؛ كلّ ذلك جعل تصوّرهما لحركة النهضة مقلوباً؛ ما أدّى إلى استدلال فاسد جعل أحكامهما على الحضارة الأوروبية نفسها معكوسة. وهذا هو خطؤها الثاني؛ فبدل أن تركّز الاهتمام على العلوم الطبيعية والرياضية والتصنيع؛ بوصفها أساس التقدّم الأوروبي الحديث راحت تهتمّ بالعلوم التاريخية والفنون.
وهي بدلاً من أن ترى في علم الطبيعة الحديث والصناعة الحديثة شرط التقدّم، وأن تنظر إلى المذاهب الاجتماعية التي رافقته كنتيجة له؛ راحت تجعل من نقل الأشكال الاجتماعية وتطبيقاتها في بلادنا؛ شرط التقدّم، وقد قلّت الأشكال الاجتماعية لا المذاهب الاجتماعية. ولأدلّ على أنّها نظرت إلى تلك النتائج لا كمجرّد ظواهر، بل كبدائل؛ أي نظرة ساكنة جعلتها تصبغ عليها صفة التعميم والإطلاق.
لذلك فهي لم ترَ المشكلة في الإنسان، بل في النظام، ولم يشغلها البحث في المذهب، بل في نقل صوره وقوالبه. تلك هي مأساة العقلية الشكلية التي سيطرت عليها في فهم مشكلة حضارتنا.
بتعبير أكثر وضوحاً؛ بدل أن تحاول فهم التطوّرات التي أدّت تطبيقات علم الطبيعة الحديثة والصناعة في المجتمع الأوروبي، أو فهم تفسيرات الظواهر التي نشأت عن ذلك، كما فعل مفكّروا الغرب بعد هيجل ونيتشه؛ راحت تأخذ أحد تفسيرات تلك الظواهر، فتجعل منها مسلّمة، وتأخذ إحدى صيغ التطوّر الاجتماعي؛ أي إحدى النظم الاجتماعية؛ فتجعلها نموذجاً، كما فعلت الليبرالية في دعاويها المختلفة؛ المذهب الحرّ والديمقراطي.
وبدلاً من أن تحكم على التطوّرات الاجتماعية الأوروبية التي رافقت ظاهرة الرأسمالية وما أعقبها؛ راحت تجعل من تحوّل بنى المجتمع الأوروبي آلية التطوّر على الإطلاق. ومن أحد تفاسيرها؛ أي ظاهرة الرأسمالية الأوروبية: علم التكنيك الاجتماعي. ومن تكرار تلك التجربة؛ «حتمية تاريخية»، كما يفعل الماركسيون.
فهي لم تنظر إلى مجموعة تلك الظواهر؛ بوصفها تجربة أوروبية في مجرى التاريخ الأوروبي، بل راحت تعزلها من تيار التاريخ، وتجمّدها، وتعلّقها في الهواء. وهو أمر يناقض جوهر الماركسية نفسها؛ لتجعل من فلسفة التاريخ لاهوتاً جديداً، لا بدّ من الإيمان به وبطقوسه أيضاً.
هكذا الرأسمالية[4] هي الخطيئة، والبروليتاريا هي الشعب المختار والحزب المخلّص، والثورة هي الفداء، والشيوعية هي محكمة السماء، والمحترفون الثوريون الذين يستشفّون أعمق أعماق الطبقة الكادحة، يمثّلون الوعي الصحيح للكادحين، فهم الكهنة الجدد الذين يتلقّون الأسرار الحقيقية، من خلال رؤاهم ويذيعونها على المؤمنين. وأخرويّات هذه العقيدة الجديدة ليست ميتافيزيقية، بل هي أخرويّات علمية؛ فهي اشتراكية علمية. أمّا الطقوس والابتهالات فيتلمّسها هؤلاء من نظرية تكتيك الحزب عند لينين.
