تمهيد
من المهمّ قبل كلّ شيء التذكير بأنّ المبادئ والأصول الّتي سنتعرّض لذكرها لم يتمّ ترتيبها على أساس منطقيّ، وبالتالي فإنّ تقديم أو تأخير بعضها لا يشير إلى أهميّتها أو عدم ذلك. ونؤكّد أيضاً في هذا السياق على أنّ بعض الأمور الّتي ستُذكر في هذا الفصل تحت عنوان المبادئ تمّ الحديث عنها في الفصل السابق تحت عنوان السياسات المطلوبة وخصائص الحكومة الإسلاميّة. أمّا سبب هذه الوحدة والاشتراك (الاشتراك بين بعض المبادئ والسياسات والخصائص) فهو وجود علاقة وثيقة بين المبادئ والهيكليّات القائمة في الأساس على تلك المبادئ، حيث يؤدّي الأمر إلى إنتاج هيكليّات على أساس المبادئ وبواسطتها هذا من جهة، وإعادة إنتاج مبادئ أخرى بواسطة الهيكليات من ناحية أخرى.
أما مبادئ السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام في وصيّته، فعبارة عن:
1- الاستقلال
إنّ مفهوم الإستقلال من أهمّ الأمور الّتي يجب أن تكون على رأس مبادئ وأصول السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره بناءً على الوصيّة. وقد ذكرنا في الفصل المتقدّم أنّ مقولة الإستقلال هي المقولة الّتي تمّ التأكيد عليها في وصية الإمام قدس سره بحيث لا نجد أيَّ مفهوم آخر يحمل التأكيد نفسه.
يعتقد الإمام الخميني قدس سره أنّ الإستقلال يتجلّى في ثلاثة أبعاد:
أ - الاستقلال السياسيّ.
ب - الاستقلال الثقافيّ.
ج - الاستقلال الاقتصاديّ.
أ- الاستقلال السياسيّ
إنّ دقّة رؤية الإمام قدس سره في الأوضاع السياسية للعالم المعاصر دفعته إلى تقديم رؤية مبتناة على فرضيّات واقعيّة في المجال السياسيّ. ولعلّ من جملة تلك الفرضيّات التأكيد على القوى الاستعمارية الأجنبية وحاكمية القوّتين العُظميين في العالم تبعاً لذلك، وتأثير ذلك في مصير البشرية والعالم الإسلاميّ وإيران.
أكّد الإمام قدس سره وفي أماكن متعدّدة من وصيّته وأغلب بياناته الأخرى على الدور الّذي يقوم به المستعمرون والقوى العظمى، في مجال تحديد مصير المستضعفين في العالم والمسلمين وشعب إيران. وقد رفض الإمام تسلّط القوى العظمى على سياسات ومقدّرات وحكومات الدول الإسلاميّة، ورفض أيضاً عبودية وتبعية أغلب سياسيّي وحكّام الدول الإسلاميّة للتسلّط العالميّ.
في هكذا أجواء أكّد الإمام قدس سره على ضرورة الإستقلال السياسيّ للعالم المعاصر وبالأخصّ إيران الإسلاميّة، حيث قام بتعداد آثار ونتائج عدم الإستقلال السياسيّ. واعتبر الإمام أنّ تبعيّة الأنظمة الإسلاميّة للشرق والغرب مصيبة بحدّ ذاتها1 ، وأكّد على قطع أيدي المستعمرين الأجانب2 والظالمين والمتسلّطين على إيران3.
واعتبر الإمام أنّ تدخّل سفارات الدول الاستعماريّة في تعيين رئيس الحكومة والمجالس في إيران قبل الثورة4 هي من نتائج التبعية السياسية الّتي أكّد الإمام قدس سره مراراً وتكراراً على قبحها وعدم صوابيّتها. وقد بلغت أهميّة الإستقلال السياسيّ عند الإمام إلى درجة أنْ عبّر عنها في وصيّته بصراط الله المستقيم الّذي ينفي
التبعيّة للشرق الملحد والغرب الظالم والكافر. وقد تحدّث الإمام قدس سره في وصيّته بإسهاب حول عدم التبعيّة للشرق والغرب، ورفض قبول سلطة القوى العظمى الموجودة حالياً على المستوى الدوليّ (هذا في وقت تتّجه أغلب الدول فيه تقريباً إلى قطبَيْ العالم الشرق أو الغرب).
ب- الاستقلال الثقافيّ
لعلّ العنصر المحوريّ الّذي يمكن مشاهدته في هذا البُعد من الإستقلال هو رفض الإنبهار بالشرق والغرب. ولعلّ عبارة الانبهار بالشرق واحدة من التعابير الّتي تلاحَظ بكثرة في وصيّة الإمام قدس سره. وأمّا مراد الإمام من الإنبهار بالشرق والغرب فهو التخلّي عن ثقافتنا والإرتباط والتسليم أمام الثقافتين المسيطرتين على العالم في تلك المرحلة.
يقول الإمام: "من جملة المؤامرات الّتي تركت - للأسف - أثراً كبيراً في مختلف البلاد وبلدنا العزيز، وما تزال آثارها قائمة إلى حدّ كبير، جعل الدول المنكوبة بالاستعمار تعيش الغربة عن هويّتها لتصبح منبهرة بالغرب والشرق بحيث إنّها لا تقيم أيّ وزن لنفسها وثقافتها وقوّتها"5.
وبما أنّ الثقافة الّتي يمتلكها الشعب أو المجتمع هي العنصر الأساس في مقاومته، مقابل التسلّط السياسيّ والإقتصاديّ للأجانب، فإنّ حذف هذا العنصر يدفع القوى المستعمرة والمتسلّطة إلى عدم رؤية القوى المقاومة وعدم أخذها بعين الاعتبار، وبالتالي يتمكّن المستعمر من الوصول إلى أهدافه السياسيّة والاقتصادية بسهولة، حيث تعيش الأمّة المغلوب على أمرها حالة من الغفلة.
