قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ (الفرقان: 62). وعرّف أمير المؤمنين عليه السلام عمر الإنسان وحياته في هذه الدنيا بالقول: "العمر أنفاس معدودة"(1).
*خليفة الله في الأرض
استخلف الله تعالى الإنسان ليحيا على أرضه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، وطلب منه السير والانطلاق في هذه الدنيا لتحقيق هذا الاستخلاف من خلال الطاعة والعبودية المتمثلتين في معرفته سبحانه وتعالى حيث قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). ولفت المولى عزّ وجل عبده إلى أنّ طريق العودة إليه تعالى قصيرة وسريعة الانقضاء ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).
فالحديث عن الحياة هو حديث عن الوقت والزمن الذي يشكّل عصب الحياة وروحها، وحيث تشكّل معرفته وفَهمه الدافع الأكبر للتطوّر والتقدّم في كافة مجالات الحياة، وإلّا إنْ أهمل الإنسان ذلك، ضاع عمره وذهب سدى كما جاء عن الأمير عليه السلام: "من وثق بالزمان صُرع"(2).
*والفجر... والعصر
وقد أفاض المولى عزّ وجل في كتابه الكريم في تنبيه الإنسان ولفت نظره إلى أهميّة وعظمة وقداسة الوقت الذي يعيشه ويقضيه في هذه الحياة الدنيا، من خلال القسم بالوقت والزمن كقوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر: 1 - 2)، وقوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ (العصر: 1 - 2)، فقد ذكرت هذه السورة أن الإنسان في خسارةٍ دائمة؛ لأنه دائم الإنفاق من عمره، مع استثناء يذكره القرآن الكريم في نفس سورة العصر، وغيرها من الآيات تصريحاً أو تلميحاً.
*يُسأل عن عُمرِه فيما أفناه
فمن هنا تبين الآية التي ابتدأنا بها الموضوع، الآية 62 من سورة الفرقان، أهمية وضرورة الاستفادة القصوى من الوقت وعدم إضاعته، ذلك أن كُلاً من الوقتين يَخلُف الوقت الآخر، الليل والنهار، ليستطيع الإنسان أن يتلافى ما أضاعه ليلاً في النهار، وأن يعوّض ما أضاعه نهاراً في الليل. وأما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في إلفات نظر الإنسان وبالخصوص الشباب إلى أهمية اغتنام الوقت فهو كثير قد لا يحصى، فقد جاء في الرواية عن إمامنا الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لن تزول قَدَمَا عَبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبِّنا أهل البيت"(3).
"وعن عُمرِه فيما أفناه"، فهذا الوقت أو الزمن الذي يُعبّر عن عمر الإنسان سوف يُسأل عنه يوم القيامة بدقة متناهية حتى: ﴿يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: 49).
*لكل ساعة صندوق
وقد جاء في بعض الروايات التأكيد على هذه النقطة بالذات من خلال الإشارة إلى أنّ ساعات الإنسان في يومه تكون صناديق مقفلة يوم القيامة يُفتح له عن كل ساعة صندوق، ساعةً تلو الأخرى، فإن رأى أنه مَلأ ذلك الصندوق بالعمل الصالح والخير استبشر، وإذا رأى ذلك الصندوق خالياً اغتم ورأى نفسه مغبوناً، وإذا رأى أنه ملأ ذلك الصندوق بالعمل السيئ - والعياذ بالله - أصبح في حالة يُرثى لها من الندم والأسف ولكن دون جدوى كما تشير إلى ذلك الرواية نفسها بعد ذلك(4).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "عن شبابه فيما أبلاه" (وهذا من عطف الخاص على العام) أي إنّ فترة الشباب بالرغم من أنها بُرهة زمنية من العمر ولكننا نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُؤكد عليها غاية التوكيد ويميّزها ويخصّصها عن بقية العمر لأن ما قبلها وما بعدها ليسا بتلك الأهمية والفاعليّة والانتاجيّة باعتبارها مليئة بالزخم والحيويّة والنشاط والفاعليّة التي لا تتوافر للإنسان في بقيّة أزمنة عمره.