وهي بذلك أضاعت حتى فرصة الاستفادة من منطق البحث ومنهجه في العلوم الإنسانية الأوروبية أيضاً.
فما جلبناه للمسلم المثقّف المتلهّف إلى المعرفة والمتحرّق إلى النهضة لم يكن «دراسات» أو «تأمّلات» تسهم في تحريك السواكن*، بقدر ما جلبنا له عقائد قيميّة جديدة تتطلّب التسليم والإيمان والتصديق بها، وهي بذلك كله تعبّر عن خطئها في فهم مشكلة الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي، بل وعن خطأ أفدح منه في فهم الإنسان الأوروبي ومجتمعه أيضاً، ودلّت بكليهما على تهافت نظرتها إلى الإنسان عامّة.
ذلك أنّ الإنسان طبيعة وتاريخاً كائن حيّ، وكائن اجتماعي أيضاً. فردٌ، لكنّه فردٌ من أمّة بالذات، في مجتمع بالذات، ذو ثقافة خاصّة؛ لحضارة معيّنة.
فالإنسان الأوروبي ليس هو الإنسان على الإطلاق، وما هو أوروبي ليس مساوياً لما هو طبيعي؛ لأنّ الأوروبيين ليسوا هم العالم، وتاريخها هو تاريخها وحدها، وتفسير تطوّراته ومصطلحات هذا التفسير خاصّ بها وحدها، وإذا كان علم الطبيعة الحديث أوروبياً فإنّ الطبيعة نفسها ليست أوروبية وليست حديثة.
وكذلك قيم الحرّيّة والعدالة الإنسانية، فالليبرالية الأوروبية ليست هي علم الحرّيّة، والماركسية ليست هي علم العدالة، بل هما بالضبط تفسيرات لظاهرتين اجتماعيتين في التطوّر التاريخي للمجتمع الأوروبي الحديث في القرنين الماضي والحالي.
إنّ هذا لا يعني الانغلاق والرفض – كما يتّهم الليبراليون والاشتراكيون الاتّجاه الإسلامي -، بل يعني بالضبط توفير الشروط الموضوعية للانفتاح والحوار، وبالتالي تبادل وتفاعل ثقافيين مُجديين. أمّا موقف النقلة والتقليد والجمود – موقفهم – فهو وحده الذي حال وسيحول -أيضاً- دون ذلك. وللأوروبيين الحقّ في أن يروا في أحد نماذج تاريخهم صورة الإنسان الأكمل، فيجعلوا منها صورة مطلقة، بينما الآخر عندهم هو الجحيم – هو إنسان الغاب –، أو يروا في تفسير ظاهرة من ظواهر مجتمعهم «التفسير الصحيح»؛ فيعطوه صفة الشمول.
وهو ما كان يحدث إلى عهد قريب جداً، لكنّ ذلك يبقى رأيهم وحدهم.
ولهم أيضاً أن ينظروا إلى تاريخ أوروبا على أنّه تاريخ العالم، وتفسير حوادثه على أنّها قابلة للتعميم. لقد أُعطيت قيم الأفكار المرتبطة بالنظام العقلاني للأفكار المرتبطة بنظام القيم الأخلاقية والجمالية من الحضارة الأوروبية، وطُبِّقت الأحكام المتّصلة بالعلم والصناعة على المفاهيم والقيم؛ بحيث أصبحت الأحكام العلمية خصائص للأحكام الأخلاقية والجمالية، فأعطوها صفة العموم والشمول والواقعية والموضوعية والحتمية أيضاً. ولكنّ هذا ليس هو الواقع.
والحقيقة أنّه ما من أحد أدرك فداحة الخطأ في هذه النظرة، مثل: المفكّرين الأوروبيين اليوم؛ حيث أدركوا معها كم جرّت عليهم المدرسة التاريخية من أخطاء. وفهمها الإنسان؛ بوصفه كائناً تاريخياً؛ من خلال التراث الغربي وحده.