يظهر من خلال الدقّة في وصيّة الإمام قدس سره تأكيده ودقّته في هذه الإستراتيجية، وتوضحيه سبب تفوّق القوى العظمى. ثمّ أشار إلى الآثار السلبية لهذا النوع من السياسات على الشعوب الواقعة تحت التسلّط والاستعمار، فعمد إلى توضيح الأساليب التنفيذيّة لهذه الإستراتيجيات، حيث يؤدّي فهم المخاطبين لهذا الخطر إلى انكشاف وفهم أساليب النفوذ ووسائل مواجهتها. ويؤكّد الإمام أنّ حضور الأساتذة والمعلّمين المنبهرين بالشرق والغرب في المراكز التعليميّة6 ، هو من جملة الأساليب الثقافية التسلّطيّة الّتي استخدمها المستعمرون ضدّ المجتمعات. تُقدّم ثقافتنا وحضارتنا في هكذا مراكز تعليمية على أنّها أمور قديمة ارتجاعية، ثمّ بعد ذلك يُقدّمون الشرق والغرب بعنوان بدائل وحيدة لِما تمّ نسخه، ثمّ يصبح طلّاب تلك المراكز علماء ومؤلّفين يتفاخرون بتبعيتهم للشرق أو الغرب.
بهذا الأسلوب يحرّضون وينتقدون الثقافة الشعبية ويجعلونها في حالة انزواء واندحار7.
إنّ المفكّرين المعروفين بتنوّرهم وبدل أنْ يحاولوا التفكير باستقلال وحريّة بلدهم وشعبهم يميلون نحو أحد قطبي العالم8.
لعلّ بعض وسائل الإعلام كالراديو والتلفزيون والمطبوعات والسينما والمسرح تشكّل جميعها واحدة من وسائل نفوذ وترويج الفكر والثقافة المرتبطة بالخارج في المئة سنة الأخيرة9. ويضيف الإمام قدس سره أنّ السينما والتلفزيون وهما من منتجات الغرب والشرق وسيلتان تحرفان الشباب عن مسير الحياة الطبيعيّة والعمل والإنتاج والمعرفة وتسوقانهم نحو التنكّر للذات وسوء الظنّ بثقافة البلد10. وقد عَنْوَن الإمام قدس سره طرق الحصول على الإستقلال الثقافيّ ومواجهة المشكلات المتقدّمة من خلال إدارة الجامعات ومراكز التربية والتعليم، ويتمّ ذلك بواسطة البرامج الإسلاميّة الّتي تضع الأطفال والناشئة والشباب على طريق التفكير بمصالح البلد11. واعتبر أنّ سلامة الاستقلال الثقافيّ وبقاءه إنّما يتمّ في إطار الحفاظ على الجامعات ومراكز التربية والتعليم، وإبقائها بعيدة عن نفوذ العناصر المنحرفة المنبهرة بالشرق والغرب.(وقد عَبَّر الإمام في وصيّته عن هذا المفهوم بالاكتفاء الذاتيّ).
ج- الاستقلال الاقتصاديّ
تبرز أهمية الإستقلال الاقتصاديّ لناحية عدم القدرة على تحصيل الإستقلال الثقافيّ والسياسيّ من دونه. ولعلّ الحفاظ على الإستقلال الاقتصاديّ أهمّ أساليب وطرق الحفاظ على الإستقلال السياسي والثقافيّ. ويعتقد الإمام قدس سره أنّ القوى المتسلّطة أغرقت أسواق الشعوب بالبضائع بهدف إبقائها في حالة تأخّر12.
والنتيجة كانت: "إستيراد البضائع من جميع الأنواع وإلهاء النساء والرجال خصوصاً طبقة الشباب بأقسام البضائع المستوردة من قبيل أدوات التجميل والزينة والكماليات والألعاب الصبيانية وجرّ الأسر إلى التنافس في الروح الإستهلاكية الّتي تبذل الجهود الكبيرة لتنميتها..."13. ويؤكّد الإمام في وصيّته: "ما دمنا محتاجين إلى مَدّ أيدينا في الصناعات المتقدّمة إلى الآخرين فلن تتشكّل فينا قدرة الإبداع في الاختراعات"14. ويوصي من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتيّ والإستقلال الاقتصاديّ: "إذا حُرِّمت البضائع المستوردة من المستعمرين وحاولنا رفع مستوى الابتكار والإبداع نأمل حينها أن يصل البلد إلى الاكتفاء الذاتي والتخلّص من التبعيّة لهم"15. ويقول أيضاً: "يجب على الدول والمسؤولين ـــ إنْ في الجيل الحاضر أو في الأجيال القادمة ـــ أن يقدّروا متخصّصيهم ويشجّعوهم على العمل بالمساعدة المادية والمعنوية، وأنْ يحولوا دون استيراد البضائع الإستهلاكيّة المدمّرة ويتكيّفوا مع الموجود عندهم إلى أن يصنعوا كلّ شيء"16.
بشكل عامّ يمكن تلخيص وصيّة الإمام في خصوص الإستقلال الاقتصادي بالجملة الآتية: "وصيّتي للجميع أن امضوا قُدُماً، بذكر الله المتعال، نحو معرفة النفس والاكتفاء الذاتيّ والاستقلال بكلّ أبعاده". ويؤكّد الإمام قدس سره أنّ العامل الأصليّ الّذي يؤدّي إلى استقلال البلد والمجتمع هو النجاة من التبعيّة للقوى المستعمرة والوفاء للإسلام17. ومما لا شكّ فيه أنّ مصدر تأكيد الإمام قدس سره في وصيته السياسيّة الإلهية على هذه الأمور نابع من تعاليم أهل البيت عليهم السلام، هذه التعاليم الّتي لا يتطرّق إليها تسلّط الكفّار على المؤمنين على الإطلاق18.
2- العدالة الإجتماعيّة
العدالة الإجتماعيّة واحدة من جملة مبادئ السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام الخميني قدس سره والّتي أكّد عليها في وصيّته. وتصل أهميّة هذه المقولة إلى مستوى كونها الدافع الّذي جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يشكّل الحكومة19. يعتقد الإمام قدس سره أنّ تشكيل حكومة الحقّ بهدف إقامة العدالة الاجتماعية هو بعينه ما سعى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومون عليهم السلام وسائر الأنبياء عليهم السلام في تحقيقه، لا بل اعتبر السعي لإقامة العدالة الاجتماعية بواسطة حكومة صالحة من أكبر الواجبات والعبادات20.
