يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1
ما هي العصبيّة؟
العصبيّة أن يتّخِذَ المرءُ لنفسِه جانباً معيّن، يتبنّى نصرتَه والدفاعَ عنه، ويراه دائماً على الصواب، وذلك لصفة خاصّة موجودة فيه، سواء كان ذاك الجانب شخص، أم جهةً، أم جماعةً، دون أن يبحث عن الحقّ ويجعله دليلَه إلى الصواب، بل يجعل تلك الصفة الخاصّة الّتي لأجلها تبَنّى ذلك الجانب هي المقياس للتبنِّي والتولِّي والنصرة، كصفة القرابة، أو العائلية، أو القومية، أو العِرقيَّة...إلخ.
وأمّا المؤمن الصادق بإيمانه، فإنّه يشنأ تلك الصفة، ويسترذِلُها ويباينها في اعتقاده وسلوكه مباينة المشرق للمغرب، فهو منصف في حكمه، مستقيم في سلوكه، غير متعصّب في نفسه، يتبع الحقّ ولو استلزم مقارعةَ أقربِ الناسِ إليه، إن لم يرجعوا إلى الصواب ويفيئوا إلى أمر الله. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ولقد كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ومضيّاً على اللقم2 وصبراً على مضض الألم وجدّاً في جهاد العدوّ.."3.
والتعصّب قد يكون لأيّ شيء من متعلّقات الإنسان وملابساته وما يتّصل به، فقد يتعصّب إنسان لبلده، أو لمدرسته، أو لأستاذه، أو لمسؤوله، أو لحزبه وتنظيمه،أو لعشيرته، أو لقريته، أو لحيّه، أو للغته، أو لعرقه وقوميّته، أو للونه...إلخ.
فمن أعانَ جماعتَه أو قرابتَه وقومَه على ظُلمٍ، وقوَّاهم وشجّعهم على ما هم عليه من الباطل وعدم الحقّ، دون أن يردَعَهم وينهاهُم عنه، فهو متعصّب.
وهنا لا بدّ من التنبيه على أنّ هذا لا يعني أن لا تحبّ الخير لأبناء قومك وجلدتك، بل العصبيّة هي أن تأخذ دائماً جانبهم وإن كانوا على الباطل، وتعينهم وتنصرهم على ظلمهم وباطلهم، دون أن تبحث عن الحقّ وتجعله معياراً لتأييدهم ونصرتهم.
وقد سئل الإمام السجَّادُ عليه السلام عن العصبيّة، فقال: "العصبيّة الّتي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرارَ قومِهِ خيراً مِن خيارِ قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومَه على الظلم"4.
مقوّمات نفي العصبيّة
الإنصاف ونفي التعصّب لهما مقوّماتٌ وأسس وهي جدّاً شريفةٌ، وهذه بعض تلك المقوّمات:
1-أن يكون الهدف الأساس هو الحقّ
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾5، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾6 .
وهذا يحتاج إلى تطلّع نحو العلا لنيل الهدف الأسمى وهو مرضاة الله تعالى.
ولأنّ مقياسَ رضا الله تعالى هو الإنصاف والحقّ، يقول تعالى مبيّناً للطريقة الّتي يرتضيها ويأمر بها للحكم والقضاء:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾7.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾8.
2- الزهد
هذا المقوّم الثاني لنفي العصبيّة، فإذا كان نفي العصبيّة يحتاج إلى الإنصاف، فإنّ كلًّا من الإنصاف وعدم التعصّب يحتاج إلى الزهد في متاع الدنيا الزائل، وفي حظوظ النفس إذا تعارضت مع حكم العقل، والمنطق، والحقّ.
3- الوعي
وذلك للأمن من الضلال والغواية، فلا بدّ من معرفة الحقّ، إذ كيف يحكم بالحقّ من يجهله؟!
"اعرف الحق تعرف أهله"9، فبعض الناس قد يتعصّب ويرى أنّ ما يفعله هو الحقّ، أي يرى أنّ التعصّب هو الحقّ، حتّى إذا لمته تعجّب منك: ألا يجب أن أنصر أخي أو ابن عمّي، أو ابن مدينتي وبلدتي، أو ابن قوميتي أو ابن جماعتي؟! إلخ..
4- عدم الغضب
من الأمور الّتي تساعد على نفي العصبيّة التحكّم بالقوة الغضبية، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن يمشي مع غضبه كيف كان، فإنّ الغضب يؤدّي إلى عواقب وخيمة.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله علّمني، قال: اذهب ولا تغضب، فقال الرجل: قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلمّا رأى ذلك لبس سلاحه ثمّ قام معهم، ثمّ ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تغضب، فرمى السلاح ثمّ جاء يمشي إلى القوم الّذين هم عدوّ قومه فقال: يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعليّ في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب10.
المؤمن العاقل لا يمكن أن يتعصّب
المؤمن لا يتعصّب لأنّه يذعن بزوال كلّ هذا العالم الماديّ الدنيويّ بكلّ علائقه وارتباطاته وعصبيّاته، فهي نِسَبٌ وملابسات عرَضيَّة، وليست أموراً ثابتة حقيقية، والعلاقة الوحيدة الذاتية الثابتة هي علاقة المخلوق مع الخالق تعالى، فهي فقط الّتي سيتّضح بعد ذلك أنّها ليست سراباً بل هي واقع حقيقيّ، وهي الّتي ينبغي للمؤمن أن يسعى لتوثيقها وتعميقها في النفس.