ولست أشكّ في أنّ هذه النقطة بالذات ستكون مفتاح كلّ نقد إسلامي للعلوم الأوروبية في المستقبل. لقد حوّلت النصرانية الفكر الأوروبي؛ عبر عالم الطبيعة، كما كان الحال عند اليونان، إلى عالم الإنسان. وبذلك تحوّل عالم الطبيعة والفطرة إلى مفهوم الطبيعة الإنسانية إلى وجود تاريخي، وقد كان هذا التحوّل الخطير نتيجة تنصير المفاهيم اليونانية. ولذلك آثاره البعيدة في الفكر الأوروبي.
وما يهمّنا هنا ما يلي:
1- إنّ الغربيين أصبحوا يعيّنون خصائص الإنسان؛ من خلال التاريخ، ويحاولون فهمه؛ من خلال هذه الخصائص، ولا يفسّرون تاريخ الإنسان؛ من خلال خصائصه الطبيعية – الخِلقة والخُلق معاً –. وهناك فرق كبير بين أن نعتبر الإنسان جزءً من الطبيعة، فنسلّم بأنّ له خصائص طبيعة ثابتة خلال كلّ أطوار التاريخ، فنعيّن على أساسها مفهومنا عنه، وبين أن نستلخص للإنسان؛ من خلال أطوار تاريخه، خصائص معيّنة، فنجعلها خصائص طبيعية له.
2- إنّ هذه الخصائص استخلصها الغربيون من التاريخ الغربي وحده، والمعايير التي استندوا إليها في ذلك معايير خاصّة بحضارتهم؛ سواء الفلسفة الإغريقية، أو اللاتينية المسيحية، حتى الفلسفات الأخلاقية الحديثة فهي معايير خاصّة بقارّة معيّنة؛ لحضارة معيّنة.
لقد كانت كلمة عالم إلى وقت قريب جدّاً مرادفه لديهم في المصطلح التاريخي لكلمة أوروبا أو الغرب، وكانوا يتحدّثون عن تاريخ العالم بهذه الصفات: "المركزية الأوروبية"، "العقلية الإنجلوسكسونية والفرانكفونية"، "الإنجلو أمريكية"، "النظام الدولي"، على أنّ كلمة تاريخ العالم نفسها تعبير خاطئ؛ لأنّ العالم ليس له تاريخ، بل هناك تاريخ الإنسان في العالم.
3- حين أنكرت الطبيعة الثابتة للإنسان؛ كانت النتيجة أنّه قد أصبح صنعه سهلاً(نظرية الاستنساخ/ الإنسان الآلي: الروبوت)، خاصّة على أثر انجازات العلم الحديث.
وهكذا بدأت بعض المذاهب التربوية تنكر الفطرة وتتحدّث عن صنع الإنسان. وأصبحت أهداف الثورات «تغيير الإنسان»، و«صنع إنسان جديد»، وحينما أصبح تاريخ الإنسان فقد غدت «حتمية الطبيعة حتمية تاريخية»، وحينما كان المقصود عندهم بتاريخ الإنسان تاريخ الإنسان الأوروبي؛ فقد أصبحت حتمية التاريخ في الواقع تغريباً بالقوّة؛ أي بقوّة التفوّق العلمي للغرب، بما فيه القوّة المادّية(لاحظ نيتشه وشوبنهور في مجال فلسفة الأخلاق، وكذلك فوكوياما ونهاية التاريخ، وهينتغتون وصدام الحضارات).
لقد كان هذا هو أحد الأسباب العميقة في رأيي لفشل كلّ محاولات المذاهب الإنسانية في الغرب، بل إنّه السبب الذي يحول بين الفكر الأوروبي المعاصر وبين قيام حركة إنسانية حقيقية، لا مذهب إنساني جديد.