ويعتبر الإمام قدس سره أنّ العدالة الاجتماعية من الأمور اللازمة والضرورية للحكومة السليمة21. ولذلك أكّد مراراً في الوصيّة على العدالة الاجتماعية، وأوصى بالعمل على إقامتها.
أمّا فيما يتعلّق بمصاديق العدالة الاجتماعية فقد أكّد الإمام على بعض الأمور من جملتها إزالة التمييز والإختلاف الطبقيّ الّذي يتشكّل عادة بسبب العلاقات الظالمة، وتقليل الفارق في الإمكانيّات والوسائل بين المناطق الريفيّة والقرويّة والمدن.
وإذا علمنا أنّ الإمام أكّد مراراً على أنّ إقامة العدالة الاجتماعية من جملة ما دفع الأنبياء والأولياء عليهم السلام إلى تشكيل الحكومة، عندها يمكننا الخلوص إلى النتيجة التالية وهي أنّ الحكومة الّتي يمكنها إقامة العدالة الاجتماعية هي الّتي تقوم أسسها على العدل كما قامت حكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على أساس العدالة. من هنا يمكن النظر إلى رؤية الإمام هذه على أنّها صدى لرؤية القرآن الكريم فيما يتعلّق بالقسط والعدل, لأنّ الثمرة العملية لبعث الأنبياء عليهم السلام وإنزال الكتب والميزان، إقامة القسط بين الناس22.
3- الوحدة
استُعمل مفهوم الوحدة في وصيّة الإمام في معانٍ ثلاثة: الأوّل هو الوحدة بين جميع طبقات الشعب، بالأخصّ الطبقة المثقفة والنُّخب الفكرية، كالجامعيّين وعلماء الحوزة. الثاني الوحدة بين الناس ومسؤولي الدولة. الثالث الوحدة بين السياسيين. واعتبر الإمام قدس سره أنّ سر بقاء الثورة الإسلاميّة هو في الوحدة23.
وأكّد الإمام قدس سره أنّ وحدة كلمة الشعب بدافع إلهيّ هي من جملة أسباب انتصار الثورة24. ومن هنا يمكن التحدّث عن مقولة الوحدة باعتبارها واحدة من مبادئ السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره. وقد تحدّث الإمام قدس سره عن ما يترتّب على هذه الوحدة والتعاون بين الناس، فأكّد على قضية هامّة وهي ترقّي وتطوّر البلد الإسلاميّ25.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أهمّيّة ودور الوحدة الإيجابيّ في بناء السياسة والحكومة، نرى الإمام يؤكّد في الوصيّة ـ متوجّهاً إلى الشعب والمسؤولين ـ على ضرورة توثيق الوحدة والانسجام وبالتالي القضاء على إعلام الأعداء الّذي يراد منه التفرقة وإيقاع العداوة26.
مما لا شكّ فيه أنّه كلّما كان الاختلاف والافتراق واسعاً بين الشعب والمسؤولين فستتّسع على أثر ذلك المشاكل الّتي تصيب الحكومة، وبالتالي سيؤدّي الأمر إلى سقوط تلك الحكومة. وفي المقابل تؤدّي الوحدة والتعاون بين أبناء الشعب من جهة وبين الشعب والمسؤولين أو بين المسؤولين أنفسهم من جهة أخرى إلى ثبات الحكومة والمجتمع واستقرارهما.
طبعاً تتحقّق الوحدة الشعبية منطلقة من دوافع ذاتية بعيدة عن أنواع الإجبار والإكراه. وفي هذه الحالة فقط يلمس أبناء الشعب الثمرات الإيجابيّة لهذه الوحدة، وعكس ذلك عند الإجبار والإكراه، حيث لا يؤدّي الأمر سوى إلى الديكتاتورية. والمقصود من الاتّحاد هو كون الشيء إلى جانب آخر، وهذا الوضع لا يمكن أن يكون له نتائج إيجابيّة من خلال نفي الانتخاب وإيجاد الإجبار، بل قد يؤدّي الأمر إلى نقض الغرض وإزالة الأرضية الضرورية للتوحّد.
4- المشاركة الشعبيّة
تُعتبر المشاركة الشعبيّة من الأمور الّتي تشكّل مبادئ وأصول السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام بناءً على وصيّته. ولعلّ شدّة تأكيد الإمام قدس سره على هذه المقولة توضح مقدار اهتمامه بهذا الأصل المحوريّ في وجود الحكومة النموذجيّة.
اعتبر الإمام قدس سره أنّ وجود وتأسيس نظام الجمهورية الإسلاميّة إنّما يتمّ بواسطة القدرة العالية لأبناء الشعب27. وهذا ما يؤكّد أهميّة ودور المشاركة الشعبيّة في أصل تأسيس الحكومة والسياسة من وجهة نظر الإمام. وقد قدّم الإمام مجموعة من الإرشادات في خصوص المشاركة الشعبية يمكن تلخيصها بما يلي:
أ- المشاركة تكليف وليست حقّاً
تشير رؤية الإمام في الوصيّة إلى أنّ الشعب المسلم مكلّف بالمشاركة، وذلك خلافاً للآراء الرائجة في الأنظمة الوضعيّة المعاصرة وبالأخصّ تلك الّتي تعتبر المشاركة نوعاً من الحقوق. أمّا الإمام قدس سره فقد اعتبر مشاركة الشعب من جملة الواجبات، واستعمل عبارات تدلّ على ذلك: الوظيفة الشرعيّة28 ، التكليف29 ، الضرورة30 ، الوجوب31 ، واعتبر أنّ عدم مشاركة الشعب عندما يجب أن يُشارك من جملة الذنوب الكبيرة الّتي لا يُعفى عنها32 ، واعتبر في مكان آخر أنّها تقع على رأس جميع الذنوب33. إنّ هكذا رؤية لمقولة المشاركة (طبعاً المستلهَمة من فكرة الوحدة بين الدين والسياسة) أدّت إلى اعتبار مشاركة الشعب في المسائل السياسيّة والحكوميّة نوعاً من التكليف الّذي لا يمكن تجاوزه، وليس مجرّد حقّ يتمكّن الشعب من الاستفادة منه. طبعاً يجب الالتفات إلى أنّ الإطار المرسوم لمشاركة الشعب إنّما هو الإطار الدينيّ حيث يقع في استطاعة الفرد, ولهذا أكّد الإمام على لزوم المشاركة في الأمور السياسيّة والحكوميّة بمقدار ما يملكه هذا الشعب من إمكانات وقدرات34.
