﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[1].
تمهيد
في الزمن الذي أخذَت تطغى فيه الأُسُس المادّيّة في العلاقات والخدمات المتبادلة بين الناس، وأصبحَت الخدمة وتلبية حاجات الناس سلعًا تُباع وتُشتَرى، ووصلَت هذه الثقافة المادّيّة إلى أن يتعاطى الناس بخلفيّة المقابل المادّيّ المتوقَّع لقاء أيّ خدمة، مهما كانت بسيطة، تمسُّ الحاجة إلى تسليط الضوء أكثر على ثقافة التطوّع، والعمل الخيريّ، وتقديم الخدمة للآخرين، ولا سيّما وفق الأساس الإسلاميّ الذي يعتبر هذا الأمر من أعظم القربات إلى الله عزّ وجلّ.
معنى التطوّع
التطوُّع لغةً: هو تكلُّف الطاعة؛ أي أن يكون الإنسان غير ملزمٍ بأمرٍ، إلّا أنّه يقوم به اختيارًا، لمصلحةٍ أنبل وأعلى، وهي عند المؤمن رضا الله -عزّ وجلّ- ونيل الثواب الأخرويّ. وقد ورد في القرآن الكريم: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾. وفي ثقافتنا الإسلاميّة المستقاة من نصوص أهل البيت (عليهم السلام) يُعَبَّر عن ذلك بخدمة الإخوان، أو خدمة الناس.
أهمّيّة العمل التطوُّعيّ وخدمة الناس
قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾[2]. من المعلوم أنّ الكعبة هي أقدم معبد بُنِيَ على الأرض، ليُعبَد الله فيه ويُوَحَّد، فلم يسبقه أيُّ معبدٍ قبله، وقد أُسّس، أوّل ما أُسِّس، لذلك، فلم يكن يومًا بيتًا للناس، بل وُضِعَ ليكون فقط لله عزّ وجلّ. ومع ذلك، عَبَّر الله -تعالى- عنه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾، وفي هذا إشارة إلى حقيقةٍ، هي أنّ كلَّ ما يكون باسم الله ولله، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده.
من هنا، نُقِلَ عن الشهيد السعيد السيّد محمّد باقر الصدر أنّه قال: لو فُرِضَ أنْ بَدَّلْنا كلمةَ «الله» بكلمة «الناس» في قوله -تعالى- ﴿في سبيل الله﴾، لَمَا اختَلَف المعنى؛ لأنّ سبيلَ الله هو سبيلُ الناس.
وتظهر أهمّيّة العمل التطوُّعيّ وخدمة الناس من خلال الروايات الشريفة، التي ذكرت لذلك أعظم الثواب وأجزله، فقد ورد عن إمامنا الصادق (عليه السلام) جملةً من الكلمات في هذا المجال، منها: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْعَوْنَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ، هُمُ الْآمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ»[3]، وعنه (عليه السلام): «مَنْ سَعَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فِي حَاجَةٍ مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا، قَضَى اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ بِهَا سَبْعِينَ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الْآخِرَةِ، أَيْسَرُهَا أَنْ يُزَحْزِحَهُ عَنِ النَّارِ»[4]، وعنه (عليه السلام): «قَضَاءُ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عِتْقِ أَلْفِ رَقَبَةٍ، وَخَيْرٌ مِنْ حُمْلَانِ أَلْفِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[5] وعنه (عليه السلام): «مَشْيُ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةِ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ طَوَافًا بِالْبَيْتِ الْحَرَام»[6].
نماذج من العمل التطوُّعيّ
نجد في القرآن الكريم نماذج عديدة من العمل التطوُّعيّ: كتطوُّع ذي القرنين لعمارة السدّ الفاصل بين يأجوج ومأجوج والقوم الذين تأذّوا منهم، وتطوُّع الخضر (عليه السلام) لبناء جدارٍ لغلامَين يتيمَين في المدينة، في القصّة المعروفة، وكذلك تطوُّع النبيّ موسى (عليه السلام) لسَقْيِ أغنام بنتَي النبيّ شعيب (عليه السلام) لَمّا وَرَدَ ماءَ مَديَن، حيث كان فعلُ التطوّعُ هذا من نبيّ الله موسى (عليه السلام) فاتحةَ الخير له، ومنجاةً له من تعب السفر ومطاردة فرعون، وإيواءً له في بيت شعيب، وجَلَبَ له الحظَّ السعيد في الزواج من ابنته.
ونجد في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) نماذج كثيرة من ذلك، كتطوُّع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في وضع الحجر الأسود، بعد أن انهدم في السيل قبل البعثة، وتطوُّع الإمام عليّ والزهراء والحسنَين (عليهم سلام الله) في إطعام المسكين واليتيم والأسير، والذي نزلَت فيه سورة الإنسان.
وفي روايةٍ عن ميمون بن مهران، قال: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ (عليه السلام)، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانًا لَهُ عَلَيَّ مَالٌ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَنِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ، مَا عِنْدِي مَالٌ فَأَقْضِيَ عَنْكَ. قَالَ: فَكَلِّمْهُ. قَالَ: فَلَبِسَ (عليه السلام) نَعْلَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَسِيتَ اعْتِكَافَكَ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أَنْسَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام) يُحَدِّثُ عَنْ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَكَأَنَّمَا عَبَدَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- تِسْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، صَائِمًا نَهَارَهُ، قَائِمًا لَيْلَه»[7].
الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) وخدمة الناس
قال الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) في رسالةٍ إلى ولده السيّد أحمد: «لا تَرَ لنفسك أبدًا فضلًا على خلق الله حين تخدمهم، فهم الذين يمنّون علينا حقًّا بفضل كونهم وسيلةَ الله جلّ وعلا. لا تسعَ لكسب الشهرة والمحبوبيّة عن طريق الخدمة، فهذا بذاته حيلةٌ من حبائل الشيطان الذي يوقعنا في شباكه. واختر في خدمة عباد الله ما هو أكثر نفعًا لهم، لا لك، ولا لأصدقائك، فهذا الاختيار علامة الصدق في الحضرة المقدّسة لله جلّ وعلا».
وتطبيقًا لِمَا مرّ، ورد في حياة الإمام الخمينيّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) أنّه كان في زيارة الإمام الرضا (عليه السلام) مع مجموعة من المؤمنين، سبقهم الإمام (قُدِّسَ سِرُّهُ) إلى المنزل الذي كانوا يسكنونه في مشهد، وحينما رجع أولئك المؤمنون، تفاجؤوا أنّ الإمام الخمينيّ قد جهّز لهم الشَّاي، واستقبلهم بتقديمه لهم، فقال له أحدُهم: تركتَ زيارةَ الإمام الرضا (عليه السلام)، وجئتَ إلى هنا لتجهّز الشَّاي؟! فإذا بالإمام يجيب: مَنْ يقول: إنّ البقاء في الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين؟
[1] سورة فاطر، الآية 10.
[2] سورة آل عمران، الآية 96.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص197.
[4] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص409.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص193.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص311.
[7] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص190.