خطاب الإمام الخامنئي دام ظله في مجمع العاملين على تكريم القادة وعشرة آلاف شهيد في محافظة مازندران1
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أوّلًا، أتوجّه بالشكر، من صميم قلبي إلى الأخوة الأعزاء، الذين بذلوا جهودًا لأجل تكريم من كانوا- للحقّ والإنصاف- قدوة الناس ومثالهم في عصرنا، وأقصد بهم الشهداء والمجاهدين. فإنّ هذا العمل بنفسه عمل قيِّم؛ وإنّ تكريم الشهداء، وإحياء أسمائهم، والبحث في أعمالهم، وإنتاج ما تركوا من آثار كتابةً وتصويرًا وصوتًا وما شاكل، في مجال حياتهم وجهادهم وأفعالهم - لعمل قيِّم جدًّا. وإنّ اللائحة التي تقدم بها الأخوة القيِّمون المحترمون2 حول فعاليّات هذا المؤتمر ممّا هم بصدد القيام به لأمر جيّد جدًا.
الدقة واغتنام الفرص
إنّ هذه الأعمال جيدة جدًّا، على أن تتنبّهوا إلى لزوم القيام بها بتعمّق، فلا تقتصر على مجرّد إيجاد العناوين فحسب، بل بتعمّق وباغتنام الفرص وبالدّقة اللازمة وبالوقت الكافي، وبالاستفادة من الفنّ من ناحية ومن روح التحقيق والبحث من ناحية أخرى.
قوموا بهذه الأعمال لتُخلّد ولتترك آثارها؛ وعليه فإنّ هذا العمل جيّد جدًّا، وعمل قيِّم. والحقيقة أنّني على اطّلاع بأنّ أهل مازندران – وإلى اليوم – قاموا بمؤتمرات عديدة وكثيرة، في مجال الشهداء وعلى أكثر من صعيد، على ساحة المحافظة، وهذا العمل الجَمَاعي عمل كبير ومهمّ. وإن شاء الله تُوفَّقون.
إنّ مسألة الدفاع المقدس- وإضافة إلى كونها امتحانًا كبيرًا لشعبنا- كانت امتحانًا لإخراج الاستعدادات الفردية، وكذلك استعدادات مختلف مناطق البلاد.
وعلى صعيد استعداد الأفراد، فإنّ هذه نقطة مهمّة وملفتة للنّظر، وعادة ما تظلّ مخفيّة ولا يتمّ الاهتمام بها كما ينبغي، وبعبارة أخرى فإنّها ولوضوحها عادةً ما يتمّ إغفالها، فتظلّ مخفيّة لكثرة وضوحها!
الدفاع المقدس: كشف الإستعدادات
وهي أنّ الدفاع المقدس تحول إلى وسيلة وواسطة، لكشف الاستعدادات المكنونة3 وبروزها لدى الناس، وبشكلٍ عجيب.
وكمثال: تلاحظون في حرس الثورة أنّ شابًّا يدخل ساحة المعركة، وهو لا يعرف المسائل والأمور العسكرية ولا يفهم منها شيئا، وبعد سنة أو سنة ونصف أو سنتين يصبح خبيرًا استراتيجيًا عسكريًا. إنّ هذا لأمر مهمّ جدًّا.
حسنًا. ترون اليوم في حالات الشهداء والقادة الكبار وأمثالهم.. –فرضًا- لاحظوا الشهيد حسن باقري كمثال، فقد أصبح خبيرًا متميّزًا في علم الحروب، ومن أنكر هذا المعنى فهو لا يعلم شيئًا، وأمّا من يعرف ولديه اطّلاع، يرى أنّ هذا الشابّ وله من العمر عشرون سنة ونيّف، قد أصبح مهندسًا عسكريًا، ومتى؟!. في سنة 1982م. ومتى دخل ساحة الحرب؟!. في سنة 1980م.