ب- أرضيّة المشاركة
إذا كان الإمام يعتقد بأنّ المشاركة في السياسة والحكومة وظيفة وتكليف للشعب إلّا أنّ تهيئة الأرضية الضروريّة للمشاركة هي شرط لازم وضروريّ لتحقّق تكليفهم. فما دامت موانع المشاركة موجودة ولم يتحقّق الجوّ الحرّ لتدخّل جميع طبقات الشعب، فليسوا مكلّفين بالمشاركة السياسيّة، وعلى هذا يتحقّق تكليف الشعب بعد رفع الموانع وإيجاد جوّ حرّ يتيح المشاركة35.
ج- مجالات المشاركة
حَدَّد الإمام مجالات متنوّعة، يتمكّن الشعب من المشاركة من خلالها، وهي في الواقع أمور حقيقيّة تشكّل الأبعاد الواقعيّة الّتي يمكن للشعب المشاركة من خلالها. والمجالات هذه عبارة عن:
1- الانتخابات: الانتخابات واحدة من المجالات الأساسيّة والمصيريّة الّتي يجب أن يشارك الشعب فيها. وقد أوكل إلى الشعب مهمّة المشاركة في جميع أنواع الانتخابات والاستفتاءات كانتخاب أعضاء مجلس القيادة، ورئيس الجمهورية، وممثّلي مجلس الشورى وأعضاء المجالس المحليّة والبلديّة. وقد أوصى الإمام الجميع بالمشاركة في جميع الانتخابات36 ، واعتبر أنّ المسامحة والتخلّف عنها من جملة الذنوب الكبيرة37.
2- الحفاظ على الحكومة والنظام: إنّ حفظ النظام والحكومة هو مجال آخر تتجلّى فيه المشاركة الشعبيّة. وهذا يستلزم أن يكون عمل المسؤولين بطريقة تجعل الشعب يشعر بأنّ النظام يتعلّق به فيكون مستعدّاً للحفاظ عليه من خلال المشاركة.
ممّا لا شكّ فيه أنّه لا يمكن توقّع مشاركة الشعب في مسألة هامّة وخطيرة وذات تكاليف ماديّة ما لم تتهيّأ الأرضيّة المناسبة لذلك. ولذلك اعتبر الإمام قدس سره أنّ الثورة ملك للشعب ويجب على الجميع الحفاظ عليها38. وطلب من الجميع بذل الوسع والجهد في الحفاظ على الجمهورية الإسلاميّة39.
3- حلّ مشاكل الدولة: يعتقد الإمام قدس سره أنّ حلّ مشاكل الدولة واحد من المجالات الّتي تظهر فيها المشاركة الشعبية. وعليه فقد توجّه الإمام قدس سره طالباً من الشعب المشاركة روحاً وقلباً في حلّ المشكلات40.
اللافت في العبارات الّتي استخدمها الإمام في الوصية أنّه خاطب الناس بعبارة "الروح والقلب". وهذا يشير إلى أنّ حلّ المشكلات يكون بواسطة المشاركة النابعة من الاشتياق والتقدّم نحو العمل. ولن تتحقّق هذه المشاركة إلّا عندما يعتقد الناس أنّ الدولة منهم وعند ثقتهم بها، وهذا لن يحصل إلّا عندما يعمل مسؤولو الدولة على حماية الناس وإعطائهم الإطمئنان.
4- مواجهة الأخطاء: يتطابق هذا المفهوم من المشاركة مع المفهوم الدينيّ الّذي يتمحور حول النهي عن المنكر. فالشعب المكلّف حفظ النظام والسعي في سبيل حلّ مشكلاته يمتلك حقّ الوقوف في وجه الأعمال غير الصحيحة، وبالأخصّ تلك المخالفة للشرع والقانون، وأنْ يطلب الإصلاح فيها. وقد تحدّث الإمام بوضوح في وصيّته حول هذا الموضوع وذَكَّر بمستويات تدخّل الشعب عند وجود تجاوز للقانون.
ويشهد على ما تقدّم ما جاء في وصيّة الإمام قدس سره عندما منع القوى المسلّحة من التدخّل في اللعبة السياسيّة والمجموعات والأحزاب وطلب في هذا الخصوص صراحة من الشعب مواجهة هذه المخالفة (دخول القوى المسلّحة إلى اللعبة السياسية والأحزاب) وأن يعتبر ذلك مسؤوليّة شرعيّة41.
وتحدّث الإمام قدس سره حول كيفيّة ومستويات تدخّل الشعب في مواجهة الأخطاء والمخالفات قائلاً: "إذا واجه شباب حزب الله بعض هذه الأمور فليرجعوا إلى أجهزتهم المختصّة. وإذا قصّر هؤلاء فإنّهم هم مكلّفون بالمنع"42. بناءً على ما تقدّم يمكن توضيح مستويات تدخّل الشعب بما يلي: أوّلاً التعرّف إلى المخالفات، ثانياً إرجاع المخالفات إلى الأجهزة المكلّفة قانوناً بمنعها، ثالثاً متابعة سلوك الأجهزة المختصّة والكشف عن تقصير هذه الأجهزة في منع المخالفين، رابعاً مواجهة الشعب للمخالف مباشرة عند وجود أيّ قصور من الأجهزة المولجة بذلك.
ما يجب الإلتفات إليه أنّ ما يقوم به الشعب في مواجهة الأخطاء والمخالفات من وجهة نظر الإمام قدس سره هو مسؤوليّة شرعيّة وتكليف وبالتالي فمن الطبيعيّ أن لا يسمح لأحد في حكومة الإمام بالحؤول دون قيام الأفراد بواجبهم الشرعيّ.
5- تحقّق مضمون الحكومة الإسلاميّة43: وجعلها قضية عمليّة من جملة المجالات الّتي يمكن للشعب المشاركة فيها. وتستوقفنا هنا مسألة أكّد عليها الإمام وهي ضرورة ولزوم العمل من أجل تحقّق مضمون الحكومة الإسلاميّة، وهذا يعني أنّ عدم مشاركة الشعب سيؤدّي إلى عدم تحقّق الحكومة الإسلاميّة ومحتواها.
