العيد لغة:
العيد فعيل من العود، حُذِفت واوه لوجود الياء، وقد لازم معنى الفرح والبهجة، لما فيه من ترقّب وانتظار، فالعيد يعني عودة الفرح والسرور والبهجة، وقد يُطلق عليه اسم (المجمع) لاجتماع الناس فيه وإبراز مظاهر الفرح والبهجة.
معنى الفرح:
وما دام الفرح مأخوذًا في معنى العيد، فمن الضروري الوقوف على معناه ودلالته اللغوية كذلك، لأنه قد ورد في القرآن الكريم في مقام الذمّ والباطل، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾.
وورد في القرآن الكريم كذلك في مقام المدح والحق والرضا، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾.
فالفرح، الذي يعني الانبساط والانفراج وبهجة القلب ولذّته، يختلف مدحًا وذمًّا باختلاف مقتضياته ودواعيه.
وبعبارة أخرى، معنى الفرح واحد، ولكنّ أفراده ومصاديقه هي التي تختلف باختلاف دوافعها، فيتّصف بالمدح والحق تارة، وبالذم والباطل أخرى، وليس مذمومًا بنفسه، كما ربما يَتوهم البعض أنّ الإيمان أو التدين ملازمٌ للعبوس والحزن وأشباه ذلك.
دواعي العيد ومبرراته:
تختلف دواعي الاحتفال باختلاف الأشخاص، فنرى مثلاً أن شخصًا يحتفل بمناسبة نجاحه في إنجاز عمل معين، كربح في تجارة، أو زواج، أو نجاح في امتحان ونيل شهادة أو غير ذلك، ويجعل من هذا النجاح عيدًا يحتفل به في وقته من كل سنة، ومثل هذا النوع من الاحتفال يتّصف عادة بصفة الفردية لأن الداعي له، والمحتفِل به، هو الفرد نفسه، كما أن نتائجه الإيجابية راجعة إلى الشخص نفسه.
وقد أقرَّت المجتمعات الإنسانية لكل فئة من الناس عيدًا، فللمزارع والعامل عيد، وللاستقلال الوطني عيد، ولشهداء الأوطان الذين كان لهم أثر في نجاح مشروع وطني عيد كذلك، وهكذا.. وهذا النوع من الاحتفال يتّخذ صفة الجماعية بحسب العادة لأن الداعي له، هي الجماعة كلها، ونتائجه تنعكس على الجميع كذلك، إلا أن الإحساس بالبهجة والفرح، يختلف باختلاف الأشخاص، ومدى تأثرهم وانفعالهم بالمناسبة المعيّنة.
يتّخذ كلّ عيد أهمّيته ودلالاته في نفوس النّاس سواء كان عيدًا فرديًّا أو للجماعة بأسرها، من مقدار ما تتمتع به المناسبة الدّافعة لإنشائه من أهمِّية وخطر عندهم، وتزداد أهمّيته سعة وشمولاً بمقدار اتّساع المناسبة الداعية له، وتنعكس مظاهر الفرح تبعًا للمناسبة المُحتفَى بها، وإلا فإنّ العاقل لا يعبّر عن فرحه وبهجته بدون مناسبة، لعدم وجود فرح يمكن أن يعبّر عنه بحسب الفرض، ذلك أنّ ظاهر الإنسان مجرد انعكاس لما انطوت عليه نفسه، والحياة الدنيا مليئة بالهموم والمشاكل والأحزان، بل هي ملازمة لها، ولا يخلو إنسان من مشاكل هذه الحياة وهمومها، فإبراز الفرح والبهجة بدون دافع له، مع وجود هذه الهموم في نفسه يعني أحد أمرين: فهو إمّا أنه لا يتمتع بنعمة العقل الذي يحكم سلوكه وتصرفاته، وإمّا أنّه إنسان عبثيّ، لا ينطلق في سلوكياته من حكمة تقتضيها، وهذه صفة من ابتُلِي بانفصام الشخصية وازدواجية السلوك في الذات، ذلك أنّ المظهر ينبغي أن يكون انعكاسًا للباطن كما أشرنا، فإذا كان الباطن متألّمًا، لا يمكن إلاّ أن تظهر آثاره، ولا تنعكس أضدادها، لأنّ ذلك من أجلى أنواع خداع النّفس والكذب عليها، وبالتّالي فلا يتحقق أي معنى للعيد والاحتفال.