إنّ مسار هذه الحركة: من جندي في مرحلة الصفر- عسكريًّا – وإلى خبير عسكريّ استراتيجيّ.. فهذا الشابّ قد طوى حركة عشرين سنة.. خمسًا وعشرين سنة.. في حركة سنتين!. وهذه نقطة مهمّة جدًا. أو افرضوا فلان، القائد العسكري.. نذكر هنا الشهداء والماضين.. والأحياء أيضًا كُثُر.
السيد مرتضانا4 الجالس هنا، وآخرون، كلّهم من هذا القبيل.
مثلًا الشهيد باكري؛ وقد كان في أول الحرب شابًا طالبًا تخرَّج حديثًا من الجامعة، وأمضى عدّة شهور في بعض المعسكرات، ثم فيما بعد، وعندما أصدر الإمام (الخميني) أمرًا بإخلاء المعسكرات، خرج من المعسكر؛ مثلا في شهر أيلول سنة 1980. وقد كانت له نفس الحالة التي ذكرناها.
نماذج من ميادين التمرُّس
ثمّ لاحظوا في عمليّات بيت المقدس، وفي عمليّات خيبر، وقبلها عمليّات الفتح المبين، هذا الشّاب الذي كان قائدًا لنخبة العسكر ويستطيع أن يحرِّك فرقة بكاملها وأحيانًا يحرِّك مقرّ عمليّات كاملًا وينظّم أموره. أوليس هذا أمرا عجيبًا؟!.
أو ليست هذه معجزة؟!. هؤلاء معجزة الثورة. هذا على صعيد بروز الشخصيات. والكلام في هذا المجال كثير، لا ينتهي.
خلاصة الأمر – وقد قلت – أنّ هذه الأمور، وبعد أن اتّضحت وانكشفت، صارت موردًا للغفلة عنها. فكأنّ المرء لا يتنبّه إلى هؤلاء ومن كانوا؟. وماذا كانوا؟!.
شابّ في السابعة والعشرين من عمره، أو الثامنة والعشرين، أو في الثلاثين من عمره كحدّ أقصى.. يدخل عالم الشهادة.. وهو في أوجّ القدرة العسكرية للإنسان.. للشّاب.. من أين بدأ ليصل إلى هذا المقام؟. وبأيّ مدّة استطاع أن يصل إلى هذه النقطة؟ إنّه لأمر مهمّ جدًّا.
والسبب في مهارة هؤلاء وعظمة عملهم، أنّ المتمرّسين من العسكريين في بلادنا.. الأخوة الذين كانوا في الجيش، وعملوا لسنوات الطوال – فوضعوا خطط العمليات معًا، في الفتح المبين وفي عمليات بيت المقدس، وخيبر، وأماكن أخرى، وتبادلوا الآراء – والجميع كانوا يحملون عمل هؤلاء وأفكارهم على محمل الجدّ، ويدعمونهم.
وما يدلّ على ذلك بوضوح، أنّ هؤلاء استطاعوا أن يحاصروا، وفي عمليّات ممتازة وعجيبة، جيشًا مجهّزًا ومدعومًا من قبل القوى الكبرى، ما أوقعهم في الحيرة.
لاحظوا عمليّات الفتح المبين كمثال، وما جرى فيها من عملٍ قامت به هذه القوة الشابّة.. شبابنا.. وقد كان العدوّ في صحراء واسعة، ذهبتُ إليها في أيّام الحرب، ونظرت إليها من مكان مرتفع.. ورأيت محلّ تمركز قوى العدوّ، وكيف أنّه ملأ أطراف هذه الصحراء.. [دشت عباس]5.. وإذا بالعدوّ يرى هذه القوى التي تحاربه من أمامه، تباغته من الخلف وتهجم عليه. أوليس هذا أمرًا مهمًّا؟!. وهل هو عملٌ لا شأن له؟!. وهل هو عمل لا يليق بأن نعملَ عليه جاهدين، ونفكّر فيه بإمعان، وأن يتم البحث حول تفاصيله، وأن نقوم بإنتاج فنّي مناسب عنه؟!. وهل هذا مزاح؟!!.
