﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾[1].
تمهيد
عن داوود بن سرحان، قال: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَكِيلُ تَمْرًا بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! لَوْ أَمَرْتَ بَعْضَ وُلْدِكَ، أَوْ بَعْضَ مَوَالِيكَ، فَيَكْفِيَكَ. فَقَالَ: «يَا دَاوُودُ، إِنَّهُ لَا يُصْلِحُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمَ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ، وَحُسْنُ التَّقْدِيرِ فِي الْمَعِيشَة»[2].
معنى حُسن التقدير في المعيشة
نعني بحُسن التقدير في المعيشة: وعي مكوّنات الأسرة، من أهلٍ وأبناء، لضرورة تنظيم عمليّة الإنفاق، وإدارتها بالشكل الذي يسمح بتلبية متطلّباتهم المعيشيّة وفق الأولويّات، التي تبدأ من الحاجات الأساسيّة، وصولًا إلى الحاجات الثانويّة، بما لا يسبّب عجزًا في ميزانيّة الأسرة، وبنحوٍ يتناسب مع مدخولها، ولا يؤدّي إلى الوقوع في محذور التبذير والإسراف، أو وضع المال في غير محلّه.
أهمّيّة حُسن التقدير في المعيشة
يمكن اختصار أهمّيّة حُسن التقدير في المعيشة في ثقافتنا الإسلاميّة، ضمن نقطتَين:
الأولى: المسؤوليّة يوم القيامة
مِن أهمّ ما يُسأَل عنه الإنسان يوم القيامة، هو أمر معيشته، وكيفيّة صرف ماله الذي رزقه الله -عزّ وجلّ- إيّاه، حيث ورد في رواية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ينقل فيها موعظةً للقمان الحكيم، يقول فيها: «اِعْلَمْ أَنَّكَ سَتُسْأَلُ غَدًا إِذَا وَقَفْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ أَرْبَعٍ: شَبَابِكَ فِيمَا أَبْلَيْتَهُ، وَعُمُرِكَ فِيمَا أَفْنَيْتَهُ، وَمَالِكَ مِمَّا اكْتَسَبْتَهُ وَفِيمَا أَنْفَقْتَهُ؛ فَتَأَهَّبْ لِذَلِكَ، وَأَعِدَّ لَهُ جَوَابًا»[3].
الثانية: الحياة الصالحة في الدنيا
ثمّة عدّة أمور يتوقّف عليها صلاحُ حياة المؤمن بشكلٍ عامّ، ومنها حُسن التقدير في المعيشة، فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قوله: «لا يَصلُحُ المؤمنُ إِلَّا على ثَلاثِ خِصَالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسْنِ التَّقْدِيرِ في المعيشةِ، والصَّبْرِ على النَّائبَةِ»[4].
بل إنّ بعض الروايات جعلَت حُسنَ التقدير في المعيشة نصفَ العيش، حيث رُوِيَ عن الإمام الصادق (عليه السلام): «التَّقدِيرُ نِصْفُ العَيْشِ»[5].
وورد أنّ تمام صلاح معيشة الإنسان متوقِّفٌ على حُسنِ التدبير، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قِوامُ العيشِ حُسْنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسْنُ التَّدبيرِ»[6].
فظهر أنّ سعادة الدارَين تتوقّف على حُسنِ التقدير في المعيشة، والإنفاق المتوازن.
آثار حُسن التدبير
عن عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال له: «يَا عُبَيْدُ، إِنَّ السَّرَفَ يُورِثُ الْفَقْرَ، وَإِنَّ الْقَصْدَ يُورِثُ الْغِنَى»[7].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ صَحبَ الاِقْتِصَادَ، دَامَتْ صُحْبَةُ الغنَاءِ لَهُ، وَجَبَرَ الاِقْتِصَادُ فَقْرَهُ وَخَلَلَهُ»[8].
عاقبة سوء التدبير
قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾[9].
وعن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام): «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي حَقٍّ، وَإِنَّهُ لَمُسْرِفٌ»[10].
عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ»[11].
كيف نُحْسِنُ التقدير في المعيشة؟
يعتمد حُسنُ التقدير في المعيشة، بشكلٍ أساسيّ، على الحكمة والتوازن في الإنفاق. ويمكن الإلفات إلى بعض النقاط والآليّات الهامّة في هذا المجال:
1. التنظيم والضبط: أي دراسة الإنفاق وضبطه بما يتناسب مع دخل الأسرة. فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «حُسْنُ التَّقْدِيرِ مَعَ الْكَفَافِ خَيْرٌ مِنَ السَّعْيِ فِي الْإِسْرَافِ»[12].
2. الاقتصاد: أي العمل على توفير المال وادّخاره؛ لاستثماره، بدلًا من صرفه في الحاجات غير الضروريّة. فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ضَمِنْتُ لِمَنِ اقْتَصَدَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ»[13].
3. عدم الإسراف والتبذير: ورد النهيُ الشديد عن الإسراف والتبذير، لِما يتسبّب به من ضياع مال الإنسان من جهة، وفساد روحه من جهة أخرى؛ ولذلك، عدّه الله من الأخلاق الفرعونيّة: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾[14]، وجعل المبذِّرين إخوان الشياطين: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾[15].
4. تحديد الأولويّات: أي وعي أفراد الأسرة للفرق بين الحاجات الأساسيّة والثانويّة، وعدم الخلط بينها، وتقديم الأولويّات في مورد التزاحم، والقناعة في ساعة العسرة.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يَابْنَ مَسْعُودٍ، إِذَا عَمِلْتَ عَمَلًا، فَاعْمَلْ بِعِلْمٍ وَعَقْلٍ، وَإِيَّاكَ وَأَنْ تَعْمَلَ عَمَلًا بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَعِلْمٍ، فَإِنَّهُ -جَلَّ جَلَالُهُ- يَقُول: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثًا﴾[16]»[17].
[1] سورة الفرقان، الآية 67.
[2] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج5، ص87.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص135.
[4] الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2، ص263.
[5] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج4، ص416.
[6] الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين أبو الحسن عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص370.
[7] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج17، ص64.
[8] البروجرديّ، السيّد حسين الطباطبائيّ، جامع أحاديث الشيعة، المطبعة العلميّة، إيران - قمّ، 1399ه، لا.ط، ج17، ص108.
[9] سورة الإسراء، الآية 29.
[10] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص65.
[11] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص167.
[12] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص227.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص53.
[14] سورة يونس، الآية 83.
[15] سورة الإسراء، الآية 27
[16] سورة النحل، الآية 92.
[17] الطبرسيّ، الشيخ الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضيّ، إيران - قمّ، 1392ه - 1972م، ط6، ص458.