6- تعالي الإسلام وتحقّق مقاصد القرآن الكريم44: إنَّ بذل الجهد في سبيل تعالي الإسلام وتحقّق مقاصد القرآن الكريم من جملة المجالات الّتي يمكن للشعب المشاركة فيها. وقد تحدّث الإمام قدس سره في بداية وصيّته عن هذه القضيّة فاعتبرها مدعاة للفخر ، على الرغم من قدرة الحكومة والنظام الإسلاميّ على لعب دور محوريّ في تحقّق هذه المسألة. أمّا عدم مشاركة الشعب فسيؤدّي إلى عدم تحقّق نجاحات كبيرة.
7- الوقوف في وجه نفوذ المرتبطين بالأجانب: اعتبر الإمام قدس سره في وصيّته أنّ الوقوف في مواجهة المرتبطين بالقوى الاستعماريّة - في أيّ موقع من مواقع النظام كانوا - من جملة المجالات الّتي تتجلّى فيها المشاركة الشعبية45. ولعلّ تخصيص الإمام قدس سره هذا الجانب من المشاركة46 ، يُظهر مقدار أهميّة المشاركة الفرديّة في هكذا قضيّة.
د- المشاركون
لم يحدّد الإمام قدس سره المشاركة في الأمور السياسيّة والحكوميّة بطبقة خاصّة بل اعتبر أنّ جميع الطبقات مكلّفة بالقيام بهذه المهمّة47. وقد دعا الإمام جميع أبناء الشعب، ابتداءً من المراجع والعلماء حتّى التجّار والمزارعين والموظّفين والعاملين، إلى الحضور والمشاركة48 ، وأكّد على حضور النساء والصغار والكبار والشباب جنباً إلى جنب49. وبشكل عامّ فإنّ مخاطَبي الإمام في هذه المسألة هم جميع أفراد الشعب الإيرانيّ على وجه العموم50 والشبّان الحزب اللهيّون على وجه الخصوص51.
هـ - ضوابط المشاركة
يجب أنْ تخضع مسألة المشاركة الشعبيّة لبعض الضوابط بهدف الحفاظ على النظام في الحكومة ورعاية الوظائف وسلسلة المراتب القانونيّة، وكلّ ذلك بالالتفات إلى أصل الفصل بين الوظائف وتعقيد الأمور في العالم المعاصر. فالمشاركة الشعبيّة تؤدّي إلى إحلال النظام ورعاية القوانين، ويؤدّي القيام بهذه الوظيفة الشرعيّة إلى وجود بركات عديدة للنظام.
من هذا المنطلق أوصى الإمام برعاية ضوابط المشاركة الشعبيّة فاعتبر أنّ على جميع أبناء الشعب القيام بالأمور والقضايا المخوّلة إليهم طبقاً للضوابط الإسلاميّة والقانون الدستوريّ52. ويستفاد ممّا جاء في وصيّة الإمام أنّ القانون الدستوريّ هو الإطار القانونيّ للمشاركة الشعبيّة في الأمور السياسيّة والحكوميّة.
و- مضارّ عدم المشاركة
تحدّث الإمام قدس سره في وصيّته عن عدم المشاركة فعبّر عنها بأنّها تساهل في أمور المسلمين53. وأكّد أنّ عدم المشاركة الشعبيّة في القضايا السياسيّة والحكوميّة وفصل الشعب عن الدولة يمهّد الطريق لتدخّل القوى الأجنبيّة والمستعمِرة وتسلّطها على ثروات ومقدّرات البلد54. وبعبارة أخرى يعتقد الإمام أنّ الاستقلال السياسيّ والاقتصاديّ في المجتمع متعلّق ومتوقّف على المشاركة الشعبيّة في الأمور السياسيّة والحكوميّة.
إنّ نظرة سريعة على أفكار الإمام فيما يتعلّق بالمشاركة الشعبيّة تُظهر أنّ أفكاره مستمدّة من الرؤية النبويّة، "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته". وفي الحقيقة إنّ المشاركة مسؤوليّة تقع على عاتق كلّ فرد بحسب إمكاناته وقدراته، وأمّا عدم المشاركة فيؤدّي إلى المؤاخذة والمسؤوليّة في الدنيا وأمام الله تعالى55.
5- خدمة الناس
خدمة الناس من جملة مبادئ السياسة والحكومة كما جاء في وصيّة الإمام قدس سره. وهذا يعني أنّ من جملة أهداف بناء وإقامة الحكومة وممارسة السياسة خدمة الناس. وعلى هذا فالسلطة في هكذا نظام لن تكون محور السياسة والحكومة بل تُستبدَل هذه المقولة بمقولة خدمة الناس. يقول الإمام في وصيّته متوجّهاً إلى الدولة والقيّمين عليها: "وأوصي المجلس والحكومة وكلّ المعنيّين أنِ اعرفوا قدر هذا الشعب ولا تقصّروا في خدمته خصوصاً المستضعَفين والمحرومين والمضطَهدين الّذين هم نور عيوننا وأولياء نعمتنا، والجمهورية الإسلاميّة إنجازهم، وقد تحقّقت بتضحياتهم، وبقاؤها مرهون لخدماتهم"56.
وقد اعتبر الإمام قدس سره أنّ من واجب المسؤولين خدمة الناس، حيث انطلق في هذه المسألة من ناحية إقامة علاقة قانونيّة بين الناس والمسؤولين: "إنّ الميزانية الّتي ترتزقون منها أنتم وموظّفو الوزارات هي مال الشعب، ويجب أن تكونوا جميعاً خدَّاماً للشعب وخصوصاً المستضعفين"57.
وأكّد الإمام قدس سره في أماكن متعدّدة من وصيّته على مسألة خدمة المستضعفين والمحرومين، فالسياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام هي في الواقع تحقّق الأهداف القرآنيّة ووراثة المستضعفين للأرض. ولعلّ الخطوة الأولى والأساس في تحقّق هكذا حكومة تعتمد على خدمة الناسّ وبالأخصّ المستضعفين. ولهذا اعتبر الإمام أنّ خدمة المحرومين تحمل في طيّاتها للمسؤولين خير الدنيا والآخرة: "أوصي الجميع بالسعي من أجل رفاه الطبقات المحرومة، فإنّ خير دنياكم وأخراكم في الاهتمام بشأن محرومي المجتمع"58.