أو في عمليات بيت المقدس.. حيث كانت فرقتان أو ثلاث فرق من فرق العدوّ وهي مجهّزة تجهيزًا كاملًا فإذا بها تقع في الحصار فجأةً، وقد جاءها الهجوم في هذه المنطقة الصحراويّة من خوزستان من جهة الشمال ومن جهة الشرق ومن جهة أخرى؛ من هنا نلاحظ أهميّة الخطط التي أعدّها شبابنا.. هنا تبرز هذه الاستعدادات الممتازة..
ومنها ما ذكرناه هنا، فرقة مجهّزة، قوّة مسلّحة بكافّة أنواع التجهيز ويديرها جنرالات مخضرمون، وضباط ممتازون حسب قولهم؛ وقد كان أعداؤنا في العالم يعملون على مساندتهم ومساعدتهم، ويأمرونهم ويعلمونهم الأساليب والتكتيكات العسكرية اللّازمة- هكذا جيش، وبتلك القدرة، أصبح عاجزًا ومغلوبًا، لا يقدر على شيء أمام خطط شبابنا.
فعلامَ يدلّ هذا؟ إنّه دليل على أنّ في الأمر عظمة، وأنّ له أهمية خاصة؛ ولذلك برزت هاتيك الاستعدادات لدى هؤلاء الأفراد.
مازندران؛ 10 آلاف شهيد
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المناطق، وأذكر هنا، بمناسبة حفل تكريم شهداء مازندران، أنّ مازندران - وللحقّ والإنصاف- أدّت امتحانًا ممتازًا في الحرب، وقدّمت أكثر من عشرة آلاف شهيد، والأخوة جمعوا الرقم وقالوا إنّه عشرة آلاف وهو أكثر من ذلك. فما هو معنى هذا العدد من الشهداء؟. وكم منهم ذهب إلى الجبهة؟!. وكم منهم ذهب مرارًا وتكرارًا وعاد؟. وكم منهم بقي هناك طوال ثمانية أعوام بحيث قدّموا عشرة آلاف شهيد؟
ومنهم شهداء معروفون، وأسماؤهم مشهورة.. ولكنّ منهم كذلك، أفرادًا لا اسم لهم، ولا رسم [مغمورين].. أولئك الذين كانت لديهم هذه الاستعدادات التي ذكرناها.. وقد كانوا مع هذه الجماعة وشاركوا في الحرب.. وقد رأيت بنفسي فرقة "كربلاء- 25" وقتذاك.. ولم تكن وحدها طبعًا..
كان منهم الفرقة "30- كركان" ووحدات أخرى ضمّت عديدًا من أهالي مازندران.. وكان محور الفرقة "30- كربلاء" وقد رأيت هذه الفرقة عن قرب، ورأيت عملها وسمعت عنها كثيرًا.
حسنًا. لقد قاموا بعمل كبير في الحرب.. وإنّ أهل مازندران من أهل الفداء.. كانوا فدائيّين.. وقد أرسلوا شبابهم إلى جبهات القتال بإخلاص، فذهب شبابهم وثبتوا وقاوموا.. ولقد قدّموا أعمالًا مجلّية وكبيرة في مختلف العملّيات التي ذُكرت هنا6.
جهاد نساء آمل
وكذلك الأمر في غير مسألة الدفاع المقدّس؛ وهذه قصّة مدينة آمل التي شهدت تحرّكًا جماهيريًّا عجيبًا7، وقد ذكر الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) أهل آمل في وصيّته التّاريخية، ما يشير إلى عظمة ما قاموا به – بمختلف أطيافهم، من رجال ونساء -.
حتّى بنات آمل - وبأعمار ال14 و15 سنة- نرى أنّهن، في مسألة آمل، يذهبن إلى الحرب وإلى الشهادة..8 وإنّ لمازندران سوابق حسنة كثيرة من هذا القبيل، وقد أشرت إلى ذلك مرارًا وتكرارًا.
منذ قديم الزمان، كانت منطقة طبرستان هذه، والمنطقة الواقعة خلف الجبال الشاهقة- من المناطق التي لم يستطع الفاتحون أن يعبروا جبالها.