وإن شئت فعبِّر عن هذه العلاقة بين المخلوق وخالقه بالنَّسََب الروحانيّ المعنويّ، فإنّه الّذي سوف لا ينقطع يوم القيامة حيث تتجلّى الحقائق على ما هي، وتنقطع وتبور كلّ العلائق العرضية الاعتبارية غير الذاتية:يقول تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾11 .
روي عن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ حسب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي"12.
لأنّه النسب الروحانيّ المعنويّ الّذي يتّصل بإرادة الله وطاعته، والّذي مقياسه الحقّ والإنصاف، فهو غير منقطع وهو بعيد عن كلّ عصبية وجاهلية.
فإذا أدرك المؤمن العاقل عدم انتفاعه بأيّ نسبة يتعصّب لها إلّا الحقّ فإنّه سوف يرفض التعصّب لغير الحقّ ويبغضه ويبعده عن ذاته بكلّ تصميم وقوّة، وخاصّة بعد أن يدرك خطر العصبيّة على الإيمان.
خطورة العصبيّة على الإيمان
إذا فسّرنا العصبيّة بأنّها أخذُ جانب معيّن والحكم لصالحه دائماً وفي كلّ الأحوال، فمعنى ذلك أنّنا سننصر ذاك الطرف المتعصَّب له في بعض الأحيان وهو على الباطل، وهذا يعني أنّ العصبيّة ستصادم الحقّ وتعاكسه في تلك الموارد. أي إنّها ستتعارض مع الإيمان، لأنّ الإيمان هو الاستقامة في جادّة الشرع والعمل، والسير على مقتضى الحقّ والإنصاف، فحلول العصبيّة في القلب ينفي الحقّ والإيمان، لأنّ المتعصِّب سيأخذُ جانباً معروفاً مسبقاً ويدافع عنه حتّى وإن لم يكن على الحقّ!
وقد نصَّت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام على ذلك: "من تَعصَّب أو تُعُصِّبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"13.
فالعصبيّة خطرةٌ على الإيمان لأنّها قد تستقرّ وتترسّخ في الإنسان وتستعر في قلبه بحيث يصبح عدواً للحقّ جهاراً، دون أن يكون مجبراً على ذلك بل بكامل إرادته وملء اختياره ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾14.
ويَخرج من الدنيا وقد تمكَّنت هذه الصفة الخبيثة من نفسه وصارت ملكةً راسخةً في قلبه، وهنا يكمن الخطر حيث إنّ الإنسان يُحشر يوم القيامة على هيئة ملكاته وصورها، كما ورد في بعض الروايات15.
وعليه فإذا كانت الملَكَة المتمكِّنَة من النّفس هي ملكةٌ شيطانية فإنّ صاحبها معاذ الله يُحشر على صورة شيطانية، والتعصُّب في الحقيقة هو صفة شيطانية، فهو الّذي ميَّزَ الشيطان عن الملائكة وأخرجه من الجنَّة وفضَحَه، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم، وكان في علم الله أنّه ليس منهم. فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب فقال خلقتني من نار وخلقته من طين"16.
ولأنّ أعظم الناس تعصّباً كانوا هم أعراب الجاهلية فإنّ المتعصّب يُحشَرُ يومَ القيامَة معهم كما في الرواية: "من كان في قلبه حبّة خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"17.
خطران عظيمان محدقان بالمتعصِّب
1- خروج الإنسان عن الحقّ والإيمان بالعصبيَّة قبل الموت أو عند الموت.
2- أن يحشَرَ على صورة الشياطين مع أعراب الجاهلية يوم الحشر، ويوم تبلى السرائر وتظهر صور النفوس على حقيقتها.
فيا أيُّها الأخ العزيز، ما أعظمهما من خطرين!! فكّر في نفسك، هل تَجعل إيمانك الّذي هو ضمانةُ نَجَاتك يومَ القيامة في مهبّ ريحِ العصبيّة الجهنميّ الشيطانيّ الجاهليّ، أم تلتفت لنفسك وتُخرِج منها كلّ عَصبيَّة وتكون منصفاً متّبعاً الحقّ أينما وجدتَّه، وتُنصِف النّاسَ حتّى من نفسك لتفوز في الدارين، في الدنيا يبارك الله للمنصفين في أمورهم ويكونون موردَ رعايته وألطافه، وفي الآخرة تُحشر مع الصَّادقين المنصفين محمّدٍ وآله الأبرار الطيّبين؟
فالمؤمن من حزب الله لا يتعصّب، ولا يوادّ أولئك الّذين حادّوا الله ورسوله وخالفوا أحكام المولى عزّ وجلّ، ومشَوا على غير هَدي رسولِه وأهل بيته، ولو كانوا أقرب الناس إليه.﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾18.
*اولئك حزب الله ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة المجادلة، الآية: 22.
2- اللقم بالتحريك: معظم الطريق أو جادته.
3- شرح نهج البلاغة، الشيخ محمّد عبده، ج1،ص104.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 308.
5- سورة يونس، الآية: 32.
6- سورة الحج، الآية: 62.
7- سورة النساء، الآية: 135.
8- سورة المائدة، الآية: 8.
9- روضة الواعظين، الفتّال النيسابوري، ص 31.
10- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ،ج22، ص85.
11- سورة المؤمنون، الآية: 102.
12- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج14، ص 168.
13- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 307.
14- سورة الجاثية، الآية: 23.
15- انظر: بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ،ج7، ص89.
16- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 308.
17- م. ن، ج2، ص 307.
18- سورة المجادلة، الآية: 22.