﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾.
قد يثير هذا العنوان (دولة الإمام) شيئاً من التساؤل حول التطرق لموضوعه، وبخاصة وان دولة الإمام المنتظرعليه السلام بعد لما تقع، ولما تعش الواقع التاريخي..
فلما هذا الحديث حول الموضوع إذن؟!
بيد أن طبيعة مخطط الموضوع (في انتظار الإمام) حسبما رسمته منهجة البحث، تتطلب ذلك بالنظر إلى النتيجة التي سأنتهي إليها في حديثي الآتي حول (انتظار الإمام) وهي: الإلزام بمسؤولية التمهيد لدولة الإمام المنتظر عليه السلام.
ومن الواضح: أن التمهيد للدولة يتطلب - طبيعياً - التعرف عليها ولو مجملاً:
دولة الإمام هي دولة الإسلام
إن دولة الإمام المنتظر عليه السلام هي دولة الإسلام.. تلك الدولة التي تتجسد في واقعها الموضوعي تطبيقات التشريع الإسلامي كاملة عادلة، وفي مختلف مجالات الحياة: لدى الفرد، وفي الأسرة، وفي المجتمع، وفي الدولة..
والتي تمثلت في حكم نبينا محمد صلى الله عليه وآله، حينما أقام الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
بين دولة النبي ودولة الإمام:
وهنا.. قد يتساءل: إن الظروف - زماناً ومكاناً - التي عاشتها دولة النبي صلى الله عليه وآله، وأحاطت بها، ولابستها، ربما اختلفت وظروف دولة الإمام المنتظر عليه السلام، ألا يستدعي هذا النوع من الاختلاف، شيئاً من الاختلاف بين الدولتين؟..
وهو تساؤل ينطوي على كبير من الوجاهة، وبخاصة وأن التشريع الإسلامي المدوّن لم يحتو في الكثير من أنظمته التفاصيل الوافية في بيان وسائل وأساليب التطبيقات للأحكام التشريعية في مجال الدولة.. ولم يتضمن في كثير من مواده - دستورية ونظامية - إلاّ الأحكام الكلية والخطوط العامة.
وإن الحياة قد قفزت في تطوراتها المدنية، قفزات هائلة وبعيدة، عادت معها تلكم الوسائل والأساليب للقرون السالفة غير ذات أهمية ونفع.
أقول: إنه تساؤل وجيه لما تقدم.. غير أننا متى أدركنا أن للإمام وظيفة التشريع كما هي للنبي، وليست المسألة لديه مسألة اجتهاد قد يصيب الواقع وقد يخطئ.. وإنما هي مسألة إدراك الأحكام الشرعية بواقعها1.
ولعله إلى هذا تشير الأحاديث المتضمنة دعوة الإمام المنتظر عليه السلام الناس إلى الإسلام جديداً، وهديهم إلى أمر قد دثر فضلّ عنه الجمهور2. إننا حينما ندرك ذلك لا يبقى لدينا أي مجال لأمثال هذا التساؤل..
على أن الوسائل والأساليب خاصة، هي موضوعات، والموضوعات تختلف تبعاً لتطور الحضارة والمدنية، فتتغير أحكامها وفقاً لتغيرها.. وتغير الحكم تبعاً لتغير الموضوع شيء طبيعي في كل تشريع، إسلامي أو غير إسلامي.
نعم.. هناك فرق واحد بين دولة النبي صلى الله عليه وآله ودولة حفيده الإمام المنتظر عليه السلام، يرجع إلى طبيعة الظروف أيضاً، ومساعدتها في إعداد الأجواء الكافية للتطبيق، وهو في اتساع نفوذ الدولة السياسي.. .
ففي دولة النبي صلى الله عليه وآله لم يتسع نفوذها السياسي اتساعاً يشمل كل العالم، وإن كانت دولة النبي صلى الله عليه وآله عالمية في أهم خصائصها، إلا أن الأجواء الاجتماعية والسياسية آنذاك لم تواتها ظروفهما لتحقيق عالميتها.
عالمية النفوذ السياسي
أما في دولة الإمام المنتظر عليه السلام، فالذي نقرأه في الأحاديث التنبؤية عن المعصومين عليهم السلام: إنها سيشمل نفوذها السياسي العالم كله، تحقيقاً لوعد الله تعالى بعالمية الإسلام، في أمثال الآية الكريمة التالية:
1- (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون).
2- (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض وليمكّننّ لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم مّن بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).
3- (هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
ففي المروي عن الإمامين زين العابدين والباقرعليهما السلام: (إن الإسلام قد يظهره الله على جميع الأديان عند قيام القائم عليه السلام).