وكان الفارّون من آل النبي الأكرم، من أولئك الشباب الذين كانوا في الكوفة ومناطق العراق الأخرى والحجاز، ممّن كانوا تحت نير الظلم يهربون بأطفالهم ونسائهم؛ ليصلوا إلى مناطق لا تستطيع القوى العسكرية المسلحة، في تلك الأزمنة، الوصول إليها..
ولذلك، ومنذ أن دخل أهل مازندران في الإسلام، كانوا من أتباع أهل بيت النبي الأكرم ص.. لقد قاموا بهكذا عمل عظيم.
وفيما بعد وعندما عزم عدد من السادة الزيديين في اليمن، على القيام ببعض الأعمال ذهب إليهم جماعة من مازندران لمساعدتهم، فأقاموا دولة علويّة وحكومة زيديّة، في تلك القرون الأولى من الزمان، في اليمن.
إنّ الغرض والخلاصة أنّ دواعي الفخر لدى أهل مازندران ليست قليلة، ثمّ فيما بعد وفي مرحلة إعادة الإعمار وكما أشاروا9، كان إعادة إعمار مدينة سوسنكرد، وحمل أهل مازندران مسؤوليّة ذلك، وقد انتهت مرحلة الإعمار تلك بأسرع من مثيلاتها؛ وبعبارة أخرى لقد قاموا بعمل ممتاز ورائع في مجال إعادة البناء.
وإلى اليوم -وبحمد الله- فإنّ أهل مازندران من أهل الوفاء، ورغم تعرّضهم في زمن النظام الطاغوتي [نظام الشاه] وأعداء الإسلام وعملاء الجهاز الطاغوتي، إلى الهجوم على دينهم وتقواهم ومعنوياتهم – سواءٌ على صعيد الأخلاق أم على صعيد السلوك أو العقيدة – وعلى مستوى عموم المحافظة، فإنّ هؤلاء الناس حفظوا إيمانهم، وبرزوا بهذا الشكل في الأوقات الصعبة.
أتمنّى لكم جميعًا التوفيق، وأن تؤدوا أيضًا، هذا العمل العظيم وأمثاله على أحسن وجه ممكن.
والسّلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
--------------------------------------------------------------------------------
1- عُقد هذا المؤتمر ليوم واحد في 2 ك2 2013.
2- أشار القائد السيد محمد تقي شاه چراغي ( المدير العام للمؤتمر) إلى النقاط التالية: البحث والتحقيق حول آثار الشهداء والفدائيين (المضحّين) في أربعة أمور: البحث حول العمليات [العسكرية]، والتحقيق حول الشهداء، تدوين "التاريخ الشفهي"[المحكي] [استنطاق المجاهدين والمشاركين في الحرب وتدوين مذكراتهم وخواطرهم]، والمذكرات المتوفرة شفهيا. وإصدار نشرة دورية عن فعاليات المؤتمر تحت عنوان(الأخضر القاني)، وإنشاء مركز للمعلومات تحت عنوان (الحرب وكنوزها) ودعم المواقع الإلكترونية المواكبة. وتعليم فن الرواية، وإحياء مناسبات ذكرى الشهداء. ولقاء أهالي الشهداء. وإنتاج برامج تلفزيونية واذاعية. وبناء المنشآت والعمارات التي تذكّر بالدفاع المقدس. وحديقة خاصة بمتحف الدفاع المقدس حول ما يتعلق بمازندران.
3- المخفية
4- قائد لواء الحرس مرتضى قرباني. (وتعبير مرتضانا من باب المدح، فقد نسبه السيد القائد إلى نفسه)
5- سهل عباس
6- المدير العام للمؤتمر.
7- صباح يوم 26 ك2 من سنة 1982م، أقدم جمع من الشيوعيين وبهدف الانقلاب على احتلال مدينة أمل ولكن أهل آمل قاموا بوجههم وبالسلاح وقضوا على فتنتهم عصر ذلك اليوم نفسه.
8- الشهيدة سيدة طاهر هاشمي.
9- المدير العام للمؤتمر.