مقدّمة
المعروف والمشهور من سير أنبياء الله ورسله الكرام وأوصيائهم عليهم السلام أنّ الله سبحانه جعلهم سادة الدّاعين إليه، وأنّ أولى مهامهم كانت دعوة الخلق لتوحيد الله تبارك وتعالى وخلع الأنداد، والمعروف من سيرتهم أيضاً أنّ أهمّ ما يُعتنى بالدعوة إليه، وحثّ الناس عليه، وحضّهم على فعله هو الصلاة بعد التوحيد، فهي أهمّ المهمّات، وآكد الفرائض والواجبات، وقد ذكر الله تعالى الصلاة في عشرات الآيات القرآنية الكريمة، وجاءت الأحاديث الشريفة مؤكّدة وجوبها وأهمّيتها، وتحثّ عليها وتُحذّر أشدّ التحذير من تركها أو التهاون بها، وإنّ تركها والتكاسل عنها من صفات المنافقين كما جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مبيّنة أنّ الصلاة هي الفارق بين المسلم وغير المسلم[1]، وأنّها من صفات المؤمنين المتّقين، وهي قرّة عين المسلم، إليها يُفزع إذا ضاق الصدر، وادلهمّت الخطوب كما كان يفعل مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يسأل السائل لم أولت الشريعة الإسلامية السمحاء كلّ هذه الأهمّية للصلاة؟ وما الميزة التي توجد في الصلاة دون سائر العبادات التي فرضها الله جلّ شأنه؟
إنّ وجوه أهمّية الصلاة كثيرة جداً ويصعب استقصاؤها، ومن هذه الوجوه ما قد عرفناه، ومنها ما لم نعرفه، والحقيقة أنّه لا يعلم أهمّيتها تمام العلم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة المعصومون من أهل بيته عليهم السلام، وأما نحن فيُمكننا الاستفادة في التعرّف على وجوه أهمّيتها من خلال تعريفها، ومعناها ووجوبها، وأهدافها، وفضائلها التي وردت في كتاب الله تعالى والروايات الشريفة المروية عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عليهم السلام وبذلك يستطيع كلّ كاتب متدبّر لهذا الأمر أن يُدلي بدلوه، فيُضيء على جوانب من وجوه أهمّية الصلاة التي ظهرت له.
وصيّة الله وأمره
إذا نظرنا إلى هذه الفريضة العظيمة وجدنا أنّها تحتلّ مكاناً عظيماً في الإسلام بل في كلّ الرسالات، فإنّه ما من نبيٍّ بُعث ولا رسالة نزلت إلا وفيها الأمر بإقامة الصلاة كما فيها الأمر بتوحيد الله عزّ وجلّ، فهي عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض لأنّها وصيّة الله وأمره للنبيّين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد قال ربّنا سبحانه حاكياً قول المسيح بن مريم عليه السلام : ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[2]، وأمر الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾[3]، وقال له: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[4]. إلى غير ذلك من الآيات التي تُبيّن أهمّية الصلاة ومكانتها.
ومن وجوه أهمّيتها العظمى أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد اقتصر واختصر في رمقه الأخير ساعة وداعه للدنيا على الوصاية بها، وهي كذلك آخر وصايا أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام إلى أوصيائهم، وأهليهم وأممهم، وقد كتب سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليعليه السلام في وصيّته: ".. إنّي أُوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي وولدي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ إلا وانتم مسلمون،..، الله الله في الصلاة، فإنّها خير العمل، إنّها عمود دينكم،... إلى أن قال: فإنّ آخر ما تكلّم به نبيّكم عليه السلام أن قال: أوصيكم بالضعيفين: النساء، وما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة الصلاة...... إلى أخر ما أوصى به صلوات الله وسلامه عليه"[5].
عمود الدين
احتلّت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أنّ العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدلّ دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظم شأنه، وفي ذلك روى إمامنا الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود نفعت الأطناب[6] والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء"[7].
واستعار مولانا الإمام الباقر عليه السلام من مشكاة جدّه سيد المرسلين قبساً من نور، فقال: "الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب"[8]. وحمل العود على الصلاة من باب التشبيه البليغ دليل واضح على أنّ الصلاة أفضل ما سواها بفسادها يفسد الدين بالكلّية ولا ينتفع به كما أنّ الفسطاط لا ينتفع به مع وجود الطنب والأوتاد بانتفاء العمود[9]. "ومن هنا، تكتسب العبادات، وعلى رأسها الصلاة، هذا القدر من الأهمّية، وتُسمّى (الصلاة) عمود الدين. فالصلاة حينما تؤدّى بانتباهٍ وبحضورِ قلبٍ لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتّسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذًى يسري أريجه إلى رحاب البيت والأسرة، وإلى محلّ العمل ومجلس الأصدقاء، وإلى كلّ ربوع مدينته، بل، وكلّ آفاق الحياة"[10].
