"إنّ جميع الأنبياء الذين بعثوا من قبل الله سبحانه بين البشر كانوا يسعون وراء هدفين رئيسيين:
الهدف الأول: هو إقامة علاقة صحيحة بين البشر وبين الله ربّهم، وبعبارة أخرى: تخليص البشر من عبادة كلّ موجود سوى الله تبارك وتعالى وهو ما يتلخّص في هذه الكلمة الطيّبة "لا إله إلا الله".
والهدف الثاني: هو إقامة علاقات سليمة بين البشر أنفسهم على أساس العدل والإحسان والسلام والمحبّة والتعاون وخدمة بعضهم البعض.
والقرآن الكريم يبيّن هذين الهدفين حيث يقول فيما يتعلّق بالأوّل وهو يخاطب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ ويقول موضحاً الهدف الثاني: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. وهكذا نرى أنّ القرآن يقرّر أصل القسط والعدالة في بناء المجتمع البشريّ، ويعتبر العمل بهذا الأصل أحد الأهداف الرئيسيّة لجميع الرسالات السماوية.
وسؤالنا هنا: هل سيأتي يوم على البشرية ترى فيه تطبيق العدالة الكليّة الشاملة، بحيث لا يبقى أي أثر بين النّاس لأنواع الظلم والجور، والاستغلال والحقد والكراهية، والحروب وسفك الدماء، ولا يبقى أثر لما يلازم هذه الأمور من الرذائل الأخلاقية، كالكذب والنفاق والخداع والطمع والبخل.. إلخ؟ أم أنّ ذلك مجرّد وهم وخيال لن يتحقّق في يوم من الأيام أبداً؟
قد نجد بين المسلمين المتديّنين من يقول: أنا لا أنكر العدل الإلهيّ وأنّ الله سبحانه خلق كلّ شيء على أساس العدل، ولكنّي أعتقد أنّ دنيانا هذه بلغت درجة من الدناءة والانحطاط، وترسّخت جذور الظلم فيها، بحيث أصبح من المستحيل تطبيق العدالة الواقعيّة بين النّاس، وبالتالي سيادة السلام والمحبّة والإنسانية الحقيقيّة في هذه الدنيا. فالدنيا هي دار الظلم، والعدل الكلّي والتامّ يختصّ بالآخرة فقط حيث يتمّ هناك جبران الظلم الذي وقع في الدنيا، وردّ الحقوق إلى أصحابها. وتوجد هذه الفكرة المتشائمة على نطاق أوسع بين غير المسلمين أهل الأديان السماويّة.
ولكنّ الميزة الأساسيّة للعقيدة الإسلامية - وخصوصاً من وجهة نظر الشّيعة - هي نفي التشاؤم عن البشر، وبيان أنّ عهد الظلام بما فيه من ظلم وجور وبغي، وانحراف فكري وفساد أخلاقي، وما يستتبع ذلك من حروب ونزاعات واختلافات، إنّما هو عهد مؤقّت، حيث سيعقبه عهد النّور، فتصلح الدنيا وتسود العدالة الحقيقية فيها ويقوم النّاس بالقسط.
وإذا تأملنا في القرآن الكريم، فإنّنا نجده يعطي هذه البشارة، حيث يقرّر أنّ مستقبل البشرية في هذه الدنيا هو طيّ بساط الشّر والظلم ومجيء عهد الخير والعدل. وهذه واحدة من الآيات التي تبيّن، ذلك: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ وهنا يعطي الله سبحانه وعداً قاطعاً لأهل الإيمان والعمل الصالح بأنّ العاقبة في هذه الدنيا سوف تكون لهم، وأنّ الذي يحكم العالم في النهاية هو شعار (لا إله إلّا الله) ودين الله بكل ما فيه من المعنويات والقيم الصحيحة وعلى رأسها العدالة الحقيقة والتامّة.
وأما التوجّه المادّي، وعبادة المادّيات والأنانيّات وسائر القيم المنحرفة، فسوف يكون مصيرها الزّوال من بين المجتمعات البشرية.
