أنواع الصدق
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق أشرف خلائق الموقن"1.
أنواع الصدق
ينبغي للمؤمن أن يكون صادقاً مع نفسه، ومع ربّه، ومع الناس، وفي نيّته، وأقواله، وأفعاله، ولذا الصدق على أنواع، نذكرها على الشكل الآتي:
الأوّل: الصدق مع النفس
عبارة عن الصراحة والوضوح مع النفس، فالمؤمن الصادق لا يخدع نفسه، ويعترف بعيوبه وأخطائه، ويصحّحها، فهو يعلم أنّ الصدق طريق النجاة. وما لم يكن الإنسان صادقاً مع نفسه فلا يمكنه أن يحقّق أيّ نوع من أنواع الصدق. والصدق مع النفس بداية التغيير، يقول الأديب الروسيّ تولستوي: "كلّ واحد يفكّر في تغيير العالم، ولكن لا أحد يفكّر في تغيير نفسه".
وهناك عدّة خطوات للوصول إلى الصدق مع النفس، نذكر منها:
1- معرفة النفس:
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "العارف مَن عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يبعدها ويوبقها"2، وقال: "مَن عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها"3. وقال: "مَن لَم يَعرِف نَفسَهُ بَعُدَ عَن سَبيلِ النَّجاةِ، وخَبَطَ فِي الضَّلالِ والجَهالاتِ"4.
2- التمييز بين الأمور السيّئة والحسنة:
ومعرفة أنّ السيّئة مصدرها العبد، والحسنة مصدرها الله، قال سبحانه: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ﴾5, عَنْ الإمام الرِّضَا، قَالَ: سَأَلْتُه، فَقُلْتُ: اللَّه فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَى الْعِبَادِ، قَالَ: اللَّه أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ: اللَّه، أَعْدَلُ وأَحْكَمُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "اللَّه يَا ابْنَ آدَمَ! أَنَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ وأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، عَمِلْتَ الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ"6.
\3- تخصيص وقت معين للمحاسبة:
احرص على تخصيص وقت معيّن كلّ يوم للتفكير بشكل عميق في أفعالك وحاسب نفسك، قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾7, قال الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ولَا يَكنْ لَه رَجَاءٌ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه، فَإِذَا عَلِمَ اللَّه عزّ وجلّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِه لَمْ يَسْأَلْه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ لِلْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً، كُلُّ مَوْقِفٍ مِقْدَارُه أَلْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ تَلَا: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾8,9.
الثاني: الصدق مع الله
ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو تمحيض النيّة وتخليصها لله، بألّا يكون له باعث في طاعاته، بل في جميع حركاته وسكناته، إلّا الله. فالشوب يبطله ويكذّب صاحبه10. فمن عمل عملاً لم يخلص فيه النيّة لله، لم يتقبّل الله منه عمله، والمسلم يخلص في جميع الطاعات بإعطائها حقّها وأدائها على الوجه المطلوب منه.
قال تعالى: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾11, فقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾12.
قال تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾13, وقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾14.
الآية الأولى تقول بأنّ هولاء ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان، أو فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ في دينهم ودنياهم من نفاقهم15.
والآية الثانية تقول: إنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرّة. وفي مرحلة أخرى يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور: بالإيمان، وفي محبّة الرسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ16.
الثالث الصدق مع الناس
العبوديّة التي شرَّعها الإسلام هي عبوديّة إنسانيّة بكلّ معنى الكلمة، وهناك عناوين كثيرة في هذا المجال بيّنتها الروايات الشريفة، نذكر منها:
1- حسن التعامل مع الناس من شروط نيل رضا الله تعالى:
قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "أربعٌ من كنَّ فيه كمُل إسلامه، ومُحِّصَتْ عنه ذنوبه، ولقيَ ربّه وهو عنه راضٍ: من وفى لله بما يجعل على نفسه للناس، وصدَق لسانه مع الناس، واستحيا من كلّ قبيح عند الله، وعند الناس، ويُحَسِّن خلقه مع أهله"17.
2- الصدق مع الناس والأمانة شرط لقبول العبادات:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، أنظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"18.
الرابع: الصدق في الأحوال، في النيّات:
يرتبط الصدق بالنيّة، وفي جميع الأحوال بالإخلاص لله تعالى، الذي هو غاية الدين، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
"الإخلاص غاية الدين"19، وهو أفضل العبادات، بل هو روح العبوديّة لله وجوهرها، كما أخبر عن ذلك إمامنا الصادق عليه السلام: "أفضل العبادة الإخلاص"20. وهو سرّ من أسرار الله، استودعه في قلوب من اجتباهم لقربه وولايته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبراً عن جبرئيل عليه السلام عن الله عزّ وجلّ، أنّه قال: "الإخلاص سرٌّ من أسراري، استودعته قلب من أحببت من عبادي"21.