6- الثقة بالنفس
لا يمكن تصوّر أيّ حركة فاعلة وحيويّة من دون الثقة بالنفس، وبما أنّ تشكيل الحكومة من أصعب الأعمال البشريّة، فإنّ دور الثقة بالنفس يظهر بوضوح في تشكيل وتأسيس هذه الحكومة.
ويمكن إدراك وفهم تأكيد الإمام على عوامل الثقة بالنفس والاعتماد عليها والإيمان بالقدرات الذاتية عندما ندرك أنّ الإمام كان قائداً لشعب بقي لقرون محلّ استخفاف من قبل الأجانب. فقد أراد هذا القائد العظيم وبمساعدة الشعب تأسيس حكومة دينيّة نموذجيّة في العالم المعاصر.
يقول الإمام مخاطباً الشعب الإيرانيّ ومسلمي العالم: "اعلموا أنّ العنصر الآريّ أو العربيّ لا يقلّ عن العنصر الأوروبيّ والأمريكيّ والروسيّ. وإذا وجد هويّته الذاتيّة وأبعد اليأس عنه ولم يكن له مطمع بغير نفسه... فإنّه قادر على المدى البعيد على كلّ فعل وصناعة كلّ شيء.. وما وصل إليه الناس المشابهون لهؤلاء فأنتم ستصلون إليه بشرط الاتّكال على الله والاعتماد على النفس وقطع التبعيّة للآخرين وتحمّل الصعوبات من أجل الوصول إلى الحياة الشريفة والخروج من سلطة الأجانب"59.
طبعاً لا يمكن لأمّة أن تعود بسهولة إلى ثقتها بنفسها وبالأخصّ تلك الأمّة الّتي عاشت في السنوات المائة الأخيرة، وعلى أثر تدخّل القوى الاستعماريّة والتلوّث بمختلف آثام التبعية وكانت تتطلّع دائماً في رفع احتياجاتها (من جملة ذلك الموادّ الأوليّة والغذائيّة) إلى خارج الحدود وبالتالي الخضوع والخنوع والإذلال. وهذا أدّى بدوره إلى فقدان الثقة بالنفس. وقطع التبعية للأجانب، أن تقوم بتحمّل الصعاب، والأهمّ من ذلك الاتّكال على الله تعالى وبالتالي إعادة الثقة بالنفس.
وذَكر الإمام في وصيّته الّتي كُتبت في أجواء الحرب الّتي كانت تعيشها الجمهورية الإسلاميّة نموذجَ لقضيّة الاعتماد على النفس فقال: "رأينا كيف أنّ الحصار الاقتصاديّ والحرب المفروضة جعلت شبابنا يصنعون القطع الّتي دعت الحاجة إليها وبكلفة أقلّ... وأثبتوا أنّنا إذا أردنا فإنّنا قادرون"60. وأكّد الإمام على الشروط الضروريّة واللازمة للحصول على الثقة بالنفس، ومن أهمّ ذلك الإرادة والغفلة عن الأجانب.
7- محوريّة المسؤوليّة
إنّ جعل المسؤوليّة محور السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام الخمينيّ قدس سره وليس السلطة، هو من جملة الأسباب الأساس للاختلاف بين السياسة من وجهة نظر الإمام الخميني قدس سره والسياسة الرائجة في العالم المعاصر. وتؤدّي محوريّة المسؤوليّة والتكليف في السياسة إلى دخول محبّي الخدمة ساحة العمل، وبالتالي إبعاد أصحاب النزعات السلطويّة. وهنا يبدو أن لا مصالح تُرتجى من وراء السلطة.
تحدّث الإمام في هذا الخصوص متوجّهاً إلى القيادة وسائر المسؤولين في الدرجة الأولى قائلاً: "... لا يظنّوا أنّ القيادة في نفسها هديّة ومقام سامٍ بل هي واجب ثقيل وخطير... وهذا الخطر أقلّ بعض الشيء بالنسبة لرؤساء الجمهورية في الحال وفي المستقبل بحسب الدرجات في المسؤوليّات..."61 وإذا كان الإمام قدس سره يعمّم هذا الأمر على جميع المسؤولين في الحكومة بحسب الدرجات فهذا يبيّن واقعيّة محوريّة المسؤوليّة وكونها من الخصائص الأساس ومن جملة مبادئ السياسة والحكومة المثالية عنده. وهذا يميّز السياسة والحكومة المطلوبة عن تلك الرائجة في العالم المعاصر.
8- كونها شعبيّة
من جملة المبادئ الأساس، كون السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام شعبيّة. وقد استعمل هذا المفهوم في الوصيّة بمعنيين:
أ- كون المسؤولين من الشعب.
ب- التناسق والتلازم بين الحكومة ومسؤوليها والشعب، والعمل من أجل جلب رضاهم.
وسيتركّز الحديث فيما يلي في هذين المعنيين:
أ- كون المسؤولين من الشعب: يعتقد الإمام قدس سره أنّ المسؤولين في المناصب العليا للحكومة يجب أن يكونوا في الغالب من الطبقات المتوسّطة والمحرومة في المجتمع62. يقول الإمام قدس سره في هذا الخصوص: "ولينتبه الجميع إلى أنْ يكون رئيس الجمهوريّة وممثلو المجلس من طبقة تلمس محروميّة مستضعفي المجتمع ومحروميّته ومظلوميّتهم وتعمل على تحقيق رفاههم لا من الرأسماليّين وأكلة الأرض، والمتربّعين في صدر المجالس المرفّهين الغارقين في ملذّاتهم وشهواتهم الّذين لا يستطيعون فهم مرارة الحرمان ومعاناة الجائعين والحفاة"63.