وهكذا نستخلص من القرآن الكريم هذه الفكرة وهي أنّ مسألة التطبيق العمليّ للعدالة الكلّية الشاملة ليست مجرّد أمانيّ وخيالات وهمية، وإنّما هي حقيقة تسير الدنيا باتّجاهها لأنّها سنّة إلهية لا بدّ أن يجريها الله تعالى، فيحكم العدل في هذه الدنيا قروناً وقروناً من الزَّمان لا ندري كم هي، يكون الإنسان فيها قد بلغ رشده وتكامل معنوياً بحيث أصبح ينفر بطبعه الفطريّ السليم من الظلم وكلّ أنواع الظلمات المعنويّة.
وبحثنا هنا يدور حول الأساس الذي يستند إليه الإسلام عندما يقرّر أنّ العدالة الشاملة الكليّة سوف تتحقّق في هذه الدنيا. ولبيان ذلك يلزم أن أقوم فيما يلي بشرح النقاط الثلاث التالية:
الأولى: ماهيّة العدالة.
والثانية: هل يوجد ميل في فطرة البشر نحو العدالة أم أن الإنسان ينفر منها بفطرته وطبيعته؟ وإذا كان لها أن تطبّق في وقت ما فلا يكون ذلك إلا بالإكراه والإجبار؟
والثالثة: هل أنّ العدالة الكليّة التامّة شيء عمليّ أم هي مجرّد فكرة مثالية؟ وإذا كان لها أن تطبّق عمليّاً فبأيّ وسيلة يكون ذلك؟؟
تعريف العدالة
قد لا تكون هناك حاجة لتعريف العدالة، فالبشر على أيّ حال يعرفون جيداً ما هو الظلم، وما هي التفرقة والتمييز. والعدالة ما هي إلا النقطة المقابلة لهذه الأشياء. وبعبارة أخرى، فإن النّاس بحسب خلقتهم واستعداداتهم الفطرية، وكذلك بحسب النشاطات والأعمال التي يقومون بها يتمتعون باستحقاقات معيّنة، والعدالة هي أن يعطى كلّ ذي حق حقّه، بعكس حبس الحقوق عن أصحابها، وبعكس التفرقة، وهي عدم المساواة في المعاملة بين الأفراد الذين يتمتعون بنفس المؤهلات والاستعدادات ويقومون بنفس الأعمال.
وقد وجد قديماً بين البشر - امتداداً من عهد الفلاسفة اليونانيين الأوائل إلى سائر العهود الأوروبية اللاحقة - أفراد ينكرون واقعيّة العدالة وكونها أمراً طبيعياً في المجتمع البشريّ، ويقولون إنّ العدالة هي ذلك الشيء الذي يقرّره القانون الحاكم وتفرضه القوّة.
ولكنّ هذه الفكرة غير صحيحة بالمرّة، فالعدالة لها واقعية لا يمكن إنكارها، لأن العدالة تابعة للحقّ، والحقّ له واقعيّة يكتسبها من أصل الخلقة، فكلّ موجود يتمتّع في أصل خلقته وتكوينه بصلاحيات واستحقاقات معيّنة، والإنسان - إضافة إلى ذلك - يكتسب استحقاقات أخرى بأعماله ونشاطاته، وليست العدالة أكثر من أنْ يأخذ كل ذي حقّ حقّه الطبيعيّ بدون زيادة ولا نقصان. والذي يساعد على ذلك أنّ الطبيعة التي خلقها الله سبحانه، فيها متّسع للعدالة بما أودع فيها من الإمكانات الوفيرة والخيرات الكثيرة، والذين ينكرون واقعيّة العدالة يتوهّمون أنه لو أعطيت الحقوق إلى أصحابها فلن يكفي مخزون الطبيعة لذلك.
