روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم : "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلى عَصَبِيَّة، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّة، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة"1.
1- مفهوم التعصّب ودوافعه:
التعصّب من مادّة عَصَبَ وهي في الأصل بمعنى الخيوط العصبية والعضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام والعضلات، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط الشديد الفكري والعملي الّذي يستبطن غالباً معنىً ومفهوماً سلبياً رغم وجود بعض العلائق الإيجابية أيضاً في مفهومها كما سيأتي تفصيله.
وبديهي أنّ التعلّقات غير المنطقية- بالنسبة إلى شخص ما أو عقيدة معيّنة أو شيء من الأشياء- تقود الإنسان إلى اللجاجة والتقليد الأعمى بالنسبة إلى ذلك الشيء أو الشخص، وبالتالي سيكون العامل المهم في بروز أنواع النزاعات والحروب والاختلافات المستمرة بين البشر. وكلّما تحرّك الإنسان على مستوى إزالة هذه التعصّبات من ساحة الحياة البشرية والمجتمع الإنساني فإنّ الناس سوف يتعاملون في ما بينهم من موقع العقل والمنطق والحوار الهادئ والهادف، وبذلك تزول الكثير من الاختلافات وأسباب النزاع ويعود الهدوء ليُخيّم على المجتمع الإنساني ويعيش الإنسان في حركته الاجتماعية بكلّ أشكال الطمأنينة والمحبّة والأخوة.
2- حُبّ الذّات والتعلّق الشديد بالأسلاف:
إنّ الإفراط في حبّ الذات يتسبّب في أن يتعلّق الإنسان بالأمور المنسوبة إليه بشدّة ويعتبرها جزءاً من شخصيته وكيانه ومن ذلك الرابطة مع الآباء والأجداد والتقاليد المرسومة في مجتمعه. وإنّ هذا التعلّق الشديد يؤدّي إلى نقل الكثير من الخرافات والقبائح إلى الأجيال الأخرى بذريعة حفظ الآداب والسنن والرسوم الاجتماعية وبالتالي سيخلق حجاباً يصدّ الإنسان عن أيّة معرفة جديدة وارتباط بالحقائق والواقعيات. وإنّ الدفاع الشديد عن القبيلة والعشيرة أحياناً يصل إلى درجة أنّ أسوأ أفراد القبيلة وأشنع الأعراف والسنن السائدة في هذه القبيلة تتحوّل في نظر الأشخاص المتعصّبين إلى إيجابيات كبيرة وامتيازات مهمة لهذه القبيلة، يجب الدفاع عنها ومناصرتها مهما كانت الأسباب والنتائج، في حين أنّ أفضل أفراد القبيلة الأخرى وأسمى الآداب والسنن في تلك القبيلة قد تكون هي الأسوأ والأقبح في نظر هذا الإنسان.
3- ذم التعصّب والفرقة:
إنّ الأضرار والخسائر الكثيرة المترتّبة على هذه الرذيلة الأخلاقية قد سوّدت صفحات التاريخ البشري وواجه الأنبياء والرسل بسببها مشاكل كثيرة في طريق هداية الناس إلى الله والحقّ وسُفكت بسببها الكثير من الدماء، وتحوّلت طاقات وإمكانيات البشر الكبيرة إلى سيل مخرّب بسبب الجهل والتعصّب، ولهذا ورد الردع عن التخلّق بهذه الصفة، والتلبّس بهذا السلوك، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَل مِنْ عَصَبِيَّة بَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أعراب الْجَاهِلِيَّة"2. وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الإيمان مِنْ عُنُقِهِ"3.
4- الآثار السلبيّة للتعصّب والعناد:
التعصّب والعناد هُما لازم وملزوم، ولهذا السبب أوردناهما تحت عنوان واحد، وقد ورد الكثير من الروايات في النهي عن التعصّب واللجاجة، منها:
ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : "إياك وَاللِّجَاجةَ، فَاِنَّ أولها جَهْلٌ وَآخِرَهَا نَدَامَةً"4.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : "اَللِّجَاجُ أكثر الاْشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ والآجل"5.
وفي حديث آخر عنه عليه السلام : "اَللِّجَاجُ بَذْرُ الشَّرِّ"6.
ومع ملاحظة هذه الروايات الشريفة يتّضح التأثير المخرّب لهاتين الرذيلتين الأخلاقيتين-التعصّب واللجاجة- في الحياة الفردية والاجتماعية للناس، بحيث إنّهما يدفعان الإنسان بعيداً عن الإيمان والإسلام ويجعلانه غريباً عن الأجواء الروحية المنفتحة على الله تعالى ويقودانه إلى الكفر والشرك والاقتداء بالشيطان وترك حبل الإيمان.