*خصائص الوقت
عزيزي القارئ، إذا أردت أن تدرك أهمية الوقت وقداسته وأن لا تقع فريسة الحرب الناعمة فتخسر حياتك من خلال هدر الوقت وتضييعه في أمور لا تغني ولا تسمن، ما عليك إلا أن تلتفت إلى بعض خصائص الوقت ومنها:
أولاً: سرعة الانقضاء
فالوقت يمر أسرع من مرّ السحاب، وينقضي بسرعة هائلة، وهذا ما أشار إليه الذكر الحكيم في بعض آياته الكريمة:
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ (النازعات: 46)؛ فالوقت يمضي بسرعة فائقة، فإذا أدرك الإنسان أهمية ذلك السير السريع للوقت في حياته استطاع أن يلتفت لأهمية الوقت الذي يمر عليه فيبادر للعمل دون تسويف أو تأجيل، وهذا ما أراد المولى عز وجل لفت انتباهنا إليه بقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: 133).
كذلك ذكر القرآن الكريم أنّ من سمات وخصائص الأنبياء والرسل المبادرة والاغتنام السريع للوقت، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر"(5)، وعنه عليه السلام: "كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك"(6).
ثانياً: صعوبة تلافي الوقت المنصرم
ولا يكون ذلك إلا بجهد كبير وتعب شديد، ففي كثير من الأحيان لا يستطيع الإنسان أن يعوّض الأعمال التي فاتته في ذلك الوقت الذي ندم على إضاعته، ولذلك نرى الشعراء والأدباء يرددون:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً فأُخبرَهُ بما فَعلَ المشيبُ
فالفرص التي تفوت الإنسان في الشباب هي أغلى من الألماس في زمن شيبته وهرم جسده, فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ويأخذان منك فخذ منهما"(7).
ثالثاً: الوقت هو الحياة
فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما أنت عدد أيام فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فخفض في الطلب وأجمل في المكتسب"(8). فالوقت هو حياتنا ولا ينبغي للإنسان أن يفرط في حياته، فإذا انقضى زمنه انقضت حياته حيث لا يستطيع أن يُدرك ما يُريد أن يُدركه، وأن يحقق ما كان يصبو إلى تحقيقه، وبالتالي لن يستطيع أن يصل إلى مراده وتحقيق أهدافه، وقد أكّد القرآن على هذه الحقيقة في قوله تعالى :﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المنافقون: 11).
لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدّر له، فبادروا قبل نفاد الأجل"(9). فعلى الإنسان أن يستثمر وقته دوماً، وحتى في أيام العُطل، بما يعود عليه بالإيجابية، بل إنّ الأحاديث الواردة تُندّد بضياع الوقت في اللعب واللهو.
*كيف نستفيد من أيام العُطل؟
فيما يلي بعض النقاط الرئيسة والهامة في كيفية الاستفادة من الوقت:
أولاً: تدوين الأهداف المراد تحقيقها أيام العطلة. مثلاً: معالجة الضعف في بعض المواد الدراسية، أو رفع مستوى الثقافة الدينية، أو معالجة بعض المشاكل الحياتية، أو رفع تقصير اتجاه الأهل والأرحام والأقارب.
ثانياً: تقسيم هذه الأهداف حسب الأولوية، فترتيبها يؤمّن سهولة في التقدم والسير نحو تحقيقها .
ثالثاً: الترفيه. شجّع الإسلام على الترفيه، لأهميته، ولكنه مع ذلك نبذ إشغال الوقت بأكمله فيه. فقد جاء عن إمامنا أمير المؤمنين عليه السلام: "رَوِّحوا القلوبَ ساعةً بعد ساعة"(10). والساعة يُراد بها الفترة الزمنية المملوءة بالعمل، فيحتاج الإنسان بعدها إلى مُتسع من الوقت ليُروّح عن قلبه، وليستجمع نشاطه مرة أخرى.
رابعاً: التقييم الدائم لكل عمل يمضي.
إنّ الحياة والوقت نعمتان وهبنا الله تعالى إياهما، فلنعمل بأقصى جهدنا للاستفادة منهما وتلافي ما مضى من خسارة لجبرها إن شاء الله تعالى.
*الشيخ نزار سعيد\ نقلاً عن مجلة بقية الله
1.ميزان الحكمة، الريشهري، ج6، ص538.
2.م.ن، ج4، ص234.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج7، ص258.
4.م.ن، ج7، ص262.
5.نهج البلاغة، خطبة 188.
6.ميزان الحكمة، م.س، ج6، ص538.
7.م.ن.
8.م.ن.
9.م.ن، م.س، ج6، ص539.
10.شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام، ابن ميثم البحراني، ص165.