أكّد الإمام في كلماته المتقدّمة على قضية هامّة وهي كون المسؤولين من الشعب واختيارهم من بين الطبقات الشعبيّة المتوسّطة والمحرومة. وقد ذكر السبب الأساس لهذا الاختيار. فالحكومة الّتي تكون العدالة الاجتماعيّة وخدمة الناس جزءً لا يتجزّأ من مبادئها، يجب أن يكون على رأسها أفراد تذوّقوا ولمسوا عدم العدالة، والتمييز، والمحروميّة, ليدركوا من خلال ذلك ضرورة بسط العدالة الاجتماعيّة وخدمة المحرومين. وهذا غير ممكن إلّا إذا لمس المسؤولون الحرمان والظلم عن قرب واعتبروا أنفسهم جزءً من الشعب والشعب جزءً منهم.
ب - التكامل مع الشعب والعمل على جلب رضاه: يعتقد الإمام قدس سره أنّ المسؤولين وبالأخصّ في السلطة التنفيذيّة لن يكونوا موفّقين إلّا إذا تمتّعوا بدعم من الشعب64. ولذلك أوصى الإمام المسؤولين في الدولة بوجوب السعي لإرضاء الناس، طبعاً في الإطار الإنسانيّ والإسلاميّ65. فالشعب سيتقدّم لمساندة الحكومة والمسؤولين فيها عندما يعتقدون بأنّ المسؤولين أصدقاء وأمناء لهم وهذا لا يتحقّق إلّا بالعمل على جلب رضا الناس.
يقول الإمام في هذا الخصوص: ".. اختيار المحافظين... ملتزمين عقلاء متآلفين مع الناس"66.
9- الاقتصاد الإسلاميّ
إذا كانت السياسة والحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره حالة جديدة لا سابقة لها في القرون الأخيرة، حيث تختلف اختلافاً جوهريّاً عن السياسات والحكومات الرائجة في العالم المعاصر، فيجب أن تتمتّع بمبدأ اقتصاديّ خاصّ وتعتمد منهجاً جديداً في الاقتصاد يتلاءم مع المبادئ الأخرى كالعدالة الاجتماعيّة والاستقلال والشعبيّة.
وبما أنّ الاقتصاد يتمتّع بأهميّة خاصّة على مستوى الحياة البشريّة وسيطرته التامّة على العلاقات الدوليّة في العصر الراهن، لذلك عمد الإمام قدس سره في الوصيّة إلى تخصيص جزء منها لشرح المبادئ الاقتصاديّة للحكومة والسياسة المطلوبة.
يقول الإمام قدس سره: "الإسلام لا يوافق الرأسماليّة المطلقَة الظالمة والّتي تتولّى حرمان الجماهير المضطهَدة والمظلومة، بل إنّه يدينها بشكل جدّيّ في الكتاب والسنّة ويعتبرها مخالفة للعدالة الاجتماعيّة، بالرغم من أنّ بعض معوجّي الفهم ـ الّذين لا اطّلاع لهم على نظام الحكومة الإسلاميّة ولا على المسائل السياسيّة الحاكمة في الإسلام ـ كانوا ولا يزالون يوحون من خلال كتاباتهم وأقوالهم أنّ الإسلام يؤيّد الرأسماليّة والملكيّة بلا حدود... ولا هو نظام مثل النظام الشيوعيّ الماركسيّ الّذي يعارض الملكيّة الفرديّة ويقول بالاشتراك... بل الإسلام نظام معتدل يعترف بالملكيّة ويحترمها بنحو محدود في نشوء الملكيّة والاستهلاك بحيث إذا طبّق ذلك على حقيقته تتحرّك عجلة الاقتصاد بالشكل السليم وتتحقّق العدالة الاجتماعيّة الّتي هي من لوازم النظام السليم"67. وأكّد الإمام قدس سره في مكان آخر من وصيّته ـ وأثناء توضيحه مبدء الاقتصاد ـ أنّ الحكومة الإسلاميّة تحترم الرأسماليّة المشروعة المؤطّرة بالحدود الإسلاميّة وتحترم أيضاً النشاط الاقتصاديّ الفاعل للشعب، واعتبر أنّ من مسؤوليّات الحكومة الإسلاميّة تأمين الاطمئنان لأصحاب الثروات والنشاطات الاقتصاديّة68.
أمّا خصائص الاقتصاد الّذي هو من جملة مبادئ الحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره فعلى النحو الآتي:
1- احترام الملكيّة والثروات المشروعة والمحدودة بحدود بنّاءة.
2- مساندة الحكومة للنشاطات الاقتصاديّة البنّاءة الّتي تؤدّي إلى الاكتفاء الذاتيّ في البلد69.
3- أولويّة العدالة الاجتماعيّة ورفض الفواصل الطبقيّة من الناحية الاقتصاديّة.
10- الوحدة بين الدين والسياسة
لعلّ مسألة العلاقة بين الدين والسياسة واحدة من أهمّ المبادئ السياسيّة والحكوميّة الّتي ترتكز عليها الحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره. إنّ الحكومة الّتي يصبو إليها الإمام قدس سره والسياسات المعتمدة فيها، تمتزج بشكل كامل بدين الإسلام، بحيث لا يمكن التفكيك بين الدين والسياسة. ولا يحصل هذا الأمر إلّا بالقدرة على استنباط كامل مكوّنات السياسة من النصوص الدينيّة.
أمّا الأسباب الّتي دفعت الإمام قدس سره للاعتقاد بأنّ السياسة المطلوبة مأخوذة بشكل كامل من الدين فهي أنّ: "الإسلام مدرسة على خلاف المدارس غير التوحيديّة حيث يتدخّل في جميع الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة والمادّيّة والمعنويّة والثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة ويشرف عليها، ولم يهمل أيّ نقطة ولو كانت صغيرة جدّاً مما له دخل في تربية الإنسان والمجتمع وتقدّمه المادّيّ والمعنويّ"70. إنّ هذه الرؤية للدين والسياسة هي الّتي يمكنها إيجاد نوع من الاتّحاد بينهما، فلا يبقى أيّ مجال للتعارض. ومن هنا تابع الإمام قدس سره قائلاً: "إنّ نسبة أحكام القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحكومة والسياسة لا تُقاس بها أبداً نسبة الأحكام في سائر الأمور بل إنّ كثيراً من أحكام الإسلام العباديّة هي عباديّة سياسيّة"71.