فالإنسان المحتفل من دون وجود ما يبرر فرحه واحتفاله، غير جدير بالاحترام والتقدير، لأنّ شخصيته لا تتصف بالاتزان والاستقامة حينئذ، وبالتالي فلا يستحقّ مشاركته في احتفاله هذا وفرحه ذاك.
انطلاقًا من وجود المبرّرات الموضوعية، والمحطّات الهامّة في تاريخ الأمم والشّعوب، نجد أَتباع الديانات، بل مختلف الجماعات الإنسانية، يؤرِّخون تاريخ أُممهم بمناسبات خاصة، تشكّل منعطفًا مهمًّا في حياتهم السياسيَّة أو الاجتماعيّة أو الثقافيّة أو غير ذلك، فاليهود مثلاً يؤرِّخون لأنفسهم بزمان خروجهم من مصر، والنصارى لهم عيد آخر يؤرِّخون انطلاقًا منه، وهو مولد السيّد المسيح (عليه السلام)، وللمسلمين تاريخ ثالث، يبدأ من الهجرة النبوية الشريفة، وتأريخ الفرس يبدأ بمناسبة اعتلاء قورش العرش، وهكذا الحال في سائر الأمم، التي تحتفل بالاستقلال مثلاً، وغير ذلك مما يشكِّل عيدًا وطنيًّا أو قوميًّا أو دينيًّا لها.
مظاهر العيد:
يعمل المحتفلون بالعيد على إظهار فرحهم وسرورهم الدّاخلي، وتبدو عليهم آثاره، وهذا لا يختصّ بفئة من الفئات، أو جماعة من النّاس، بل تتوافق على انعكاس البهجة فيه على كل محيط المحتفِل، بما يتوافق مع المناسبة التي أُقرَّت كعيد لهذه الجماعة أو تلك، وكثيرًا ما تظهر الفرحة عند المحتفلين بالعيد بالزينة والطعام والشراب واللباس، فيعمل الناس على تجديد الملبس، والتمتّع بطيب المأكل ولذيذ المشرب، بالإضافة إلى الاجتماع وتبادل التهاني والتمنيات بعضهم لبعض.
ومّما يدّل على أنّ هذه المظاهر من لوازم العيد، وتجري في أذهان النّاس مجرى الفطرة، في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، ما ورد عن سويد بن غفلة، قال: (دخلت عليه "يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)" يوم عيد فإذا عنده فاثور "أي خوان" عليه خبز السّمراء "يعني الحنطة" وصفحة فيها خطيفة وملبنة، فقلت: يا أمير المؤمنين يوم عيد وخطيفة؟ فقال: إنّما هذا عيد من غُفر له).
وما ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (زيِّنوا أعيادكم بالتّهليل والتّكبير والتّحميد والتّقديس).
لقد أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) تصحيح مفهوم العيد، وإظهار المعنى الحقيقي الذي ينبغي للنّاس أن يُظهِروه، وأنّ كيفية إظهار البهجة والاحتفال ليست مجرد تحسين المظهر، بل لا بدّ أن ينعكس المعنى الواقعيّ الذي تُظهره المناسبة الُمحتفَى بها، وأن تُعطى بُعدا دينيا ينسجم مع ذلك المعنى.
إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من زينة اللباس، والظّهور بالمظهر الحسن، ليتجمع الابتهاج والفرح وكافة المظاهر التي تملأ النفس والعقل والروح، فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ قال: (أي خذوا زينتكم التي تتزينون بها للصلاة في الجُمُعات والأعياد).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ينبغي لمن خرج إلى العيد أن يلبس أحسن ثيابه، ويتطيّب بأحسن طيبه).
وفي هذا السياق يدخل دعاء السيد المسيح (عليه السلام) بإنزال المائدة من السماء، قال تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
عيد المؤمنين:
قلنا إن العيد وإظهار الفرح والبهجة، يمكن أن يظهر بعدة مظاهر، فمنها ما يرتبط بنجاح دنيويّ، وإنجاز ماديّ، ومنها ما يرتبط بعالم الآخرة، والهدف الأسمى، والغاية الكبرى، التي يطمح المرء إلى تحقيقها والوصول إليها، ذلك أنّه حتّى الإنسان غير المؤمن بعالم الاخرة، لا يخلو من طموحات وآمال يعتبرها غاية من غاياته، وهدفًا يستشرفه في مستقبل أيامه، ويسعى إلى إنجاز هذه الطموحات وتحقيق تلك الآمال.
من هنا، فإنّ من الطبيعي أن ينعكس الفارق بين الفئتين على أهدافهما وغاياتهما، ممّا يُظهره بمظهر الاحتفال والبهجة فيه.