هل حبّ العدالة والرغبة فيها شيء فطريّ؟
إنّ الإنسان بفطرته وتكوينه، يحبّ أشياء في الحياة، ولا يملك دليلاً لذلك سوى تركيبه النفسيّ والروحيّ، ومثال ذلك حبّه للجمال، فالإنسان عندما يرى نفسه أمام شيء جميل فإنّه لا يملك إلّا أن يعجب به وينجذب إليه بدون أن تجبره قوّة من الخارج على ذلك. وقس على ذلك حبّ العلم وحب الفضائل الأخلاقية كالشجاعة والبطولة والأمانة والوفاء.. إلخ. فهل أن الميل إلى العدالة سواء الفرديّة أو الاجتماعية بغضّ النظر عن حصول المنفعة الشخصيّة جزء من المطالب البشرية؟ وهل يوجد شيء كهذا في فطرة البشر أم لا؟
نظريّة (نيتشه) و(مكيافيللي)
يعتقد أكثر الفلاسفة الأوروبيّين بأنه لا يوجد في فطرة البشر أي ميل نحو العدالة. وقد جرّت فكرتهم هذه الدنيا في نهاية المطاف إلى الدمار، فهم يقولون: إن العدالة من اختراع الضعفاء والعاجزين، وذلك من أجل مواجهة الأقوياء، فهم يدّعون أنّ العدالة شيء حسن، وأنّ الإنسان ينبغي أن يكون عادلاً في تعامله مع الآخرين، وهذا كلام فارغ بدليل أنّ الذين يدافعون عن العدالة ويدعون إليها، ما إن يمتلكون القوة حتّى يفعلوا نفس ما فعل الأقوياء من قبلهم. يقول الفيلسوف الألماني (نيتشه): كم حدث لي أن ضحكت عندما كنت أرى الضعفاء يتحدثون عن العدالة ويطالبون بها، وكنت أقول لهم: أيّها المساكين، لو كنتم تملكون مخالب لما تفوّهتم بمثل هذا الكلام أبداً!
وهؤلاء الذين لا يؤمنون بأنّ العدالة جزء من الأمور المودعة في طبيعة البشر وفطرتهم ينقسمون إلى فريقين: ففريق يقول إنّه لا ينبغي للإنسان أن يسعى وراء العدالة حتّى ولو بعنوان أمنية من الأماني، بل ينبغي أن يسعى وراء القوّة لا غير. ويأتون بمثلٍ على فكرتهم مفاده أنّ (القرن القصير أفضل من الذنب الطويل) ويرمزون بالقرن هنا إلى القوّة، بينما يرمزون بالذنب إلى العدالة. ومن هذا الفريق (نيتشه) و(مكيافيللي).
نظرية (برتداند رسل)
والفريق الآخر لا يوافق على ذلك بل يقول: ينبغي السعي وراء العدالة، ولكن ليس بصفتها هدفاً، بل لأنّ مصالح الفرد توجد فيها. ومن هؤلاء (برتراند رسل) الذي يدّعي بهذا النمط من التفكير أنّه - أيضاً - من أنصار الإنسانية وحبّ الإنسان، وهو مجبور على مثل هذا الادّعاء لأنّ فلسفته توجب عليه ذلك.
يقول هذا الفيلسوف البريطاني: إنّ الإنسان مفطور بطبيعته على حبّ المصلحة الشخصيّة، وهذا شيء مفروغ منه ولا يقبل أيّ نقاش.. إذن فماذا ينبغي أن نفعل من أجل تطبيق العدالة وسيادتها في المجتمع؟ إنّنا لا يمكننا أن نفرض العدالة فرضاً على النّاس لأنّ طبيعتهم وفطرتهم لا تتلاءم مع ذلك. نعم يمكننا أن نعمل شيئاً آخر، وهو أنْ نقوم بتنمية عقل الإنسان وتقوية علمه إلى أن يصل إلى مرحلة نستطيع أن نقول له فيها: أيها الإنسان، صحيح أنّ المصلحة الشخصيّة هي التي تمتلك الأصالة في الحياة، وليس لأحد أن يحاول صرفك عن السعي وراءها. ولكن اعلم أنّ مصلحتك الفرديّة لا يمكن تأمينها إلا عن طريق إيجاد العدالة في المجتمع، ذلك أنّك لا تمتلك دائماً من القوّة في مقابل الآخرين ما يتيح لك الحصول على كلّ ما تريد عن طريق البغي والعدوان، لأنّهم سوف يردّون على اعتدائك وبالتالي فبدل أن تحصل على المنفعة فسوف تصاب بالضرر.