لقد بلغت وحدة الدين والسياسة في رؤية الإمام حدّاً أصبحت إقامة حكومة الحقّ فيه من أكبر الواجبات والعبادات72 ، واعتبرت عدم المشاركة في القضايا السياسيّة من الذنوب الكبيرة73. وأصبحت صلاة الجمعة واحدة من أهمّ الأبعاد السياسيّة للصلاة74. عدا عن ذلك كلّه فإنّ إقامة مراسم العزاء لسيّد الشهداء وصلاة الجمعة عاملان مهمّان في الحفاظ على المسلمين وبالأخصّ الشيعة75.
إنّ هذه الرؤية تضفي على المراسم العبادية الدينية بعداً سياسيّاً. ولهذا السبب اعتبر العمل السياسيّ نوعاً من العبادة. لأنّ السياسة في هذه الرؤية عبادة وجزء من الدين. ولذلك أوصى الإمام مسؤولي النظام قائلاً: "إنّ الوفاء للإسلام وأحكامه السماوية يبعث على الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة ويجعلهما في جهة واحدة"76. إنّ وحدة الدين والسياسة هي الّتي تجعل خير الدنيا وسعادة الآخرة في جهة واحدة. ومن هنا طلب الإمام قدس سره من المسلمين ـ ومن أجل الوصول إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة التالي: "أطلب بمنتهى الجدّ والخضوع من الشعوب المسلمة أنْ يتّبعوا الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فهم من عظماء مرشدي عالم البشريّة، ويلتزموا بثقافتهم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعسكريّة بالروح والقلب وبذل الأرواح والتضحية بالأعزّاء"77.
وأكّد الإمام قدس سره لزوم الاقتداء بالأئمّة الأطهار ليس في المسائل العباديّة فحسب بل في جميع الشؤون الحياتيّة، وإذا حصل هذا الأمر في المسائل السياسيّة والحكوميّة عندها ترتدي السياسة والحكومة صبغة ومحتوىً دينيَّين.
وحسب رؤية الإمام قدس سره فإنّ الفقه الشيعيّ مدخل أساس في التلفيق بين الدين والسياسة، وهو يمتلك جانباً سياسيّاً كاملاً. يقول الإمام قدس سره: "... ومن جملة ذلك الفقه التقليديّ فلا ينحرفوا عنه ذرّة، فهو إيضاح لمدرسة الرسالة والإمامة وضامن لرشد الشعوب وعظمتها سواء في ذلك الأحكام الأوليّة أم الأحكام الثانويّة، فهما مدرسة الفقه الإسلاميّ"78.
ويتجلّى الاتّحاد بين تطوّر وعظمة الشعوب والفقه التقليديّ عندما يكون هذا الفقه مشتملاً على نظريّات ورؤى وتوجّهات سياسيّة. وهنا يظهر الفقه الشيعيّ كجامع لهذه الأمور.
يمكن تسجيل المطالب والنقاط الآتية بالاستفادة من الوصيّة السياسيّة والإلهيّة للإمام قدس سره في خصوص موضوع السياسة والحكومة:
أ- قدّم الإمام تعريفاً ورؤية خاصّة للسياسة والحكومة ومبادئهما، يختلف اختلافاً جذريّاً عن الرائج في العالم المعاصر.
ب- تتكفّل الحكومة من وجهة نظر الإمام قدس سره بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، بينما تركّز النظريّات الرائجة للحكومة على تنظيم حياة الإنسان الدنيويّة، ولذلك قدّم الإمام قدس سره في وصيّته صورة عن الحكومة تختلف بشكل جذريّ عن مبادئ السياسة الموجودة في العالم.
ج- لا مكان للقوميّة ضمن مجموعة مبادئ الحكومة والسياسة من وجهة نظر الإمام، ولعلّ هذه الرؤية نابعة من النظرة الدينيّة إلى القوميّة. فالإسلام يباين القوميّة. وإنّ نظرة سريعة على وصيّة الإمام تشير إلى أنّه لم يستعمل العبارات التالية (القوميّة، البلد، إيران، الوطن) بشكل مستقلّ بل قيّدها دائماً بقيود إسلاميّة وأمثالها، وهذا دليل على بطلان القوميّة ورفض الإمام لها.
د - لم يقيّد الإمام السياسة والحكومة بقيد جغرافيّ أو شعبيّ خاصّ. بل إنّ رؤيته للسياسة والحكومة مسألة عالميّة تتخطّى الحدود. ولذلك خاطب الإمام قدس سره في وصيّته المسلمين والمستضعفين والشعوب المضطهَدة بالإضافة إلى الشعب الإيرانيّ. وقد ساهمت هذه الرؤية في توضيح استراتيجيّة الإمام الّتي تمحورت حول وحدة المسلمين، لا بل الوحدة البشريّة، في مقابل الظلم والاستعمار.
هـ - يمكن القول بشكل عامّ إنّ رؤية الإمام وبالأخصّ في المبادئ العشرة المتقدّمة مستخرَجة من النصوص الإسلاميّة، أي القرآن الكريم وأحاديث المعصومين عليهم السلام.
و- تتّضح مسألة الوحدة بين الدين والسياسة ومبادئهما عند الإمام قدس سره من خلال رؤيته الخاصّة للسياسة والحكومة. وإذا كان الإمام قد تحدّث في الوصيّة عن الاتّحاد بينهما، فإنّ الروح الحاكمة على الأجزاء السياسيّة من الوصيّة تحكي عن العينيّة والتطابق التامّ. وإذا حاولنا التدقيق أكثر لفهمنا أنَّ الإمام يعتبر السياسة كالعبادة والأحكام جزءً من الدين.
ز- يمكن جمع مبادئ السياسة والحكومة العشرة من وجهة نظر الإمام قدس سره في أركان خمسة أساس هي: العدالة، المعنويّات، الاستقلال، المشاركة، والمسؤوليّة.
* تأملات في الفكر السياسي للإمام الخميني قدس سره، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الإمام الخمينيّ، الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص35.
2- م. ن، ص20.
3- م. ن، ص16.
4- م. ن، ص16.
5- الإمام الخمينيّ، الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص39.
6- الإمام الخمينيّ، الوصيّة الإلهيّة السياسيّة, ص17 و 36.
7- الإمام الخمينيّ، الوصيّة الإلهيّة السياسيّة، ص 39 و 40.
8- م. ن، ص 63.
9- م. ن، ص 73.
1