لقد قيل الكثير من الكلام حول الإمام الخمينيّ قدس سره، ولكن على الرّغم ممّا كتب وقيل، فإنّ الأقلام والألسن تبقى قاصِرةً عن الإحاطة بشخص هذا الإمام العظيم بشكلٍ دقيق وكامل، فهو شخصيّة عظيمة يندُرُ وجود مثيلٍ لها بعد الأنبياء والأولياء، إذ تظهر مثل هذه الشخصيّات في مراحل معيّنة من التاريخ، فتقوم بإنجاز أعمالٍ كبرى وضخمة، وتضيء في السّماء كالبرق فينبعث نورها في كلّ مكان من الفضاء، ثمّ تمضي.
فالإمام قدس سره بالإضافة إلى قيادته الثوريّة، كان فقيهاً ومرجعاً للتقليد. إنّه يريك من خلال وجوده: الدين والسياسة، والثورة، والله والشّعب، دفعةً واحدةً، وثورته تعيد إلى الأذهان ثورات الأنبياء.
ونشير هنا إلى أهمّ الصفات الّتي تتّصف بها شخصيّته:
1- أداء التكليف: إنّ النقطة الأساس الّتي ينطلق من خلالها للعمل هي أداء التكليف الشرعيّ، والذوبان في الإرادة الإلهيّة، حيث لم يكن يهتمّ بشيء عدا هذا الأمر، وهذا الأمر يشير إليه بشكل واضح في كلمته عند وقف الحرب مع العراق.
2- وضوح الرؤيـة: كان الإمام حكيماً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة... الحكمة بمعناها الحقيقيّ الوارد في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ ، فقد وهبه الله تعالى بصيرة كان يرى من خلالها بعض الأمور الّتي يعجز الآخرون عن ملاحظتها، بينما كان هو يراها بنظرةٍ عابرةٍ، كانت كلماته منطلقة من قلبٍ كهذا وناتجة عن حكمة كهذه، ورسالته "لغورباتشوف" نموذج واضح لذلك.
3- التصميم والإرادة: لم يتردّد الإمام الجليل لحظةً واحدة في السير في طريق الله، ولم يدّخر ذرّةً واحدةً ممّا في وسعه دون أن يستفيد منها في طيِّ هذا الطريق، وظلّ مثابراً بكلّ ما أوتِيَ من طاقة وفي كلِّ آنٍ من حياته في السعي الحثيث لبلوغ ذلك الهدف السامي والمقدّس، وقد أعانه الله على ذلك.
4- صوت المظلومين والمستضعفين: انطلقت الثورة الإسلاميّة في هذا العصر إثر الصرخة المدوّية والقويّة والخالدة الّتي أطلقها الإمام الخمينيّ قدس سره. لقد عَلَت صيحة فقيه العصر هذا وحكيمه من قلب هذه الأمّة للشّعوب المستضعفة، والتي خمدت أنفاسها وحُبِسَت آهاتُها في صدرها، فظلّ أنين المظلومين حبيس حناجرهم الظمأى، ومرّة واحدة ارتفعت تلك الصرخة فمزّقت نِقاب الظّلم وبشّرت باقتراب صبح الانعتاق والحريّة، محتضنةً قضايا المستضعفين كافّة، من إيران إلى لبنان وفلسطين ...
من انجازات ثورة الإمام الخميني قدس سره
لقد قام الإمام الخميني قدس سره بأعمال كبرى تتناسب ضخامتها مع عظمة الإمام نفسه، ويقيناً أن لو اجتمع المفكِّرون والمحلّلون وأرادوا كتابة قائمة بالانجازات الّتي تمكّن الإمام من القيام بها لكانت تلك القائمة تضمّ أضعافاً مضاعفة للنماذج الّتي نذكرها فيما يلي:
أوّلاً: إحياء الإسلام: خلال القرنين الماضيَيْن كانت الأجهزة الإستعماريّة تسعى جاهدةً إلى جعل الإسلام في طيّ النسيان. فأنفقت لتحقيق ذلك أموالاً طائلة لإزاحة الإسلام جانباً من حياة الناس وعقولهم وسلوكهم الفرديّ والاجتماعيّ؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ الإسلام هو العقبة الكبرى في طريق استمرار ممارسة القوى الكبرى الاستكباريّة في نهْب المسلمين، والهيمنة على مصالحهم وخيراتهم.
الإمام الخميني قدس سره استطاع إحياء الإسلام وإعادة العمل بأحكامه، الأمر الّذي شكّل ضربة قويّة لمخطّطات الاستعمار والاستكبار.