نقد هذه النظريّة:
واضح أنّ هذه النظرية ليست سليمة، لأنّها تصدق على الضعفاء - فقط - دون الأقوياء. والعلم في هذه النظرية يدفع الفرد إلى الالتزام بالعدالة من أجل تأمين مصلحته الشخصيّة فقط، فإذا امتلك القدرة والقوّة التي تؤمّن حصوله على مصالحه الشخصيّة بطريقة مباشرة، فإنّ معنى العدالة ينعدم تماماً بالنسبة له في هذه الحالة. ولهذا فإنّ فلسفة (برتراند رسل) على النقيض من كلّ شعاراته الإنسانية، تعطي الحقّ لكل الأقوياء من الدرجة الأولى والذين لا يشعرون بأيّ خوف من الآخرين، في أن يرتكبوا بحقّهم ما شاء لهم من الظلم والعدوان.
النظرية الماركسية
يذهب الماركسيّون إلى أنّ العدالة شيء عمليّ، ولكنّها لا يمكن أن تتحقّق عن طريق الإنسان ذاته، لأنّه لا يملك القدرة على إقامة العدالة.. فلا يمكن تربيته بحيث يكون راغباً في العدالة وطالباً لها بمعنى الكلمة، ولا يمكن تنمية عقله وعلمه إلى الحدّ الذي يرى فيه أنّ مصلحته الشخصيّة إنّما توجد في العدالة. إذن كيف تتحقّق العدالة؟ إنّها لا تتحقّق إلّا بواسطة (آلهة) الآلة والماكينة. وبتعبير آخر: أيّها الإنسان.. ليس لك أن تطلب العدالة وتسعى وراءها، فهذا ليس من شأنك. وإذا تصوّرت أنّه يمكنك أن تصبح عادلاً فهذا تصوّر كاذب، لأنّك بطبيعتك لست محبّاً للعدالة، وإذا فكّرت بأنّ عقلك يمكن أن يرشدك في يوم من الأيام إلى طريقة لتطبيق العدالة عمليّاً فهذا تفكير باطل، لأنّ الآلة وحدها هي التي تستطيع أن تقود البشر إلى تطبيق العدالة بصورة تلقائية. فالتطوّرات التي تحدثها الوسائل الاقتصاديّة والإنتاجية توصل البشرية إلى دنيا الرأسمالية أولاً، ثمّ يتمّ الانتقال بعد ذلك بصورة طبيعيّة إلى دنيا الاشتراكية حيث تقوم الآلة بإقرار المساواة والعدالة في المجتمع بصورة جبريّة، شاء النّاس أم أبوا، (طبعاً، أثبتت التجارب والأحداث فيما بعد، أن كثيراً من الحسابات التي توصّل إليها الماركسيّون كانت خاطئة وغير عمليّة بالمرّة).
النظريّة الإسلامية
أمّا النظريّة الإسلامية فترى أنّ جميع تلك الأفكار والفلسفات إنّما هي نوع من التشاؤم وسوء الظن بطبيعة البشر وفطرته، فإذا كانت البشريّة اليوم تهرب من العدالة، فذلك لأنّها لم تصل إلى مرحلة الكمال بعد. فالعدالة مرتكزة في أصل خلقة البشر. وإذا رُبيّ الإنسان بصورة صحيحة وعلى يد (مربّ كامل) فإنه حتماً يصل إلى مرحلة يصبح فيها طالباً للعدالة بنفسه وبصورة واقعية، بحيث يفضّل العدالة الجماعيّة على المصلحة الشخصيّة، ويصبح حبّ العدالة عنده شيئاً نابعاً من ذاته كحبّ الجمال مثلاً يندفع إليه بكلّ وجوده بدون أن يجبره أحد أو شيء على ذلك.
