هل البكاء علامة ضعف الإنسان؟ وإذا كان كذلك، فهل يعني هذا أن شيعة أهل البيت "عليهم السلام" الذين يبكون مظلوميتهم وغربتهم وخاصة غربة ومظلومية سيد الشهداء ومن كان معه في كربلاء ضعفاء؟
هل البكاء يعني الانهزام النفسي؟
في الحقيقة إن المتأمِّل في حقيقة البكاء، يرى أنه على أنواع من حيث دوافعه، فقد يكون البكاء علامة ضعف، وقد يكون علامة قوّة، وهذا ما دعا إليه أهل البيت "عليهم السلام".
يقولالإمام الخامنئي "دام ظله": أن الإمام الباقر "عليه السلام" استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى أنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدّة عشرة سنوات في منى.
"تندبني النوادب بمنى عشر سنين".
فهذا استمرار للجهاد. لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة "عليهم السلام" نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء. ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهميّة البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.
ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال ولا أذكر أنه قد أكّد على البكاء في حادثة أخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا "عليه السلام"، عندما عزم الإمام الرضا "عليه السلام" على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنى سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته "عليه السلام".
فقط في زمن الإمام الباقر "عليه السلام" أمر بالبكاء وحتى أنه أوصى بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في "منى". "فمنى" تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة. ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت بعد الظهر وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم.
وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدّة ساعات، فهو ليس إلا ممرّاً في طريق منى.
أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية. فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية.
بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذاك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة، حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليالٍ، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو المناسب لإيصال أي نداء إلى العالم، وخاصة في تلك الأيام التي تنعدم وسائل الأعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكي جماعة على آل الرسول "صلى الله عليه وآله" فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء. فلا أحد، عادة، يبكي على ميّت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلم؟ أو قُتِل؟ ومن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلم؟ تُطرح أسئلة كثيرة من هذا القبيل. إذن فهذه أي الأمر بالبكاء حركة جهادية دقيقة ومخطط لها...".
أيها الموالون لا تيأسوا
إذن البكاء الذي دعا إليه أهل البيت "عليهم السلام" ليس ضعفاً، إنما هو قوّة وجهاد، وإظهار للمظلومية بأسلوب الحزن والبكاء. فهم لا يدعون إلى اليأس والانهزام النفسي، بل إلى الأمل والطمأنينة إلى مستقبل زاهر يحكمه الإسلام الأصيل، إسلام محمد وعلي وأهل بيته "عليهم السلام".
يقول القائد "دام ظله" مشيراً إلى دور أهل البيت "عليهم السلام" في تقوية قلوب شيعتهم وتأميلها بالمستقبل:"ومع كل ذلك، يتجنّب الإمام الباقر "عليه السلام" أي مواجهة حادة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم...
ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام "عليه السلام" من توضيح "حركة الإمامة" لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق، والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد السبل التي مارسها الإمام الباقر "عليه السلام" مع أتباعه. وهو يشير أيضاً إلى تقويم الإمام "عليه السلام" للمرحلة التي يعيشها من الحركة.
يقول الحكم بن عيينة: "بينا أنا مع أبي جعفر "عليه السلام" والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته. ثم سكت فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته.
ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام.
ثم أقبل بوجهه على الإمام "عليه السلام" وقال: يابن رسول اللَّه أدنني منك جعلني اللَّه فداك. فواللَّه إني لأحبكم وأحب من يحبكم، وواللَّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللَّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. واللَّه إني لأحلّ حلالكم وأحرّم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني اللَّه فداك؟
فقال الإمام "عليه السلام": إليّ إليّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال"عليه السلام": "أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين "عليه السلام" أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي "عليه السلام": "إن تمت ترد على رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينك، وتُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش ترى ما يقر اللَّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى".
قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: اللَّه أكبر يا أبا جعفر، إن أنا متُّ أرد على رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقر عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسي ها هنا. وإن أعش أرى ما يقر اللَّه به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره وقام فودّع وخرج والإمام ينظر إليه ويقول: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا".
مثل هذه التصريحات، تزكي روح الأمل في قلوب تعيش جو الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادل".1
لا تكفي العاطفة
إن محبَّة أهل البيت "عليهم السلام" مطلوبة وهذا ما أكّده القرآن الكريم: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى".2
ولكن في نفس الوقت يحدِّد القرآن الحكيم معنى للمحبَّة تتجاوز القلب إلى شيء آخر وهو الاتباع والعمل."إن كنتم تحبّون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه...".3
فلا يكفي حبّ اللَّه تعالى دون الاتباع، ولا يكفي حب الرسول "صلى الله عليه وآله" والأئمة "عليهم السلام" دون الاتباع أيضاً.
* البكاء في فكر الإمام الخامنئي
1- الكافي، ج8، ص7775.
