تمهيد
يقول الله تعالى في محكم آياته وفصل خطابه وعظيم قرآنه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾1.
تتحدّث الآية الكريمة في مطلعها عن الاستقامة, واصفةً ثلّةً من المؤمنين بأنّهم آمنوا بالله, ثمّ استقاموا، وفسّر العلماء الإستقامة ها هنا بالعمل على مقتضى الإيمان بالله تعالى ونبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام, أي على هداهم وما أمروا به عن الله تعالى.
ثمّ ذكرت الآية الشريفة ما أعدّ لهم الله تعالى على الإيمان والاستقامة، وذكرت فضل الدعوة لله تعالى والعمل الصالح، ومن ثمّ ذكرت أمراً في غاية الأهمّيّة، وهو الشاهد الأهمّ الذي سنسلّط الضوء عليه، ألا وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
آثار الإحسان والإساءة
في نظرة دقيقة لهذه الكلمات النورانيّة، نستشفّ منها إشارات هي لبُّ الأخلاق، وأساس الفضيلة، منها
1- إنّ الحسنة والسيّئة وإن كانتا من ناحية إرادة الإنسان أمرين يصدران بالإختيار، إلّا أنّهما من جهة الأثر مختلفتان.
فالحسنة والسيّئة لا يمكن أن يُنظر إليهما في علم الأخلاق على أنّهما مجرّد فعلين صادرين عن إنسان مختار، يمكنه أن يفعل ما يحلو له، بل ينبئان عن مسلك اجتماعيّ يختاره الإنسان، وعن أثر يتركه اختيار أحد هذين المسلكين.
فالحسنة وإن كانت تعود بالنفع الأخرويّ على صاحبها بالدرجة الأولى، إلّا أنّ لها أثراً لا يمكن التغافل عنه في الدنيا، وهو التأثير في المحسن إليه، حتّى ولو لم يكن من البشر، بل من ذوي الأرواح، فحتّى الإحسان للشجرة من خلال تشذيب أطرافها وتجميلها، يترك فيها أثراً ظاهراً، وكمالاً في حسن نموّها وحسن مظهرها.
وكذلك الإساءة لا يمكن التغافل عن أثرها على المُساء إليه، ولو كان من غير البشر أو ذوي الأرواح، فحرق الشجرة - وهو عدوانيٌّ - يدمّر مظهرها، ويمنعها من النموّ، ويحرمها من الثمر.
2- إنّ قدرة المرء واختياره وإرادته المتعلّقة بفعل الخير والشرّ واحدة، وحينما يتحرّك باتجاه العدوان فإنّه لا يقصد الأذيّة غالباً, بل يقع في الخطأ، أو تحت تأثير ضغط الرغبات النفسيّة الجامحة, وإلّا فإنّ لديه نزعة لحبّ الخير والإحسان.
أمّا المتحرّر من قيود الأخلاق، والمفرط في إتباع الهوى وشهوات النفس، فإنّه - ومن خلال الأنانيّة التي تتحكّم بمجمل تصرّفاته - يتسبّب بالأذى المقصود لكلّ ما يحيط به، وهذا ما لا يحتاج إلى استدلال، بل ما يرى في واقع الحياة.
ولكنّ هذين التصرّفين في نهاية المطاف، خاضعان لإرادة الإنسان، ففي الحديث القدسيّ: "يا ابن آدم، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعاً، بصيراً، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك"2.
أي بمحض اختيارك وسوئه أيضاً، فلم يجبرك أحد على اقتراف المحاذير، بل إنّ فطرتك السليمة محبّة لعمل الخير، ولكّنك بسبب أنانيّتك وحبّك لإشباع رغباتك تسبّبت بالأذى، وتركت الهداية، وغرقت في عالم المعاصي.
وقوله تعالى في آخر الآية: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، لأدلّ دليل على أنّ الإنسان يعلم في النهاية ما هو الحسن، من خلال عقله وفطرته السليمة.
كفّ الأذى هو الأخلاق
إذا كانت الإساءة والإحسان بمقدور المرء، وهما خاضعان تحت سلطان إرادته، فإنّ على كلّ ذي لبّ وعقل أن يختار الحسن, وأن يترك ما تدعوه إليه غريزته وهواه، وهذا ما أشار إليه الكثير من علماء الأخلاق، يقول المولى المازندراني رحمه الله: "الأذى لفظ شامل لجميع أنواع الخصال المذمومة، مثل الضرب والشتم والهجو والغيبة والتهمة وغيرها، وإنّما كان كفّ الأذى من كمال العقل، لأنّ العاقل يعلم أنّ الغرض الأصليّ، من الخُلق هو الوصول إلى جناب عزّته، والطيران في حظاير قدسه بأجنحة الكمال مع الملائكة المقرّبين, وأنّ ذلك كما يتوقّف على عبادة الرحمن، كذلك يتوقّف على كفِّ الأذى عن الإخوان، فكما أنّ صرف الهمّة في العبادة من كمال العقل، كذلك صرف النفس عن الأذى"3.