أفضل الوسائل لذكر الله تعالى
جوهر الصلاة وحقيقتها أنّها ذكر الله وحده، فهي رمز العبودية لله، ودليل التسليم وعلامة الإيمان، وآية الإخلاص لذا قال الله سبحانه مخاطباً نبيّه الكليم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾،[11] وهذه آية من المحكمات التي تُبيّن مصداقاً من أبرز مصاديق وجوه أهمّية الصلاة، وذلك أنّ الإنسان يحتاج في حياته التي يعيشها في هذا العالم، إلى عمل يُذكّره بالله تعالى، والقيامة ودعوة الأنبياء، وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة، كي يحفظه من الغرق في دوّامة الغفلة والجهل، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة. إنَّ هذا الأمر يدلّ على عناية الله سبحانه بهذه الصلاة، وعظم قدرها عنده جلّ وعلا، وأنّ المسلم لا يُطالب بفعل هذه الصلاة كيفما اتفق، وإنّما المطلوب من المسلم أن يُقيمها حقّ القيام، فيُصلّي الصلاة الشرعية بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، ومستحبّاتها، وبروحها، حتى يكون لها الأثر في حياته وسلوكه واستقامته على أمر الله عزّ وجلّ. لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[12]، قال المفسّرون المراد (بذكر الله) في هذه الآية الصلوات الخمس.
أوّل الأسئلة في مواقف القيامة
لقد أُشير في المصادر الإسلامية إلى نحو من الأولوية في ترتيب النظر في صحائف أعمال الناس وكتبهم يوم الحساب، فكانت الصلاة أوّل ما يُحاسب عليه العبد، ووجدنا أنّ القرآن الكريم يُصوّر حال أهل النار عندما يُسْأَلُون عن سبب ما هم فيه من عذاب فيقولون: لم نكن من المصلّين. قال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾[13]، فالصلاة من أوّل الأعمال التي كفر بها أولئك المكذّبون، وأوّل ما يندمون على تضييعه يوم القيامة.
جاء في الحديث الوارد عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي أوَّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظِرَ في عمله، وإن لم تَصِحّ لم يُنظَر في بقيّة عمله"[14]، وفي نفس المعنى جاء حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أوّل ما يُنظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قُبِلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبَل لم يُنظر في عمله بشيء"[15]، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مرشداً وموجّهاً: "واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك، فمن ضَيّع الصلاة، فإنّه لغيرها أضيع"[16].
تبيّن لنا ممّا نطق به النبي المصطفى وأخوه علي المرتضى عليهما السلام أنّ الصلاة لا تُعتبر أوّل ما يُحاسب المرء عليه ذلك اليوم فحسب، بل إنّ سلامة صحيفة صلاة المرء شرط في النظر في سائر أعماله أيضاً، قال مولانا الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: "إنّأوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة، فإن قُبِلت قُبِل ما سواها"[17]، وقال إمامنا الصادق جعفر بن محمد عليه السلام: ".. وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة للعبد من النار، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائرأعماله، فإذا سلمت له صلاته سلمت جميع أعماله، وإن لم تسلم صلاته وردّت عليه. ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة"[18]، وفي حديث آخر قال عليه السلام: "إنّ أوّل ما يُسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله عزّ وجلّ الصلوات المفروضات،.."[19]
وفي ذلك يقول الإمام السيّد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله:
حين يتفضّل المعصوم بالقول: إنّ الصلاة لله، إذا قُبِلت قُبِل ما سواها من الخدمات والجهود، وإذا رُدّت رُدّ ما سواها، فهذا كلامٌ يعرض أمامنا حقيقة كبيرة. وتلك الحقيقة هي أنّ الصلاة إذا وضعت في موضعها المناسب في المجتمع الإسلاميّ فسوف تفتح كلّ الجهود المادّية والمعنوية البنّاءة طريقها نحو الأهداف والمبادئ، وتوصل المجتمع إلى المحطة المثاليّة المطلوبة في الإسلام. وإذا كانت هناك غفلة عن أهمّيّة الصلاة، وجرى عدم الاكتراث لها فسوف لن يُطوى هذا الطريق بشكل صحيح، ولن تترك الجهود والمساعي تأثيرها اللّازم في الإيصال إلى القمّة التي رسمها الإسلام للمجتمع الإنسانيّ[20].