وفي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام: (لم يجيء تأويل هذه الآية (يعني قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً﴾ ولو قد قام قائمنا سيرى من يدركه ما يكون تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمد صلى الله عليه وآله ما بلغ الليل).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: (إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله).
وليست عالمية النفوذ السياسي هي وحدها أبرز معالم دولة الإمام المنتظر عليه السلام فهناك من خصائصها ومعالمها البارزة، غير هذا، مما نقرأه في النصوص التنبؤية الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
وربما كان أهمها ما يأتي:
1- عالمية العقيدة الإسلامية (عقيدة التوحيد)، وعمومها لكل فرد من البشر، وتطهير الأرض من كل عقائد الشرك والكفر والضلال والنفاق.
فمما يروى في هذا المجال:
أ- ما عن محمد بن مسلم: قال: قلت للباقر عليه السلام:
ما تأويل قوله تعالى في الأنفال ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ﴾؟..
قال: لم يجئ تأويل هذه الآية، فإذا جاء تأويلها يقتل المشركون حتى يوحدوا الله عز وجل وحتى لا يكون شرك، وذلك في قيام قائمنا.
ب - وما عن رفاعة بن موسى: قال: سمعت جعفر الصادق عليه السلام يقول في قوله تعالى ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾.. قال: إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة: إلاّ إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
ج - ما عن عمران بن ميثم عن عباية: أنه سمع أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).. أظَهَرَ بعد ذلك؟.. قالوا: نعم.. قال: كلا.. فو الذي نفسي بيده، حتى لا تبقى قرية إلا وينادي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله، بكرة وعشياً.
2- عموم العدل والأمن والرخاء.
ومن النصوص المشيرة إليه ما يلي:
أ- إذا قام القائم عليه السلام حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كل حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام، ويعترفوا بالإيمان..
أما سمعت الله - سبحانه - يقول: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾..
وحكم بين الناس بحكم داود عليه السلام وحكم محمد صلى الله عليه وآله..
فحينئذ تظهر الأرض كنوزها، وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته، ولا بره، لشمول الغنى جميع المؤمنين.
ب - يقاتلون حتى يوحد الله، ولا يشرك به شيئاً، وتخرج العجوز الضعيفة من المشرق تريد المغرب لا يؤذيها أحد، ويخرج الله من الأرض نباتها، وينزل من السماء قطرها.
ج - إذا قام قائمنا قسم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
3- انتشار الثقافة والعلم.
ومما يشير إليه من النصوص:
ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث له: (وتؤتون الحكمة في زمانه، حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله.
وحدة سيرة الإمام والنبي
ومما تقوله النصوص في هذا المجال: وحدة سيرة الإمام المنتظر عليه السلام في دعوته، وسيرة جده الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في دعوته، بسبب تشابه ظروف الدعوتين الاجتماعية، في طريق التمهيد لتأسيس الدولة..
ومن تلكم النصوص ما يأتي:
أ- عن عبد الله بن عطاء المكي عن شيخ من الفقهاء (يعني أبا عبد الله الصادق عليه السلام):
قال: سألته عن سيرة المهدي، كيف سيرته؟..
فقال: يصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يهدم ماكان قبله، كما هدم رسول الله أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً.
ب - عن عبد الله بن عطاء: قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام.. فقلت: إذا قام القائم بأي سيرة يسير في الناس؟..
فقال: يهدم ما قبله كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله ويستأنف الإسلام جديداً.
حـ - وعن أبي بصير: قال: سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: في صاحب هذا الأمر شبه من أربعة أنبياء: شبه من موسى، وشبه من عيسى، وشبه من يوسف، وشبه من محمد صلى الله عليه وآله...
فقلت: ما شبه موسى؟..
قال: خائف، يترقب..
قلت: وما شبه عيسى؟..
فقال: يقال فيه ما قيل في عيسى..
قلت: فما شبه يوسف؟..
قال: السجن والغيبة..
قلت: وما شبه محمد صلى الله عليه وآله ؟..
قال: إذا قام سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أنه يبيّن آثار محمد.
د - وفي حديث عبد الله بن عطا مع الإمام الباقر عليه السلام:
قلت: بما يسير؟..
فقال: بما سار به رسول الله صلى الله عليه وآله هدر ما قبله واستقبل3.
--------------------------------------------------------------------------------
1- يقرأ: محمد تقي الحكيم، ص 184.
2- يقرأ: موضوع (الغيبة الكبرى) من الكتاب.
3- دولة القائم المنتظر / العلامة عبد الهادي الفضلي .