وإنّ الآثار السلبية للتعصّب والإصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى في الكثير من الموارد منها:
أ- عدم نصرة المظلوم، وذلك لأنّ الله تعالى أوجب معونة المظلوم ونصرته دون الظالم، روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة"7.
ب- تضييع حقوق الآخرين والاعتداء عليهم، وانتشار العداوة والبغضاء بين الناس.
ج- التعصّب يعني الارتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة أو عرف خاصّ كما سبقت الإشارة إليه، وهذا من شأنه أن يُسدل حجاباً سميكاً على عقل الإنسان وبصيرته يمنعه عن إدراك الحقائق وجوانب الخير والشرّ والمصلحة والمفسدة في الأمور وبالتالي يحرمه من العثور على طريق للحل والنجاة. ولهذا فهو لا يتمكّن من إدراك البديهيات وأوضح الحقائق بسبب تعصّبه وعناده.
د- إنّ العصبية والعناد بمثابة النار المحرقة الّتي من شأنها تمزيق العلائق الاجتماعية في المجتمع وتسلب منه روح الوحدة والإلفة وتنثر فيه بذور النفاق والفرقة وتقود الطاقات والقوى البنّاءة الّتي يجب أن تُصرف في سبيل إعمار المجتمع في حركته الحضارية باتجاه التضاد والصراع الذاتي فيما بينها، كما نقرأ هذا المعنى في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "اللِّجَاجُ يُنْتِجُ الْحُرُوبَ وَيُوغِرُ الْقُلُوبَ"8.
هـ- التعصّب والعناد يتسبّبان في ابتعاد الأحبّة والأصدقاء عن الإنسان وتبديل الصداقة إلى عداوة وتضاد.
و- التعصّب والعناد من الأسباب والعوامل المهمّة للكفر، وانطلاقاً من هذه الحالة نجد أنّ أكثر الشعوب والأمم السالفة وبسبب التعصّب والعناد كانت تسير في خطّ الباطل والكفر برسالات السماء والامتناع عن قبول الحقّ بدافع من المحافظة على السنن البالية والتقاليد الزائفة.
ز- التعصّب والعناء، يُفقدان الشخص توازنه في اختيار الأمور ويجرّانه إلى مواقع لا يرغب الولوج فيها، ولهذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "لاَ مَرْكَبَ اَجْمَحَ مِنَ اللِّجاجِ"9.
ح- إنّ التعصّب واللجاجة يخرّبان حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، لأنّهما يورثانه في حياته الدنيا العداوة والفرقة والأخطاء الكثيرة وفقدان الراحة والهدوء والاستقرار، وفي الآخرة يتسبّبان في ابتعاده عن رحمة الله، وهذا هو ما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام : "اَللِّجَاجُ أكثر الاْشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ والآجل".10
5- أسباب ومناشئ التعصّب والعناد:
هناك عومل وأسباب عديدة يمكن أن تدفع الإنسان باتجاه التعصّب واللجاج نختصرها بكلمة واحدة وهي الأنانية وحبّ الذات، لأنّ الشخص الأناني يحبّ كلّ ما لديه من العلائق والأمور أن تُنسب إليه وترتبط به حتّى على المستوى الأصول والتقاليد الخاطئة والعقائد الزائفة، ولذلك قد يظهر عصبية شديدة لما عليه قومه وقبيلته من التقاليد والعقائد ويقبل ما ورثه من آبائه من السنن والمعارف من دون أيّ تحرّك فكري واستقلال عقلي.
6- العصبية الممدوحة:
لا ريب أنّ العصبية الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهلية، أمّا التعصّب للحق، والدفاع عنه…، والتناصر على تحقيق المصالح الإسلامية العامة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن، وصيانة كرامات المسلمين وحماية أعراضهم وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزّة والمنعة للمسلمين، سُئل صلى الله عليه واله وسلم : ما العصبية ؟ قال: "أن تُعين قومك على الظلم"11، وعندما سُئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن معنى العصبية قال: "الْعَصَبِيّةُ الَّتِي يَأْثمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا أن يَرىَ الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخرِين! وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أن يُحِبَّ الرَّجُلُ قُوْمَهُ وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيّةِ أنْ يُعِينَ قُوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ"12. وطبقاً لهذا الحديث فإنّ العصبية الّتي يعيشها أفراد القوم أو القبيلة مادامت تسير في خطّ الخير والصلاح فهي إيجابية وممدوحة، لأنّ هذه العصبية والارتباط الشديد لا يدفع الإنسان إلى ارتكاب الممنوعات ولا يقوده نحو الخطيئة بل يُعمّق فيه أواصر المحبّة ويؤكّد وشائج المودّة بين الأفراد، أما التعصّب المذموم فهو أن يسحق العدالة.
