قال أمير المؤمنين علي عليه السلام : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا".
إن هذه الوصية على قصرها لتزخر بالمعاني والفوائد الكبيرة، ذلك أن أي إنسان متحضر لا يشك أبداً بضرورة التربية، فكما أن الوردة أو الشجرة أو الحصان يحتاج إلى التربية، كذلك الإنسان. وهذه المسألة لا تحتاج إلى توضيح وإن أكثر الناس تخلفاً يدرك ذلك؛ ولذا نشاهد المجتمعات البدائية تعيش على الزراعة أو تربية الماشية. قد يخطئ أولئك في أسلوب التربية سواء في النبات أو الحيوان ولكنهم على كل حال يعتقدون بضرورة التربية في هذا المضمار.
وفرق كبير بين الإنسان المتحضر والإنسان المتخلف، فإذا كان الأخير يعتقد بأن الإنسان ليس حيواناً أو نباتاً حتى يحتاج إلى تربية فرئيس القبيلة يرفض رفضاً قاطعاً أن يكون ابنه بحاجة إلى التربية بل يعتبر ذلك إهانة موجهة لشخصه ولابنه. نعم قد يتصور أن أفراد قبيلته وبسبب تعايشهم مع الحيوانات يحتاجون إلى تربية أما إبنه الذي في نظره إنسان بكل معنى الكلمة فلا يحتاج إلى التربية أو الأدب على الإطلاق.
إن الإنسان المتحضر لا يفكر أبداً على هذا النحو، بل على العكس من ذلك فهو يعتقد أن ابنه باعتباره إنساناً يحتاج إلى التربية والرعاية أكثر من الوردة والشجرة أو الحمامة والحصان.
فكما أن النباتات باعتبارها موجودات تنبض بالحياة هي أكثر كمالاً من الجمادات فإنها تحتاج إلى التربية للوصول بها إلى الكمال المنشود، ولأن الحيوانات أرقى كمالاً من النباتات فهي تحتاج إلى التربية أكثر، وهكذا بالنسبة للإنسان. إنه كائن أرقى وأسمى كمالاً من الحيوان، بل إن وجوده العظيم بحاجة ماسة إلى التربية والأخلاق والأدب.
الإنسان مرتبة أخرى من الوجود تفوق عالم النبات وعالم الحيوان، وإن قولنا بأنه يحتاج إلى التربية ليس معناه أن نسلم الإنسان إلى من يعنى به. صحيح أنه بحاجة إلى معلمين ومربين يهدونه ويرشدونه ويصقلون وجوده، غير أن الإنسان ليس معدناً أو حجراً ثميناً لكي نسلمه بيد صائغ ماهر ثم نطلب منه صياغته من كل النواحي.
الإنسان كذلك ليس نباتاً لكي نودعه لدى المزارع ونعتبره مسؤولاً عنه من جميع الجهات؛ الإنسان وبالرغم من احتوائه إلى جوانب النبات وخصائص الحيوان يمتاز بالعقل والإرادة، وهما يرفضان رفضاً قاطعاً الانصياع على العوامل الخارجية؛ إنه ليس معدناً أو حجراً حتى يستجيب لإرادة الصائغ، كما أنه ليس نباتاً ينمو لدى كل أحد، وليس ببغاءً فيلقن بما يراد له أن يقول؛ إنه كائن يتمتع بالحرية والاستقلال والإرادة التي قد ترفض الخضوع لشتى أنواع المؤثرات، إذ من المستحيل إجبار الإنسان على عمل ما، إذ لابد أن يحصل في النهاية نوع من التفكير ثم صدور القرار.
إن عمل الإنسان لابد وأن يسبقه فكر وإرادة، ومن لا يفكر لنفسه لا ينفعه تفكير الآخرين، ومن لا يقرر بنفسه لا يجديه أن يقرر في شأنه الآخرون؛ ولقد قال بعض العظماء: "من لم يجعل في قلبه واعظاً من نفسه لا تنفعه مواعظ الواعظين" أو "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزونوها قبل أن توزنوا".
كل هذا على أن الإنسان يختلف عن سائر المخلوقات في مسألة التربية، إذ إن العوامل الخارجية وحدها لا تكفي. يجب أن يكون في داخل كل إنسان واعظ من نفسه، أي تنشأ في داخل النفس شخصيتان الأولى تأمر والثانية تطيع، الأولى تلوم والأخرى تتقبل الملامة، الأولى تحاسب والأخرى تتقبل الحساب.
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: ﴿النفس اللوامة﴾.[سورة القيامة، الآية: 2] أي التي تلوم الإنسان على أخطائه فهي دائمة التقريع له والعتاب؛ لا أحد يفكر في إنكار هذه الحقيقة أبداً ولا أحد لم يشعر بها، ذلك أن كلاً منا قد ارتكب خطأً ما صغيراً كان أم كبيراً، ولا يوجد أحد لم يتعرض إلى هذا الاستجواب الالهي.
وإذن فإن الجميع قد حدث لهم مثل ذلك بحيث تتشكل محكمة داخل نفوسهم يقف فيها الإنسان متهماً ملوماً مدحوراً.
إن هذه الثنائية من خصوصيات الإنسان، وهي في الحقيقة ليست ثنائية أي أن الإنسان لا ينطوي على روحين أو نفسين إحداهما تحكم والأخرى محكومة، بل هناك تركيب عجيب يتألف من مجموعة غرائز وميول ينطوي عليها هذا المخلوق العجيب الذي يدعى (الإنسان).
لو أراد شخصان التعاون في إنجاز عمل ما فإنهما يتعاهدان على ذلك، وخلال مدة التعاون يراقب كل منهما الآخر، فإذا ظهر في نهاية العام وعند تسوية الحساب وضبط الوارد والصادر والربح والخسارة أنهما قد نجحا في عملهما وأن أحداً لم يرتكب خيانة أو خطأً ما، شد أحدهما على يد الآخر بحرارة، وإذا ما حصل العكس فإن المقصر سيتعرض في هذه الحالة إلى سيل من العتاب والتقريع واللوم ومن ثم العقاب.
إن مثل هذه الحالة يعيشها الإنسان في أعماقه باعتباره مخلوقاً ينطوي على مجموعة غرائز وميول مختلفة، وفي ظلال ذلك الجو الثنائي، إذا صح التعبير، ينشأ نوع من التعاهد والمراقبة، حيث تتم تسوية الحساب في نهاية كل عام بل وفي نهاية كل شهر أو كل أسبوع أو كل يوم، فإذا ما حصل خطأ في السلوك برز العتاب وبدأ التقريع واللوم.
ونوجز الموضوع بالتأكيد على ضرورة وجود المربيين خارج الوجود الإنساني، ولكن ذلك لا يعد كافياً للتأثير في تربيته ما لم يوجد مربّ وواعظ من نفس الإنسان 1.
1-المواعظ والحكم / الشهيد مطهري ص 25_28.