والواقع أنّ العدالة من مقولات الجمال ومصاديقه، الجمال المعقول وليس المحسوس طبعاً ويخطئ الذين يزعمون أنّ الإنسان بفطرته ليس مريداً للعدالة ولا طالباً لها، وأنّه لا يتقبّلها إلّا أن تُفرض عليه فرضاً، أو يدّعون أنّ عقل البشر يجب أن يصل إلى مرحلة يرى فيها مصلحته الشخصيّة في العدالة، بصورة تلقائية دون أن يكون للإنسان أيّ دور في ذلك.
كلّا فهناك أفراد بين البشر أثبت التأريخ أنّهم كانوا يتمتّعون بصفة العدل وحبّ العدالة بدون أن يجبروهم شيء على ذلك، أو يكون حافزهم تأمين منافعهم الذّاتية، بل على العكس من ذلك فكثيراً ما دفعتهم هذه الصفة إلى مخالفة هذا الحافز والعمل في اتّجاه مضادّ له. فالعدالة عندهم فكرة وأُمنية وهدف، بل هي أشبه بمحبوب يعشقونه ويضحّون بأنفسهم في سبيله. وهؤلاء كانوا نماذج للإنسان الكامل في العصور السابقة، وإذا لم يمكن الوصول إلى درجتهم في هذا المجال، فعلى أيّ حال يمكن لأيّ فرد أن يكون نموذجاً مصغراً لهم.
لقد كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام واحداً من أبرز وأشهر تلك النماذج الرائعة، حيث استطاع عمليّاً أن يثبت بطلان كلّ الفلسفات التي تدّعي أنّ العدالة شيء غريب عن فطرة الإنسان. وعندما نضرب مثالاً بأمير المؤمنين عليه السلام فلا يتصوّر البعض أنّ هذا الأمر منحصر في شخص واحد فقط، كلّا، فقد كان عليه السلام أستاذاً لمدرسة تلّقى فيها الكثيرون دروس العدالة وتخرّجوا منها بتفوّق، وساروا على هذا النهج طيلة حياتهم. كما أننا نرى في كلّ العصور والأزمنة، وحتّى في زماننا هذا، أفراداً يؤمنون بالعدالة بصورة واقعيّة، وقد مُزجت فطرتهم بحبّها مزجاً، وسوف يكون إنسان العصور القادمة أيضاً كذلك.
التطبيق العمليّ للعدالة الكلّية وكيفيّته
من البديهيّ أنّ العدالة شيء عمليّ وقابل للتطبيق، لأنها تتلاءم مع فطرة الإنسان أولاً، وتنسجم مع قوانين الكون والطبيعة ثانياً. ولكنّ تحقيق هذا الأمر يحتاج إلى وضع برنامج صحيح والإشراف على إجرائه وتنفيذه بدقّة وكفاءة عالية، ولن يتمّ بصورته الكاملة إلّا في عهد صاحب الزَّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف فهو ذلك (المربّي الكامل) الذي تنتظره البشرية جمعاء لترى تطبيق العدل الكليّ والعدالة الشاملة على يديه.
والغريب في الأمر أنّ هناك الكثيرين ممّن يتصوّرون أنّ مسألة ظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف هي مسألة مساوية لانحطاط العالم وتقهقر البشريّة. ولكنّ القضية على العكس من ذلك، فهي عنوان الرقيّ الفكريّ والأخلاقيّ والعلميّ للبشر، وذلك بحكم كلّ الشواهد والأدلّة التي وصلت إلينا عن طريق ديننا الذي يُحدّثنا عن موضوع ظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وسيادة العدل الكليّ الشامل في طول الدنيا وعرضها.
ففي أحاديث "أصول الكافي" نقرأ أنّه عندما يظهر الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنَّه يمسح بيده على أفراد البشر فتزداد عقولهم، كما يزداد فكرهم وعملهم، بعد أن تُنزع من نفوسهم طبيعة الشرّ والعدوان، ويكون هناك في الدنيا الرُقيّ الحقيقي، والتكامل الواقعي للإنسان"1.
1- العلامة الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، أصالة الروح، ص200-212.