الأذى غريزة حيوانيّة
لأنّ الحيوان لا تتحكّم به سوى الغرائز، فغريزة حبّ البقاء لديه تدفعه للحفاظ على حياته، وتناول الطعام الذي يقويّه، وكذلك تدفع للتناسل،إلّا أنّ الحيوان لا تقف أمام رغبته أيّة عثرة، لأنّه حين ذاك سيقوم بتذليلها، وتحطيم كلّ من يعترض طريقه في سبيل تحقيقها، ولذا نرى البهائم تتعارك فيما بينها لأجل الحصول على الأنثى، والطعام والوفير، والسيطرة على القطيع إذا كانت من النوع الاجتماعي.
ولأنّها لا تمتلك العقل، فإنّها لا تُلام على تصرّفها، ويعتبر عدوانها على بني جنسها أمراً عاديّاً غير مستنكَر، بخلاف الإنسان، فإنّه ذو عقل يستطيع من خلاله كبح حالة العدوانيّة التي تعتريه، حينما تقف السدود أمام رغباته وتحقيقها، وهذا ما يميّزه عن البهائم، ولهذا يُلام الإنسان وتقام النظم لمحاسبته في حالة عدوانه، ولهذا عدّ الإنسان "المؤذي بمنزلة البهائم والسباع، عارياً عن حلية العقل، ويعلم أيضاً أنّ ترك الأذى يوجب التعاون والتعاطف والتراحم، والتواصل والتظاهر والتآخي، والتآلف والتودّد والاجتماع"4.
تنوّع الأذى
يتخيّل البعض أنّ الأذى هو أن تقدم على أذيّة أخ لك في الإنسانيّة، ويحصر المفهوم الواسع له بهذا المثال الصغير.إلّا أنّ الأذى هو أعمّ من هذا المعنى، وهو واسع بسعة الكون.
فبدءاً من الأذى للأنبياء والرسل، ومروراً بأذى الناس، والأذى الاجتماعيّ العامّ، وأذى البيئة والطبيعة، وصولاً إلى أذى النفس.
هذه الأنواع المتعدّدة من الأذى، تتفرّع منها عناوين كثيرة، وسنتعرّض في الأبحاث اللاحقة بشكل تفصيليّ لهذه التصرّفات، ونسلّط الضوء عليها من خلال استفادتنا من كتاب الله تعالى، والروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآل البيت عليهم السلام.
ارحموا ثلاثاً
إنّ الإسلام هو دين الرحمة، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾5. فمن الطبيعيّ أن نلاحظ في كلّ التشريعات التي جاء بها هذا الحرص والتأكيد على كفّ الأذى، كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مثالاً عالياً للرحمة والتسامح والعفو، فحينما فتح مكّة عفا عن أهلها الذين طالما آذوه وطردوه منها، وشنّوا الحروب والمؤامرات عليه، وأمرنا دوماً بالعفو، ومن تعليماته المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحموا ثلاثاً، وحقّ لهم أن يرحموا: عزيزاً ذلّ من بعد عزّه، وغنيّاً افتقر من بعد غناه، وعالماً ضاع ما بين الجهّال"6.
وكذلك كان أهل بيته عليهم السلام ينابيعَ يتفجّر منها الحلم والرحمة، وقد وصف الله تعالى رحمتهم للخلق وإيثارهم للناس على أنفسهم في سورة الدهر، وهم يجسّدون أعظم أنواع الرحمة الإنسانيّة حينما باتوا جياعاً وقد أعطوا كفاف يوم صومهم وإفطارهم لمسكين في اليوم الأوّل، وليتيم في اليوم الثاني، ولأسير في ثالث الأيّام، فقال فيهم جلّ وعلا: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾7.
وهذا إمامنا الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، يبكي على قاتليه يوم عاشوراء، شفقة منه عليهم، ورحمة بهم لما سينالهم من الغضب الإلهيّ، فأيّ نماذج إنسانيّة أرقى من هذه النماذج التي لم تكفّ أذاها فقط، بل ارتقت لتملأ الدنيا بالخير، وتعمرها بالرحمة، وتهديها إلى سبل الكمال.
* كف الأذى. تأليف مركز نون للتأليف والترجمة. نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى شباط 2010م- 1431هـ. ص: 7-14.
--------------------------------------------------------------------------------
1- فصّلت:30–34.
2- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 160.
3- شرح أصول الكافي - مولي محمّد صالح المازندراني - ج 1 ص 195.
4- م.ن.
5- الأنبياء: 107.
6- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 74 ص 140.
7- الإنسان: 7–9.