ثانياً: إثبات مبدأ لا شرقيـّة ولا غربيـّة: كانت الفكرة السائدة قبل الإمام قدس سره أنّه ينبغي الإعتماد، إمّا على الشرق وإمّا على الغرب، وأنّه يجب أن نعتاش إمّا على خبز هؤلاء ونمدحهم، أو على خبز أولئك ونُثني عليهم. ولم يكن ليتصوّر أحد أنّ بإمكان شعب أن يقول للشرق والغرب معاً "لا"، ويقاومهما ويَثبُت بِوجهِهما ويرسّخ أقدامه يوماً بعد آخر، بَيْدَ أن الإمام برهن على إمكانيّة حصول ذلك.
ثالثاً: إحياء روح الثقة بالنفس: عملت الحكومات الدكتاتوريّة الّتي تعاقبت على الحكم في بلادنا، على جعل الشعوب مُهانة ذليلة وخاضعة، من خلال نشر ثقافة الاستسلام والخضوع، ما أفقد الشعوب ثقتها بنفسها، وهذا ما تمثّل في الممارسات والأعمال الّتي قام بها الإنكليز والفرنسيّون والروس والأمريكان وبعض الحكومات الأوروبيّة الأخرى.
انطلت الخدعة على قطاعات واسعة من شعبنا، ما جعله يفقد ثقته بنفسه، واعتقد أنّه لا قابليّة لديه، ولا قدرة عنده على القيام بالأعمال الكبرى، ولا يمكنه أن ينجز مهمّة البناء والإعمار، ولا يستطيع أن يُبدي ابتكاراً من عنده، بل ينبغي أن يمارس الآخرون السيادة عليه والتحكّم فيه، وإن فكّر البعض القيام ببعض هذه الأدوار فإنّها كانت تضع العقبات والعراقيل وتمنعه من العمل على تحقيق ذلك.
جاء الإمام الخميني قدس سره فأعاد للشعوب المسلمة ثقتها بنفسها وبعث فيها الروح من جديد، حتّى صار شعبنا الآن لا يخشى تضافر الشرق والغرب وتكاتفهما وتآمرهما ضدّه، ولا يشعر بالضعف في قبالَتهما، وشبابنا يشعرون أنّ بإمكانهم بناء بلدهم.
رابعاً: بروز الأمـّة الإسلاميـّة مجدّداً على المسرح العالميّ: في السابق لم يكن هناك شيء يذكر باسم الأمّة الإسلاميّة على الصعيد العالميّ، وكان هذا المصطلح "الأمّة الإسلاميّة" خارجَ قيد التداول.
أمّا اليوم، فإنّ المسلمين ـ سواءً كانوا في أقصى مناطق آسيا أو في قلب أفريقيا
أو في أوروبا وأمريكا ـ يشعرون أنّهم جزءٌ من مجتمع عالميٍّ كبير، أي جزءٌ من الأمّة الإسلاميّة، وهذا الشعور بالإنتماء الى الأمّة الإسلاميّة أحياه الإمام في نفوس المسلمين، وشكَّل رأس حَرْبَةٍ يمكن أن تُشهر بوجه الإستكبار للدفاع عن الشعوب الإسلاميّة.
خامساً: الإطاحة بالنظام العميل: إنّ إزالة "الحكم الشاهنشاهي" ومحوَ النّظام الملكيّ من إيران، يُعتبر أحدَ أهمِّ الإنجازات الّتي يمكن تصوّرها في منطقة الخليج والشرق، باعتبار أنّ إيران كانت في السابق تشكل قلعة للإستعمار، وقد انهارت هذه القلعة على يد الإمام قدس سره.
سادساً: إقامة الحكومة الإسلاميـّة: لم يكن يخطر بذهن المسلمين وغير المسلمين في العالم أن يقوم نظام سياسيّ اجتماعيّ يستند على أساس دين من الأديان، بل وأكثر من ذلك يستند إلى الإسلام.
كان هذا حلماً ورديّاً يداعب أجفان المسلمين ولم يتصوّروا مطلقاً أنّه سيتحقّق عمليّاً في يوم من الأيّام. وقد حوّل الإمام هذا التصوّر الخيالي إلى كيان حقيقيّ له وجود مشهود، فكان ذلك بمثابة المعجزة.
سابعاً: إعادة روح العزّة للمسلمين: مع الإمام دام ظله لم يعد الإسلام موضع اهتمام الأبحاث والتحليلات في الجامعات، بل أصبح موضع اهتمام المجتمعات ودخل في صلب حياة الناس، إلى وضع بدأ المسلمون معه - أينما كانوا - يشعرون بالعزّة والعنفوان.
وهذه الحقيقة يؤكّدها الإمام الخامنئي دام ظله بقوله: "لقد كنّا في الحقيقة أمواتاً فأحيانا الإمام، وكنّا ضلاّلاً فهدانا الإمام، وكنّا غافلين عن الوظائف الكبرى للإنسان المسلم فأيقظنا الإمام وأرشدنا إلى سواء السبيل، بحيث أمسك أيدينا وشجّعنا على المسير، وكان هو في طليعة السائرين".
* ملخص عن كتاب معارف الأسلام / إعداد مركز نون للترجمة والتأليف .