باختصار: فإنّ الليبرالية والاشتراكية بدل أن تهتمّا بعلم الطبيعة والتكنولوجيا أخذتا فلسفة التاريخ؛ فجعلاها علماً، وأخذتا فلسفة الاجتماع؛ فجعلاها تكنولوجيا[5]. وبصورة أدقّ: أخذتا إحدى فلسفات التاريخ وأحد مذاهب علم الاجتماع.
ولعلّ هذا ما يفسّر هذا الجمود والتحجّر العجيب في الفكر العربي اليوم، مع أنّ صفة >عطالة< من مفهوم المادّة في علم الفيزياء - فيزياء نيوتن - قد أصبحت موضع شكّ في الفيزياء الذرية اليوم، وبدت صفة الديناميكية هي صفة الفكر الإنساني الأصيلة. فإنّ قانون العطالة ما يزال سارياً على تفكير الاشتراكية الماركسية في بلادنا، بل هم يريدون تطبيقه علينا أيضاً. بل هناك ما هو أدهى من ذلك؛ حيث إنّ التطوّرات في الفكر السوفيتي سابقاً تدلّ على أنّ التكنولوجيا نفسها ستكسر جمود الإيديولوجيا. أمّا جمودهم الإيديولوجي فقد استحال إلى ضرب من التحجّر.
ويفسّرون من جهة أخرى «الوصاية الفكرية» التي تمارسها الأنظمة المستبدّة الثورية فيه. فما لم يخلع الإنسان العربي عن نفسه هذه الوصاية، ويشقّ بعقله وتراثه وقيمه؛ فإنّ من المستحيل أن نخرج من حالة العقم والفوضى العقلية القائمة اليوم، وأن نفوز بتجربة حسّيّة لا تجريديّة.
وهذا هو المؤمَّل اليوم؛ «عقلية ثورية»، بل كذلك «ثورة عقلية» معاً.
فلم يعد هناك عذر لمثقّف مسلم بعد اليوم: أن يطالع كتاباً أوروبياً مفتوناً، بل دارساً وناقداً. ولا أن يقف أمام لوحة لا يفهمها معجباً، بل متأمّلاً. ولا أن يقف أمام آلة مبهوراً، بل متعلّماً ومسيطراً. ولا أن يتصرّف أمام أوروبي مرتبكاً، بل واثقاً ومعلّلاً. وربما يصبح يوماً ما معلّماً، أو كما يريده القرآن الكريم شاهداً. وكذلك لم يعد هناك عذراً أمام المجتمع الإسلامي بعد التصفية التاريخية الراهنة في مناطق عدّة من العالمين العربي والإسلامي(لبنان وغزّة...).
فلم تعد مساحة بيضاء في الصراع الفكري، أو منطقة فراغ في الصراع السياسي. أو معمل تجارب للأنظمة الاجتماعية، بل لا بدّ من فكر إسلامي مبدع، وحركة إسلامية حيّة، وحلّ إسلامي نهائي.
المحور الثاني
القيم والمسألة الأخلاقية والتراث
لأن كان الخطأن الأوّلان يتّصلان بعدم إدراك الشرط الموضوعي لحركة النهضة؛ فإنّ الخطأ الثالث يتمثّل في عدم إدراك الشرط النفسي لها. ولئن كان إدراك جوهر التحدّي الغربي الحديث لنا إدراكاً صحيحاً؛ بمعرفة جوهر الفكر الغربي الحديث وأصوله؛ ما يشكّل الشرط الموضوعي لمعرفة جوهر الأزمة، وبالتالي مفتاح النهضة؛ فإنّ اكتشاف التراث وبعثه وإحياء المفاهيم والقيم التراثية؛ هو الشرط النفسي لتجاوز الأزمة وتحقيق النهضة؛ إذ لا يمكن أن تجدِّد شيئاً ما لم يتجدَّد الإنسان نفسه. والإنسان لا يمكن أن يتجدَّد بالعلم والصناعة ونظام الحكم، بل بالبعث الروحي وبالحقيقة القيمية؛ أي بتجديد منظومة المفاهيم والقيم والأخلاقية والجمالية.