2- سورة الشورى، الآية/23.
3- سورة آل عمران، الآية/31.
هل البكاء يعني الانهزام النفسي؟
في الحقيقة إن المتأمِّل في حقيقة البكاء، يرى أنه على أنواع من حيث دوافعه، فقد يكون البكاء علامة ضعف، وقد يكون علامة قوّة، وهذا ما دعا إليه أهل البيت "عليهم السلام".
يقولالإمام الخامنئي "دام ظله": أن الإمام الباقر "عليه السلام" استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى أنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدّة عشرة سنوات في منى.
"تندبني النوادب بمنى عشر سنين".
فهذا استمرار للجهاد. لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة "عليهم السلام" نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء. ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهميّة البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.
ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال ولا أذكر أنه قد أكّد على البكاء في حادثة أخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا "عليه السلام"، عندما عزم الإمام الرضا "عليه السلام" على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنى سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته "عليه السلام".
فقط في زمن الإمام الباقر "عليه السلام" أمر بالبكاء وحتى أنه أوصى بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في "منى". "فمنى" تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة. ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت بعد الظهر وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً، وذلك ليلتحقوا بأعمالهم.
وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدّة ساعات، فهو ليس إلا ممرّاً في طريق منى.
أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية. فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية.
بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذاك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة، حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليالٍ، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو المناسب لإيصال أي نداء إلى العالم، وخاصة في تلك الأيام التي تنعدم وسائل الأعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكي جماعة على آل الرسول "صلى الله عليه وآله" فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء. فلا أحد، عادة، يبكي على ميّت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلم؟ أو قُتِل؟ ومن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلم؟ تُطرح أسئلة كثيرة من هذا القبيل. إذن فهذه أي الأمر بالبكاء حركة جهادية دقيقة ومخطط لها...".
أيها الموالون لا تيأسوا
إذن البكاء الذي دعا إليه أهل البيت "عليهم السلام" ليس ضعفاً، إنما هو قوّة وجهاد، وإظهار للمظلومية بأسلوب الحزن والبكاء. فهم لا يدعون إلى اليأس والانهزام النفسي، بل إلى الأمل والطمأنينة إلى مستقبل زاهر يحكمه الإسلام الأصيل، إسلام محمد وعلي وأهل بيته "عليهم السلام".
يقول القائد "دام ظله" مشيراً إلى دور أهل البيت "عليهم السلام" في تقوية قلوب شيعتهم وتأميلها بالمستقبل:"ومع كل ذلك، يتجنّب الإمام الباقر "عليه السلام" أي مواجهة حادة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم...
ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام "عليه السلام" من توضيح "حركة الإمامة" لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق، والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد السبل التي مارسها الإمام الباقر "عليه السلام" مع أتباعه. وهو يشير أيضاً إلى تقويم الإمام "عليه السلام" للمرحلة التي يعيشها من الحركة.
يقول الحكم بن عيينة: "بينا أنا مع أبي جعفر "عليه السلام" والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته. ثم سكت فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته.
ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام.
ثم أقبل بوجهه على الإمام "عليه السلام" وقال: يابن رسول اللَّه أدنني منك جعلني اللَّه فداك. فواللَّه إني لأحبكم وأحب من يحبكم، وواللَّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللَّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. واللَّه إني لأحلّ حلالكم وأحرّم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني اللَّه فداك؟
فقال الإمام "عليه السلام": إليّ إليّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال"عليه السلام": "أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين "عليه السلام" أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي "عليه السلام": "إن تمت ترد على رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينك، وتُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش ترى ما يقر اللَّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى".
قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: اللَّه أكبر يا أبا جعفر، إن أنا متُّ أرد على رسول اللَّه "صلى الله عليه وآله" وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقر عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسي ها هنا. وإن أعش أرى ما يقر اللَّه به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره وقام فودّع وخرج والإمام ينظر إليه ويقول: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا".
مثل هذه التصريحات، تزكي روح الأمل في قلوب تعيش جو الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادل".1
لا تكفي العاطفة
إن محبَّة أهل البيت "عليهم السلام" مطلوبة وهذا ما أكّده القرآن الكريم: "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى".2
ولكن في نفس الوقت يحدِّد القرآن الحكيم معنى للمحبَّة تتجاوز القلب إلى شيء آخر وهو الاتباع والعمل."إن كنتم تحبّون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه...".3
فلا يكفي حبّ اللَّه تعالى دون الاتباع، ولا يكفي حب الرسول "صلى الله عليه وآله" والأئمة "عليهم السلام" دون الاتباع أيضاً.
* البكاء في فكر الإمام الخامنئي
1- الكافي، ج8، ص7775.
2- سورة الشورى، الآية/23.
3- سورة آل عمران، الآية/31.