معنى الشريعة، هو الطريقة ، والدين وكذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر من القرآن انه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) ( آل عمران : 19 ). وقوله تعالى : (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( آل عمران : 85 ) . وقوله: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وقوله: (ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ) ( الجاثية : 18 ) .
فكأنّ الشريعة هي الطريقة الممهّدة لأمّة من الأمم أو لنبيّ من الأنبياء الذين بعثوا بها كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، والدين هو السنّة والطريقة الإلهيّة العامة لجميع الأمم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع .
وهناك فرق آخر وهو أنّ الدين ينسب إلى الواحد والجماعة كيفما كانا، ولكنّ الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين ودين اليهود وشريعتهم، ويقال: دين الله وشريعته ودين محمد وشريعته ، ويقال: دين زيد وعمرو، ولا يقال: شريعة زيد وعمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثي وهو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز أن يقال : الطريقة التي مهّدها الله أو الطريقة التي مهّدت للنبي أو للأمة الفلانية دون أن يقال: الطريقة التي مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشيء. وكيف كان فالمستفاد منها ان الشريعة أخص معنى من الدين.
وأمّا قوله تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى : 13).
فلا ينافي ذلك إذ الآية إنّما تدل على أنّ شريعة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم المشروعة لأمّته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى مضافاً إليها ما أوحاه إلى محمّد صلى الله عليه وآله وعليهم، وهو كناية إمّا عن كون الإسلام جامعاَ لمزايا جميع الشرائع السابقة وزيادة، أو عن كون الشرائع جميعاً ذات حقيقة واحدة بحسب اللب وإن كانت مختلفة بحسب اختلاف الأمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدل عليه قوله بعده . (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى : 13) .
فنسبة الشرائع الخاصة إلى الدين - وهو واحد والشرائع تنسخ بعضها بعضاً - كنسبة الأحكام الجزئيّة في الإسلام فيها ناسخ ومنسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبّد عباده إلا لدين واحد وهو الإسلام له إلا أنّه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة وسن لهم سننا متنوعة على حسب اختلاف استعداداتهم وتنوّعها، وهى شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلى الله عليه وآله وعليهم كما أنّه تعالى ربما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ وظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلد في زنا النساء بالجلد والرجم وغير ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) ( الآية ) .
وأمّا الملّة فكان المراد بها السنة الحيويّة المسلوكة بين الناس، وكان فيها معنى الاملال والإملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير ، وليس الأصل في معناه واضحا ذاك الوضوح ، فالأشبه ان تكون مرادفة للشريعة بمعنى أن الملة كالشريعة هي الطريقة الخاصة بخلاف الدين ، وإن كان بينهما فرق من حيث إن الشريعة تستعمل فيها بعناية أنها سبيل مهده الله تعالى لسلوك الناس إليه ، والملة انما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتباع العملي ، ولعله لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين والشريعة ، يقال : دين الله وشريعة الله ، ولا يقال : ملة الله . بل انما تضاف إلى النبي مثلا من حيث إنها سيرته وسنته أو إلى الأمة من جهة انهم سائرون مستنون به ، قال تعالى : (ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) ( البقرة : 135 ).
وقال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام : (إنّي تركت ملة قوم لا يۆمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) ( يوسف : 38 ). وقال تعالى حكاية عن الكفار في قولهم لأنبيائهم : (لنخرجنكم من ارضنا أو لتعودن في ملتنا) ( إبراهيم : 13 ) . فقد تلخص ان الدين في عرف القرآن أعم من الشريعة والملة وهما كالمترادفين مع فرق ما من حيث العناية اللفظية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 5 -