وعدم إدراك هذا الشرط النفسي حال بيننا وبين «إجراء عملية التبادل» الحضاري مع الغرب أيضاً، فلا نحن عرفنا أصولنا، ولا أصول الفكر الغربي. وحركة الترجمة لأصدق دليل على ذلك.
بتعبير آخر: لقد كانت نظرتنا الساكنة إلى الأفكار الأوروبية وإعطاؤنا لها قيماً رياضية مطلقة حائلاً بيننا وبين فهم قيمها الاجتماعية؛ حتى لكأنّ الحقيقة تبدأ منذ أن نلتفت إليها... وكأنّ لنا أعين ميدوزا؛ بحيث لا يسقط بصرنا على الأفكار حتى تتحجّر...
هذه النظر الساكنة جعلتنا نغفل أهمّيّة التركيب النفسي في «ظاهرة الثقافة»، وبالتالي نغفل عن تقويم الشرط النفسي«لعملية التبادل الحضاري»؛ وأعني بذلك أنّنا أغفلنا التفرقة الجوهرية بين القيم الذاتية والقيم التاريخية لها، أو بين القيم المعرفية والقيم التراثية، أو بين قيم الأفكار المجرّدة وقيم الأفكار؛ وهي تؤدّي وظيفتها الاجتماعية من خلال شبكة العلاقات الاجتماعية لمجتمع ما.
فالقيمة الذاتية للفكرة؛ هي قيمتها بما هي قوّة، وبما هي معرفة، وبما هي ثمرة إبداع العقل الإنساني.
وأمّا القيمة التاريخية للفكرة؛ فهي قيمتها بما هي فعل، وبما هي تحقيق اجتماعي مرتبط؛ بثقافة بالذات، ولأمّة بالذات، ولحضارة بالذات.
والقيم التاريخية للأفكار؛ هي القيم التي تصلنا بطريق التراث، بواسطة التربية في مجتمع معيّن. وهي التي تكوّن «الضمير الاجتماعي» للفرد، وتولّد فيه «الفعاليّة الاجتماعية<، وتضبط «سلوكه الاجتماعي». والوعي التاريخي المشترك لقيم هذه الأفكار هو ما نسمّيه «بالضمير الجمعي». وهو الذي يشكّل الرابطة العضوية بين أفراد أمّة من الأمم، وعليه تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية. وهو الذي يعطي لوجود الأمّة مغزى. وهو الذي يقدّم لكيانها ولاستمرارها كأمّة وكثقافة؛ تبريراً؛ هو حجّتها أمام نفسها وأمام الأمم والثقافات الأخرى.
إنّ القيم التاريخية للأفكار قيم تراثية، وهي تغنى؛ كلّما زاد الحوار الحيّ مع التراث شدّة، وتشتدّ فعاليّتها؛ كلّما توثّقت الصلة بـ «مضمون» التراث وتجاوزت عنه – عن طريق النقد – أشكاله وقوالبه. وكلّما حصل ذلك أمكن للمرء أن يقع على « الخالد فيه» فيدرك بذلك مدى انفتاحه وشموله. ويشعر بالتالي بضرورة بقائه واستمراره؛ بوصفه رصيداً لخبرة أمّته التاريخية، وهو يتمثّل في الحكم التالي: هذه القيم يجب أن تبقى؛ أي يجب أن يتناقلها جيل عن جيل. وصيغة هذا الحكم هو جوهر القيم التراثية.
وبذلك يتحوّل التراث من أن يكون «عبء الماضي»؛ ليصبح «أفق المستقبل». ويتحرّر من «قانون الإكراه الاجتماعي»؛ ليصبح ضرباً من «الواجب الأخلاقي».