وحقيقة الإخلاص تخليص نيّة الإنسان وعمله من شائبة غير الله تعالى، وهو لا يتصوّر إلّا ممّن كان محبّاً لله عزّ وجلّ، ومستغرق الهمّ في الآخرة، بحيث لا يبقى لحبّ الدنيا وشهواتها وملذّاتها وسمعتها وجاهها ومناصبها في قلبه قرار، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يُحمد على شيءٍ من عمل لله"22. فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أيّ عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصد أو دافع سوى رضاه، والتقرّب إليه، ونيل الزّلفى لديه. فالأعمال مرهونة بالنيّات، وإذا لم تكن النيّات خالصةً وصادقة، فهذا يعني أنّه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾23, لأنّ الشّرك ظلم عظيم ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾24, وهو ما يستلزم أن تكون بواعث الأعمال والأقوال كلّها لله عزّ وجلّ، وأن يكون ظاهر العبد معبّراً عن باطنه. الصدق في الأحوال يقتضي حسن الانقياد والإذعان، والخضوع والإخلاص، والخوف والرجاء، والرضا والتوكّل والمحبّة والحياء، والإجلال، والتعظيم لله وحده...
الخامس: الصدق في الأقوال
الصدق في القول، وهو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه، وكمال هذا النوع بترك المعاريض25 من دون ضرورة، حذراً من تفهيم الخلاف، وكسب القلب صورة كاذبة، ورعاية معناه في ألفاظه التي يناجي بها الله سبحانه، فمن قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾26 وفي قلبه سواه، أو قال: "إيّاك نعبد" وهو يعبد الدنيا بتقيّد قلبه بها، إذ كلّ من تقيّد قلبه بشيء فهو عبد له، كما دلّت الأخبار، فهو كاذب27.
فالصدق في القول يستوجب على المؤمن أن يحفظ لسانه فلا يتكلّم إلّا بصدق ولا ينطق إلّا بحقّ، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه، كما ورد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قَالَ: "ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ"28.
السادس: الصدق في الأعمال
الصدق في الأعمال: وهو تطابق الباطن والظاهر، واستواء السريرة والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، بألّا تدلّ أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتّصف هو به، لا بأن يترك الأعمال، بل بأن يستجرّ الباطن إلى تصديق الظاهر، وهذا أعلى مراتب الإخلاص، لإمكان تحقّق نوع من الإخلاص بما دون ذلك، وهو أن يخالف الباطن الظاهر من دون قصد، فإنّ ذلك ليس رياء، فلا يمتنع صدق اسم الإخلاص عليه29.
ويتحقّق الصدق في الأعمال بالآتي:
1- استواء السريرة والعلانية في الحقّ، بأن يكون الباطن مثل الظاهر، أو خيرًا منه، فتكون الأعمال الصالحة الظاهرة التي يقوم بها المسلم ترجمة صادقة لما هو مستقرّ في باطنه، أي لتكون سريرته وعلانيته واحدة.
2- الإتقان في كلّ عمل صالح يقوم به المؤمن، بأداء الأعمال والحقوق كاملة مُوَفّرة، فلا بخس ولا غشّ ولا خداع ولا ظلم.
3- الصدق في الأعمال يقتضي أن يكون العبد مطيعاً لربّه ممتثلاً لأمره، ومجتنباً لنهيه، آخذاً بكتابه مقتدياً بسنّة رسوله ونهج أهل بيته.
هوامش
1- الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 295.
2- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص53.
3- م.ن، ص453.
4- الريشهري، محمّد: ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج3، ص 1876.
5- سورة النساء، الآية 79.
6- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 157،باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ح3.
7- سورة الإسراء، الآية 14.
8- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 143، حديث النفس، ح108.
9- سورة السجدة، الآية 5.
10- النراقي، ملا محمّد مهدي: جامع السعادات، ج2، ص 258، تحقيق: السيّد محمّد كلانتر، تقديم: الشيخ محمّد رضا المظفر، النجف الأشرف، مطبعة النعمان، ط4.
11- سورة محمد، الآية 21.
12- سورة الأحزاب، الآية 23.
13- سورة محمد، الآية 21.
14- سورة الحشر، الآية 8.
15- الملا فتح الله الكاشاني، زبدة التفاسير، ج6، ص 359.
16- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، مصدر سابق، ج18، ص 192.
17- الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص223.
18- الصدوق، محمّد بن بابويه: عيون أخبار الرضا، تحقيق: الشيخ حسين الأعلميّ، 1404- 1984م، بيروت، مطابع مؤسّسة الأعلميّ، الناشر: مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات.
19- الآمديّ، غرر الحكم، 1340.
20- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص249.
21- م. ن، 214.
22- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص304.
23- سورة النساء، الآية 48.
24- سورة لقمان، الآية 13.
25- ترك المعاريض، وهي جمع معراض كمفتاح، الكلمات المورّى فيها بالقصد إلى معنى غير ما يتبادر إلى الفهم من ظاهر اللفظ من غير ضرورة دينيّة أو دنيويّة.
26- سورة الأنعام، الآية79.
27- النراقي، جامع السعادات، مصدر سابق، ج2، ص258.
28- الكافي، الشيخ الكلينيّ، مصدر سابق، ج2، باب حق الدار، ح6، ص 667.
29- النراقي، جامع السعادات، مصدر سابق، ج2، ص259.
1903 مشاهدة | 12-07-2018