وانسجامًا مع هذه الغايات والآمال، يتوقف غير المؤمن بالآخرة، أو المغرور بالحياة الدنيا، عند تحقيق الإنجازات المادّية، والنجاحات الزمنية، ولا يتجاوزها إلى ما وراءها، وهؤلاء يشكلون مصداقًا حقيقيًا للذين اطمأنوا بالحياة الدنيا، واقتصر سعيهم للحصول عليها، فكانت أعيادهم واحتفالاتهم متوافقة مع هذه الرؤيا، فوقعوا موقع الغافلين في الميزان الإلهي، حيث يصابون بالخذلان في عالم الحق، فكانت عاقبتهم مُقتصِرة على متاع الدنيا القليل في مقابل الآخرة، كما قال تعالى: ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾.
ولكن المؤمن لا يُعيرُ أيّة أهمية للنجاحات المادية والإنجازات الدنيوية، لأنّّها لا تشكّل مطمحًا له ولا غاية يرجو الإخلاد إليها، إذ المفروض أنّه قد تأدَّب بآداب الله تعالى، وتخلَّق بأخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، فنظر إلى الحياة الدنيا على أنّها متاع الغرور، وأنّها لهو ولعب وزينة وتفاخر بين الناس، بالأموال والأولاد، ولا تساوي بنظره شيئًا، إلاّ بمقدار ما يزرعه فيها من عمل صالح يحصد ثماره في الآخرة، وآمن أنّ الدار الآخرة هي الحيوان، وغير ذلك من المفاهيم والقوانين التي صقلت شخصيته، وهذّبت وجدانه وروحه، فحَكَّم عقله في أهواء نفسه، ومَلَك شهواته، وسيَّرها بالاتّجاه الإلهيّ الصحيح.
فالإنسان المؤمن ينطلق في فرحه وحزنه، وبهجته وغمّه، من خلال رضا الله تعالى، وما يدفعه إليه إيمانه من انسجام وتوافق بين باطنه وظاهره، فما يكون مفرحًا في طول ولاية الله تعالى ورضاه، يُفرِحه على المستوى النفسي، وتظهر آثاره على مظهره الخارجي، وما لا يكون كذلك سيكون أثره على مظهره متماشيًا ومنسجمًا مع ما انعقد عليه قلبه من إيمان.
إلاّ أنّ ذلك لا يعني عُزوفه بالمطلق عن الحياة الدنيا، بل هو يسعى إلى التوفيق بين مقتضيات الحياة الدنيا، ومقتضيات الآخرة، ما دام منسجمًا مع ذاته، فكان مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَ﴾([1]) غاية ما في الأمر أنّه يسخّر نِعَم الدنيا لتكون في خدمة الهدف الأسمى والغاية الأشرف والفوز بالجنة.
أعياد المسلمين:
انسجامًا مع رؤيته للكون والإنسان والحياة، أقرَّ الإسلام أعيادًا اعتبرها تُحقّق الهدف من بعثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو تحصيل السعادة والخلاص في الآخرة والفوز العظيم في جنّة الخلد، إضافة إلى تحقيق الرّفاه والعيش الرغيد في هذه الدنيا، لا للفرد نفسه وحسب، ولكنّ للجماعة المسلمة، بل للإنسانيّة كلها، إذا سارت في طريق الإسلام وهداه.
إنّ الأعياد الإسلامية يمكن تصنيفها ضمن طائفتين، تنطلقان من الهدف والغاية التي يجعل العيد المعين لأجلها، إحداهما فرديّة وذاتيّة وإن كانت لا تخلو من بُعد جماعي، والطائفة الأخرى جماعية لها بُعد فردي كذلك.
الطائفة الأولى:
أما الطائفة الأولى فتتمثّل في عيدي الفطر والأضحى:
أ- عيد الفطر السعيد:
أمّا عيد الفطر السعيد فقد جعله الإسلام ثمرة رحلة ملكوتية، يسير فيها المؤمن شهرًا كاملاً في طاعة الله تعالى، على أجنحة الملائكة النازلة والصاعدة، والفارشة أجنحتها لتظلّله بالكرامة والبركة، حيث السماوات مفتوحة، والشياطين مغلولة، وأبواب الرحمة والمغفرة مشرعة، ويمكنه أن يتغلب على أهواء نفسه وشهواتها.