حرمان الشفاعة
إذا انتصب المؤمن للصلاة بين يدي خالقه وبارئه سبحانه تعالى: أطمأن لقرب الفرج، وهدوء الرَّوع، ونشوة السعادة، ونعمة السكينة، واعتبر أنَّ وقته هذا من أوقات الآخرة، فخرج من دنياه إلى آخرته طوعاً، ورجى ربَّه الذي أدّى له الصلاة في هذه الدنيا، وجعله أهلاً للتكليف، أن يُكرمه يوم القيامة بإذنه، الذي ذكره في كتابه المجيد: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾[21]. ويرجو أن يكون من أهل الشفاعة كالشهداء مثلاً، أو ممّن تناله شفاعة سادة الخلق من أنبياء الله ورسله وأوصيائهم عليهم السلام لا سيما صاحب الشفاعة العظمى رسول الله مُحمد وآله الطيبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فحال المؤمن على عكس الذين يستخفّون بصلاتهم، ولا يُقيمون لها وزنها، فعاقبتهم كما روى مولانا الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاته، لا يرد عليّ الحوض، لا والله"[22]. وروي أنّ الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أمر بحضور جميع أقربائه قبيل وفاته، ثمّ التفت إليهم وأكّد على أهمّية الصلاة أيّما تأكيد، فدونك الحديث بتمامه:
روى أبو بصير وهو من أصحاب الإمام الصادق قال: دخلت على أُم حَميْدة (زوجة الإمام الصادق) أُعزِّيها بأبي عبد الله عليه السلام ، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثم قال: "اجمعوا كلّمن بيني وبينه قرابة". قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه، فنظر إليهم، ثم قال: "إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة"[23] إنّ كلّ مستخفّ بالصلاة ومستهين بها فهو مستخفّ بالإسلام مستهين به؛ وما أظنّ في لغات البشر أدلّ من هذا الحديث على خسارة المستخفّ بصلاته لشفاعتهم سلام الله عليهم.
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
إنّ من أوائل الوجوه التي تَسوَد يوم القيامة وتُسلّط عليها النيران هي وجوه تاركي الصلاة، كونهم من المتكبّرين عن عبادة الله تعالى، وتأمّل معي أيّها القارئ الكريم دعاء المولود الذي ولد في قبلة الصلاة واستشهد في محرابها أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول في الدعاء الذي رواه عنه كميل بن زياد: "وليت شعري يا سيّدي وإلهي ومولاي، أتُسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة، وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيّتك محقّقة،وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظنّ بك ولا أُخبرنا بفضلك عنك يا كريم"[24]، ومن محراب حفيده السجّاد زين العابدين عليه السلام كانت تنطلق مناجاة الخائفين، فيُسمع صوته بأبي هو وأمي قائلاً: "إلهي هل تُسوّد وجوهاً خرّت ساجدة لعظمتك؟"[25].
حاشا لله تعالى العادل أن يُسوّد وجوهاً وضعت على الصعيد تذلّلاً لعظمته، وتقرّباً إليه جلّ شأنه، وعلى العكس تماماً، فمن تكبّر عن عبادة هذا الربّ العظيم بعد أن جاءته البيّنات، فإنّ الأثر الأخروي سوف يكون بحشره يوم القيامة أسود الوجه، وقد سُلب منه نور الإيمان: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾[26].
مصداق واضح وجلي
الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا تُترك لأيّ حال من الأحوال حتى للغريق المشرف على التلف، بل تجب ما دامت الحياة، فلا يجوز التفريط بها لا في الإقامة، ولا في السفر، ولا في حالة الصحة، ولا في حالة المرض، ولا في حالة السلم، "ولا في حالة الحرب هناك حيث المقاتل الذي يواجه الأخطار على حياته ووجوده، وتأتي الصلاة في هذه الحال بالذّات - حال الخوف - لتربط الإنسان بمصدر الأمن والسلام والطمأنينة للقلوب وانسجام المشاعر وتلاقيها ليعيش الإنسان في الآفاق الملكوتية روح الطهر والخلوص ليُصبح قادراً على التخلّص ممّا يربطه بهذه الدنيا ويشدّه على هذه الأرض ليخلد إليها ويحجبه ذلك عن مصدر القدرة وعن الانطلاق في رحابه وفي آفاق ملكوته ومعاينة دلائله وتلمّسها والتصديق بها، ولربما يُراود ذهن البعض سؤال عن السبب في الإصرار على الصلاة جماعة حتى في حال الحرب، مع أنّ بالإمكان أن يُصلّي المسلمون فراداً متفرّقين، مع الاحتفاظ بمواجهة العدوّ بالكثرة العددية في ساحة القتال، خصوصاً مع اتساع الوقت لأداءالصلاة بصورة متوالية من العناصر، بحيث لا يدخل ذلك بالحالة التي يتخذونها تجاه العدو بهدف إرهاقه. أو دفع شرّه. وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ هذا أمر مقصود لله عزّ وجلّ، لأنّه يُمثّل مطلباً أساسياً في أكثر من اتجاه.