وهذه القيم التاريخية تختلف عن القيم المعرفية؛ بأنّ هذه الأخيرة قيم معلّلة، بينما القيم التراثية قيم فاعلة. وبأنّها مفسّرة، بينما القيم التراثية قيم مغيّرة. وبأنّ الأولى عامّة، بينما الثانية: خاصّة. وأنّ الأولى نتعلّمها، والثانية نتنفّسها. وبأنّ الأولى مرتبطة بالعلوم الطبيعية وإلى قدر محدود بالصناعة، أمّا الثانية فبمجال العلوم الإنسانية.
لذلك فنحن لا يمكن أن نصدر على القانون العلمي، أو على العملية الصناعية حكماً علمياً منطقياً؛ نعبر عنه بخطأ أو صواب، وأمّا السلوك الإنساني فلا يمكن أن نصدر عليه هذا الحكم – إلا في ظلّ سلطة مطلقة!! – بل نحاول تفهّمه.
إنّ القيم التراثية هي التي تجعل عمل الإنسان مفهوماً، وتصرّفه ذا مغزى. ولو كان التصرّف الإنساني ضرباً من التكنيك الفردي، أو كانت المواقف الاجتماعية ضرباً من التكنيك الجمعي؛ لبطل كلّ حديث عن الحرّيّة وعن الإنسان.
وقد يحتجّ البعض بأنّ علم الطبيعة الحديث والصناعة الحديثة وعقلانية التنظيم المرافقة لهما قد قلّلت من أهمّيّة هذه الفروق. وهذا وهم من الأوهام؛ لأنّ العلم والتصنيع لا يمكن أن يرث التاريخ، ولا يمكن أن يحلّ المسائل الأخلاقية.
وهذا الوهم القائم على الخلط بين مفهومي "تقني" و"عملي"، وبين "نظام القيمة الأخلاقية والجمالية" و"النظام العقلاني للحضارة". وهذا ما كشفت عنه دراسات علم الإنسان المعاصر. المهمّ هنا أن نؤكّد أن عملية نقل الأفكار من منبتها التاريخي يجعلها تتجرّد من قيمتها التراثية؛ فتصلنا «مجموعة معارف» وبالتالي أي:
- لا يمكن أن تؤدّي في طور حركة النهضة؛ إلا إلى «التكديس» على صورة «سعة علم»، أو إلى التشويه على صورة «تقليد مضحك».
- لا يمكن أن تؤدّي الوظيفة الاجتماعية نفسها التي أدّتها في نطاق ثقافتها ومجتمعها.
- لا يمكن أن ينشأ عنها ابتكار فردي، ولا بدّ أن تولِّد فاعليّة اجتماعية؛ لأنّها تفتقر إلى الأساس النفسي لذلك. فضلاً عن أن تكون أساساً للبعث الروحي؛ شرط النهضة الأوّل؛ أي الثورة داخل النفس.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ إحياء القيم التراثية وتحديد مفاهيمها هو الذي يهيئ للبعث الروحي الذي يدفع بدوره للتغيير (الفردي والاجتماعي معاً). إنّه لم يكن عبثاً أن تحاول الطليعة الواعية لأي مجتمع يودّ النهضة أو التجديد بفكرة «العودة إلى الأصول».
إنّ الغفلة عن هذه الحقيقة(في حركة نهضتنا)؛ سبب أزمة الليبرالية العلمانية والاشتراكية الثورية، وهو في الوقت نفسه؛ سبب مأساتها ومأساة المثقّف العربي معاً. لقد كنّا نلقي بذوراً لم نفحصها؛ في تربة لم نحرثها؛ وفي مناخ لم نعرف خصائصه. وكنّا كمن يزرع بذوراً ميتة في تربة بكر، أو كمن يستنبت بذوراً حيّة في تربة قاحلة؛ فالتربة هي المجتمع، والبذور هي الأفكار، وفحصها هو التفريق بين قيمتها الذاتية والتاريخية، والحراث هو معرفة الأزمة، والمناخ هو الثقافة ومعرفة خصائصه هي إدراك الشروط النفسية لعملية التركيب.