ونقرأ في نهج البلاغة في الخطبة القاصعة لأمير المؤمنين عليه السلام إشارة إلى التعصّب المذموم حيث يقول: "فأطفئوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وأحقاد الْجَاهِلِيَّةِ، فإنّما تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِوَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ"13. ويقول الإمام عليه السلام في مكان آخر تبيانًا للتعصُّب الممدوح: "فَاِنْ كَانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأفعال، وَمَحَاسِنِ الأمور الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُوَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالاْخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ"14.
7- طرق علاج العصبية:
أ- إزالة الدوافع من النفس: إنّ الطريق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية يتطلّب في المرتبة الأولى الالتفات إلى الدوافع والجذور والسعي لإزالتها من واقع الإنسان وباطنه، ومن هذه الدوافع: الأنانية والإفراط في حبّ الذات كما أسلفنا، وانخفاض المستوى الثقافي، وضعف الشخصية، والعزلة الاجتماعية والفكرية، وأمثال ذلك... ولابدّ لإزالة هذه الصفة الرذيلة وتطهير النفس منها من الصعود بالمستوى العلمي والثقافي للأفراد والسعي للتعرّف على الأقوام والشعوب الأخرى والاطلاع على أفكارهم وعقائدهم، وكذلك الحدّ من حبّ الذات في شخصية الإنسان وقلع الميول والاتجاهات المضرة في نفسه والّتي تورثه التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى.
ب- الالتفات إلى آثارها السلبية: وكذلك يجب الالتفات إلى الآثار السلبية للعصبيّة من أجل إصلاح النفس وتهذيبها وتطهير القلب من هذه الشوائب والأدران المحيطة بها، وكذلك من شأنه أن يمزّق العلائق الاجتماعية بين أفراد المجتمع ويبذر بذور النفاق والاختلاف والفرقة بينهم، ويُفضي إلى الشقاء والتعاسة ويورث الإنسان التعب والدرك وحتّى أنه قد يؤدّي به إلى الانزلاق في دوّامة من المشاكل لم يكن يتوقّعها أبداً. فمعرفة هذه الأمور من شأنها أن تقلّل من شدّة العصبية والعناد وتساعد الإنسان في النزول عن مركب الغرور والتعصّب والتقليد الأعمى.
ج- التسليم للحق: النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى هو التسليم للحقّ الّذي يُعدّ من الفضائل الأخلاقية المهمة، أي أنّ على الإنسان أن يقبل بالحقّ من أيّ شخص كان حتّى لو رآه أبعد الناس وأصغرهم فيسلّم له. وهذه الفضيلة الأخلاقية هي السبب في التقدّم العلمي والتطوّر الحضاري للبشرية وتورث الإنسان الحصانة من الوقوع في الضلالة وسلوك طريق الباطل.
ولا يتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة إلاّ أهل الإيمان والصالحون من الناس والّذين يبتعدون عن الإفراط في حبّ الذات والتعلّقات القومية الذميمة ويجتنبون الميول الذاتية. فإنّ التسليم للحقّ هو من علامات الإيمان، وسلامة الفكر والروح، وارتفاع المستوى الثقافي لدى الإنسان، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الخصلة الحميدة مخاطباً النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم :﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً﴾15.
ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾16.
وطبعاً فإنّ التسليم بعنوان فضيلة أخلاقية يُستعمل على معنيين:
• أحدهما: للحقّ والّذي يقع في النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى.
• والآخر: هو التسليم للقضاء والقدر الإلهيين فيعيش الإنسان حالة الشكر والرضا بما قسم الله ولا يعيش السخط والكفران.
* كتاب قوا أنفسكم وأهليكم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1-الأميني، الغدير،ج6،ص189.
2-الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 308، باب العصبية.
3-الكليني، أصول الكافي، ج2، ص307.
4-بحار الأنوار،ج74، ص67.
5- النجفي، موسوعة أحاديث أهل البيت، ج10، ص23.
6- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص38.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص292.
8- أصول الكافي، ج 2، ص 308.
9- الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص540.
10-غرر الحكم، ص 463.
11-البيهقي، السنن الكبرى، ج10، ص234.
12-أصول الكافي، ج 2، ص 308، باب العصبيّة، ح 7.
13- نهج البلاغة، الخطبة 192 من الفقرة 22 إلى 23.
14- نهج البلاغة، الخطبة 192، الفقرة 76 إلى 79.
15- النساء، 65.
16-الأحزاب، 36.