فهو من جهة يُمثّل إصرار المسلمين على الجهر بمعتقداتهم، وممارسة حقّهم بحرّية التعبير عنها، وحرّية ممارسة شعائرهم الدينية. رضي الناس ذلك أم غضبوا. كما أنّه يُمثّل إظهاراً للالتزام بالقيادة المثلى، والاقتداء بها. والتلاقي عليها ومعها لتكون رمز وحدة الأمة، من خلال وحدة الهدف، ثم وحدة الموقف، وانتهاءاً بوحدة المصير... فصلاة الخوف شعار وموقف وبلاغ ودعوة وتصميم ووحدة وخلوص والتفاف حول القيادة وتربية وتعليم وتحدٍّ ثم هي حرب نفسية وسلاح قاطع. وليس ثم رسالة أبلغ منها للعدوّ ليعرف أنّ هؤلاء الناس قد بلغوا من إصرارهم على مواقفهم، وتمسّكهم بمبادئهم وفنائهم فيها حدّاً يجعلهم يرون قضيّتهم ودينهم ودعوتهم هي الأهمّ من كلّ شيء وأنّ حياتهم وكلّ شيء يملكونه لا بدّ أن يكون لها ومن أجلها وفي سبيلها وهم يُمارسون ذلك عملاً، ويُقدمون على البذل والعطاء في سبيله بكل رضى ومحبة وصفاء وسخاء"[27].
ولقد كان لسان حال شهداء المقاومة الإسلامية المظفّرة، ومجاهديها الأشاوس ناطقاً على الدوام:
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبّروا في مسمع الروح الأمين فكبَّرا
ونستفيد من صلاة الخوف على هذه الكيفيات العجيبة والتنظيم الدقيق: أهمّية الصلاة في الإسلام، وأهمّية صلاة الجماعة بالذّات ; فإنّهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة، كما نستفيد كمال هذه الشريعة الإسلامية، وأنّها شرّعت لكلّ حالة ما يُناسبها، كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمّة، وسماحة هذه الشريعة، وصلاحيّتها لكلّ زمان ومكان. فهل يستبيح مسلم لنفسه بعد أن عرَف أهمّية الصلاة وفضلها أن يتركها أو يتهاون بها؟! والحقّ أنّ أهميّة الصلاة أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر لذلك رأينا علينا لزاماً أن نكتب عن مكانة الصلاة ومنزلتها.
[1] كما سيأتي في الدرسين الرابع والثامن، حيث استعرضنا العديد من الروايات هناك.
[2] سورة مريم، الآية 31.
[3] سورة الإسراء، الآيتان 78، 79.
[4] سورة هود، الآية 114.
[5] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 7، ص 47، باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم و فاطمة و الأئمة عليهم السلام و وصاياهم.
[6] الأطناب جمع الطنب، وهو حبل الخباء والخيمة، لسان العرب ج 1، ص 560.
[7] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 264، باب فضل الصلاة.
[8] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص 23، 6 - باب تحريم الاستخفاف بالصلاة و التهاون بها.
[9] المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 12، ص 63.
[10] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص 71، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.
[11] سورة طه، الآية 14.
[12] سورة المنافقون، الآية 9.
[13] سورة المدثر، الآيتان 42 - 43.
[14] الفقيه المُحْدّث الشيخ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 31، 8 - باب وجوب إتمام الصلاة و إقامتها.
[15] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 82، ص 227.
[16] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الأمالي، ج 1، ص 267، المجلس الحادي والثلاثون، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، قم.
[17] بحار الأنوار، ج 83، ص 25.
[18] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج 2، ص 359، 77 باب علة التسليم في الصلاة.
[19] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 118، 3 - باب استحباب الصلاة في أول الوقت.
[20] رسالة الإمام الخامنئي إلى المؤتمر السنوي الحادي والعشرين للصلاة، 1434 هـ.
[21] سورة طه، الآية 109.
[22] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج 1، ص 79، عقاب من تهاون بالصلاة.
[23] م. ن.
[24] قال العلامة المجلسي رحمه الله: إنّه أفضل الأدعية وهُو دُعاء الخضر عليه السلام وقد علّمه أمير المؤمنين عليه السلام كميلاً، وهُو من خواصّ أصحابه، ويُدعى به في ليلة النّصف مِن شعبان وليلة الجمعة ويُجدي في كفاية شرّ الأعداء، وفي فتح باب الرّزق، وفي غفران الذّنوب، وقد رواه الشّيخ والسيّد كلاهما (قدس سرهما).
[25] الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، الصحيفة السجادية الكاملة.
[26] سورة آل عمران، الآيتان 107 - 108.
[27] العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 8، ص 310، ط 4: دار الهادي..