ولا يخفى أنّ الصّيام من أهمّ العبادات البدنيّة، والرياضات الروحيّة، لما فيه من كفّ لِيَد الشهوات، وتقييد وكبح لجماحها، الأمر الذي ينعكس إطلاقًا لملكات الروح، وتساميًا ورقيًّا في درجاتها نحو عالم الملكوت والرحمة الإلهية، إذا استوفى شرائطه المعتبرة، والتزم بحدوده وقوانينه، ولهذا ورد في الحديث القدسي أنّ الله تعالى يقول: (كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به)، لما فيه من مجاهدة للنفس ومحاربة للشيطان، وتسامٍ للملكات الروحيّة وتعرّض للألطاف الإلهيّة.
فإذا استكمل المرء هذه المسيرة الروحية والجهادية، على مدى شهر كامل من السنة، فاز بالغاية المرجوة، وحصل الملكات الفاضلة، التي تؤهله ليكون جديرًا باتباع سبيل الحق المستقيم، فاستحق الاحتفال وإعلان الفرحة والشكر لله تعالى، ولهذا فإنّ من أجلى مظاهر العيد عند المسلمين هو التكبير والتهليل والتحميد.
فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في جواب من سأل: لم جُعل يوم الفطر العيد؟ قال (صلى الله عليه وآله): (لأن يكون للمسلمين مجمعًا يجتمعون فيه، ويبرزون إلى الله عز وجل، فيحمدونه على ما مَنَّ عليهم، فيكون يوم عيد ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة ويوم رغبة ويوم تضرع، ولأنّه أول يوم من السنة يحلّ فيه الأكل والشرب، لأنّ أول شهور السنة عند أهل الحق شهر رمضان، فأحبّ الله عز وجل أن يكون لهم في ذلك اليوم مجمع يحمدونه فيه ويقدسونه).
ولهذا ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف العيد وأنّ من يستحق الفرح والاحتفال هو المؤمن، الذي طوى مسيرة التكامل الروحي، من خلال الصيام وطاعة الله تعالى، وأمّا من لم يتّصف بهذه الصفة فلا عيد له، إنه قال (عليه السلام) في بعض الأعياد: (إنّما هو عيد لمن قَبِل الله صيامه، وشكر قيامه، وكلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد).
وعن الإمام الحسن (عليه السلام) إنه مرَّ في يوم فطر بقوم يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم، فقال (عليه السلام): (إنّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصَّر آخرون فخابوا، فالعجب كلّ العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يُثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، وأيم الله لو كُشِف الغطاء لعلموا أن المحسن مشغول بإحسانه، والمُسيء مشغول بإساءته) ثم مضى.
ب-عيد الأضحى المبارك:
وأمّا عيد الأضحى المبارك فهو الآخر يأتي ثمرة رحلة عبادية في طاعة الله تعالى، تتمثَّل بالهجرة إليه، والتخلّي عن كل ما يربطه بعالم الدنيا، حيث ينزع عن نفسه كلّ مظاهرها وزينتها، ويلبس ثوب الإحرام، الذي لا يفترق كثيرًا عن كفنه حين موته، بل هو إشارة إليه وكناية عنه، وتشبيه به، كأنّه يستعدّ للّقاء الأكبر طائعًا مختارًا، متنقلاً بين المشاعر المقدّسة والأماكن المطهرة، فإذا أنهى رحلته برمي الجمرات و رجم الشياطين، تأسيًّا بأبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) عندما تمثّل له الشيطان في هذه الاماكن، ثم أتمَّها بالذبح أو النحر، خرج إلى العيد معلنًا فرحه، ومحتفلاً بنجاحه لأنّه قد فاز بغفران الله تعالى.
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (للحاج والمعتمر إحدى ثلاثة خصال: إمّا أن يقال له قد غفر لك الله ما مضى وما بقي، وإمّا أن يقال له قد غُفر ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يقال له قد حُفظتَ في أهلك وولدك وهي أخسَّهن).
وعليه فيصح أن يقال أيضًا: إنّ يوم النحر هو عيد لمن غفر الله له، ولا يمكن أن يكون عيدًا لغير المؤمن، أو لمن لا يتوقع مغفرة من الله تعالى، أو من لم يعمل لها الأعمال التي تضعه في معرض الغفران والرحمة.