لقد كنّا نستورد ما يروق لنا من الأفكار فنلقيها في المجتمع، وبالتالي لم نعِ القيم التراثية الحيّة في ثقافته، ولم ندرك الشرط النفسي للتغيير الاجتماعي. فنحن قبل أن ننظر في ظروف مجتمعنا كان فكرنا متعلّقاً بمجتمع آخر يثير إعجابنا.
لقد نفضنا أيدينا من تراثنا قبل أن نقوم بحركة إحيائه. وأحياؤه لا يكون فقط بإعادة طبعه، بل بإعادة فهمه وتمثّله واستيعابه وهضمه والتزام معاييره وحقائقه ومعالجته؛ بما يقابله من تراث عالمي، من ثمّ توظيفه في واقعنا.
لقد نفضنا أيدينا عن تراثنا قبل أن نكتشفه ونكتشف قيمه الحيّة الفاعلة في المجتمع، وقبل أن نقيم تجارب تاريخية ذات أهمّيّة كبرى، كتجربتنا مع الثقافة اليونانية؛ بوصفها ضرباً من التحدّي الغربي الثقافي لنا، وتجربتنا مع الحروب الصليبية؛ بوصفها نوعاً من التحدي الغربي السياسي لنا أيضاً. فلم نقارن بين الحالتين، ونبيّن أوجه الشبه وأوجه الافتراق، ولم ندركهما في إطار وحدة تاريخنا واستمراره. وبالتالي لم نقوِّم مغزى هاتين التجربتين التاريخيتين الهامّتين في معركة التحدّي الغربي الحديث: الثقافي منه؛ المتمثِّل بالعلم الحديث والصناعة الحديثة، والسياسي؛ المتمثِّل بالغزو الأوروبي والأميركي الاستكباري. ثمّ مع الحركة الصهيونية والوجود الصهيوني اليهودي الذي يجسّد التحدّيين معاً.
لقد كانت الليبرالية العالمانية ضدّ تيار النهضة، في حين أنّها ظنّت باتّجاهه. وكانت الاشتراكية الثورية ضدّ تيار التقدّم، في حين توهّمت أنّها في تياره. لقد ألغتا كلّ إمكانية للتركيب المبدع؛ حين ألغتا «أطروحة التراثية»، وغفلتا عن الشرط النفسي له -أيضاً-، في ظلّ أنظمة بوليسيّة قمعيّة.
[1] منشورة في مجلة الحياة الطيبة، العدد 24، شتاء 2012م.
[2] متخصّص في الفلسفة والاجتماع، ورئيس مركز الدراسات والبحوث الفكرية في بيروت.
[3] كانت الصهيونية تحتجّ بأنّ العرب متخلّفون قيمياً، وأنّ رسالتها تمدّنية؛ هذا من حيث الدعوى. أمّا من حيث الواقع فلو كانت بلادنا تمتلك القوّة المستندة إلى العلم والصناعات لحال ذلك بينها وبين اختيارها وطناً لها في فلسطين.
[4] لوفيت، كارل: دراسات في كتابه من هيجل إلى نيتشه؛ بلوخ، أرنست: تاريخ العالم والأحداث المقدّسة. وفي كتابه مبدأ الأمل دليلاً آخر على الأساس اللاهوتي لمفاهيم فلسفة التاريخ الماركسية؛ لذلك فليس عجباً أن يستفيد من هذا المؤلّف اللاهوتيون الكاثوليك والبروتستنانت على السواء. والجدير بالذكر أنّهما يهوديان.
* التعبير للكاتب التونسي محجوب بن ميلاد: الفكر الإسلامي والنهضة.
[5] يُراجع: مصطفى، كمال: تكنولوجيا العلوم الاجتماعية، القاهرة.