الطائفة الثانية:
عيد الغدير:
إذا كان عيدا الفطر والأضحى يمثّلان الطائفة الأولى بما تتضمنه من غاية فردية، وهدف ذاتي، يسعى إليه الإنسان المؤمن في مسيرته التكاملية نحو الله تعالى، فإنّ عيد الغدير يمثّل الطائفة الثانية، وهي تحقيق الهدف الأسمى من خلق الإنسان، إذ أنّه مع ما يتضمنه من انتظام لحياة الناس على كافة المستويات السياسيّة والإجتماعيّة والتنظيميّة وغيرها، فإنه يحتضن هدف وغاية الطائفة الأولى أيضًا، لأنّ صحة الأعمال وقبولها في الآخرة مرهون بقبول ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (بُنِيَ الإسلام على خمس: الولاية والصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يُنادَ بشيء ما نودي بالولاية يوم الغدير).
وفي صحيح زرارة عنه (عليه السلام) أنه قال: (بُنِيَ الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل، قال (عليه السلام): الولاية أفضل لأنّها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أثافي الإسلام ثلاثة: الصلاة والزكاة والولاية، لا تصح واحدة منهن إلا بصاحبتَيها)، والروايات في هذا الباب كثيرة جدًا.
إنّ هذه الروايات الشريفة تبيِّن أهميّة الولاية وخطورتها، وما التشديد على الولاية بهذا المقدار -حتى صارت أهم وأفضل من عامة الأربعة الأخرى- إلا لأنّها أساس انتظام الحياة الفردية والجماعية، على المستوى الدنيوي والأخروي على حدّ سواء.
إنّ الاعتقاد بالولاية يُشكّل المحور الأساسي في الصراع الفكري والحضاري بين الإسلام وسائر الأنظمة الأخرى، لأنّه بدون الولاية، يصبح الدين مجرد علاقة بين الإنسان وربّه، غير مشتمل على نظام اجتماعي يكفل تصحيح المسار العام في حياة الإنسان الدنيا، ويصير الإسلام بذلك نوعًا من المسيحيّة بثوب جديد، بل قد وضعت أحاديث لتبرير هذه النظرة من قبيل ما ذكروه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (أنتم أعلم بدنياكم) وأشباهه، مع أن المتتبّع للآيات القرآنية الشريفة والسنّة النبوية المطهّرة، والمتأمّل فيها، يعلم بدون أدنى شبهة أنّها مخالفة لروح الإسلام وحقيقته، فجاء التأكيد على الولاية، وبيان أهميتها، لتزييف هذه النظرة، وإعادة الحقّ إلى نصابه.
وما دام الوالي هو مفتاح أركان الإسلام والدليل عليها، إذ لا بد لكل قانون من حامٍ يحمي تشريعاته، ويقيم حدوده، ويعيد المخطئ إلى جادّة الصواب والحق، وهذا يستلزم أن يكون الحامي أو الولي عالمًا بتفاصيل الشريعة قادرًا على بيان الحق من الباطل، وهذه الخصوصية لا يمكن للنّاس أن يدركوها بدون إعانة الوحي وتنصيصه، لكونها كالنبوة من هذه الجهة، إذ من غير المحتمل أن يترك الله تعالى دينه وشريعته تحت رحمة أهواء الناس ومصالحهم، خصوصًا إذا كان الناس حديثي عهد بالدين، لم يختمر في نفوسهم، ولم يصقل وجدانهم، فإن ذلك نقص لغرض الدين، وتضييع لغايته التي بعث الأنبياء لأجلها.
فالولي إذن أساس الدين الحنيف، وعليه معقد الآمال، وتحقيق حلم الأنبياء من إقامة العدل بين النّاس، وتنظيم كافة شؤونهم، ووضعهم على صراط الله المستقيم. بالإضافة إلى توقف صحة الأعمال على المستوى الفردي وقبولها على الاعتقاد بالولي، مما يؤهل الفرد للدخول في نعيم الجنة يوم القيامة.
وهذا ما يفسّر الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: (يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله -تعالى ذكره- فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب لأمتي، يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمَّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الاسلام دينا)، لأنّه في هذا اليوم يتمّ للإنسانية كلّ ما تحلم به من خير الدنيا، حيث يُقام العدل بين الناس، ويُنتصف المظلومون، فيتنعم النّاس بالأمان والراحة والرفاه، وبه تُقبل أعمال المؤمنين، التي تُؤهِّلهم للفوز بالجنة في يوم القيامة، وهو الجانب الأخروي والفردي لعيد الغدير.
وهذه الخاصيّة المشتركة، -وهي اشتماله على البعدين الفردي والاجتماعي- يفتقدها كلّ من عيدَي الفطر والأضحى، على الرغم مما لهما من أهمية على مستوى حياته الخاصّة والفردية.
* إعداد / الشيخ حاتم إسماعيل مجلة رسالة النجف الأشرف العدد الثالث.