الهدف من إرسال الأنبياء
جاء الأنبياء ليرشدوا البشر إلى طريق بناء النفس وتزكيتها. جاءوا ليطهّروا النفوس الإنسانية من الرذائل والأخلاق السيئة والصفات الحيوانية، وليعلّموهم الفضائل ومكارم الأخلاق: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1. جاءوا ليرشدوا الناس إلى طريق طيّ مدارج الكمال ونيل مقام القرب الإلهي، وليأخذوا بأيديهم إلى مقام الإنسانية الشامخ، وليقولوا لهم إنكم لستم كالحيوانات بل يمكنكم أن تكونوا أفضل من الملائكة أيضاً، وإن زخارف الدنيا الفانية والمظاهر الحيوانية من شهواتٍ وأهواء لا تنسجم مع مقامكم الملكوتي الشامخ. لقد اهتمّ الإسلام بالأخلاق اهتماماً خاصاً، حتى أن أكثر القصص القرآنية لو تأمّلنا فيها جيداً لوجدنا أن أهدافها في الحقيقة أخلاقية. كما أن الأجر والثواب الذي ذكر للأخلاق الحسنة ليس أقلّ من الثواب الموضوع لسائر الأعمال، والعقاب والوعيد الذي جاء لذوي الأخلاق السيئة ليس أقل من التهديد الوارد في حق سائر الأعمال السيّئة، حتى قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق"2. والسبب في ذلك أن الأمور الأخلاقية تشكّل أساس الإسلام، بل هي الدين بعينه كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله أحدهم: "يا رسول الله ما الدين؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: حسن الخلقِ"3.
أمّارية النفس بالسوء مرض خطير
إن النفس الإنسانية وصفاتها هي منشأ الأعمال والأفعال والأقوال لدى الإنسان، وإذا صلحت هذه النفس وصلحت صفاتها وأخلاقها، صلحت بالتالي الأعمال الصادرة عنها، وكانت منشأ للحسنات والنجاة في الدنيا والآخرة، وإذا فسدت صفاتها وأخلاقها كانت منشأ للسيئات والهلاك. وسوء الخلق في الحقيقة مرضٌ يصيب النفس فتصبح أمّارة بالسوء، أما النفس الإنسانية في الأصل فهي مفطورةٌ على التوحيد وحب الخير ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾4، بل هي جوهرةٌ ثمينة وأمرٌ ملكوتيُّ شريف، وهي منشأ كل الفضائل والقيم الإنسانية كما عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إن النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها"5. ولكن بسبب انغماس الإنسان في الشهوات الحيوانية والإسراف في الملذّات الدنيويّة الفانية فإن نفسه تمرض فتصبح أمّارةً بالسوء.
فالنفس مثل البدن، فكما أن بدن الإنسان يُبتلى بالعلل والأمراض، كذلك نفسه أيضاً - التي يعبّر عنها أحيانا في الآيات والروايات بالقلب أو الروح - تصاب هي الأخرى بالمرض، وما لم يبادر الإنسان إلى علاجها ومحاربة آفاتها، فإنها تصبح موجوداً شريراً وعدواً للإنسانية ومنشأً للسيئات والأعمال القبيحة، وسبباً في شقاوة الإنسان وتعاسته. يقول إمامنا الخميني قدس سره: "مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة"6. فانصياع الإنسان لأهوائه النفسية (من الأنا وحب النفس والجاه والمنصب و..)، وشهواته الحيوانية (من المأكل والمشرب وغريزة الجنس) وانجرافه خلفها من دون أي وازعٍ أو رادعٍ سيؤدّي إلى مرض قلبه ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَض﴾7. وكما نعرف فإن الحياة الحقيقية في الآخرة، وسعادة الإنسان وشقاءه، مرتبطة بشكل أساسي بأوضاع القلب وحالته، فكل الجوارح والأعضاء مسخّرة له، وكل الأعمال والحركات نابعة منه، ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾8. ولما سُئل إمامنا الصادق عليه السلام عن القلب السليم في الآية الشريفة، قال عليه السلام: "هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا"9.
فالمشكلة إذاً تكمن في الغرائز الحيوانية والأهواء النفسية لأنها لا تتوقف عند حدّ معيّن، وليس لها هدفٌ إلا الإشباع الكامل. فالالتذاذ بالمأكولات والمشروبات، وحب الإنسان للمال والجاه والمنصب والشهرة وزينة الحياة وشهوة الغضب لا يتوقف عند حدّ. وإذا انقاد الإنسان لهذه الشهوات الحيوانية والأهواء النفسية صار عبداً مقهوراً لها، وأسيراً خاضعاً لإملاءاتها، إلى أن تتحكّم به وتصبح هي الآمر الناهي في مملكة وجوده فيخرج بذلك عن عبودية الحق ويدخل في طاعة النفس التي تأمره بما يخالف أمر الإله وأحكامه المقدسة، فيقع في الذنب والمعصية، ويصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾10.
ويقول الإمام الخميني قدس سره مبيّناً هذه الحقيقة: "اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه. ومعنى العبودية لشخصٍ هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات، المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة، ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي"11. وإذا أصبح الإنسان عبداً لأهوائه وشهواته وصارت نفسه أمّارة بالسوء عندها لن تكون مصدراً للملكات والأخلاق الفاضلة وبالتالي الأعمال الصالحة وهو الخسران المبين كما يقول الإمام قدس سره أيضاً: "إن الملكات إنما تكون فاضلةً حين لا تتصرّف النفس الأمارة بالسوء فيها، ولا يكون لخطوات النفس دورٌ في تشكيلها"12.
من هنا فإن سيطرة الإنسان على أهوائه وضبط رغباته يعدّان أمراً ضرورياً. فنفس الإنسان كفرسٍ جموح غير مروّض، إذا لم يعمل على تهدئته بالرياضة والتمارين فلن يتمكّن من الاستفادة منه، وإذا بقي على اضطرابه وهيجانه فسيؤدي به إلى الهاوية حتماً، كما قال مولى الموحدين عليه السلام: "إغلبوا أهواءكم وحاربوها، فإنها إن تقيّدكم توردكم من الهلكة أبعد غاية"13.
إذاً، لا نجاة للإنسان إلا بجهاد النفس وتهذيبها. وترويضها ليس بالأمر السهل، فهي سوف تقاوم في البداية ولكن لو صبر الإنسان وبقي يقظاً فستستسلم للحق في النهاية. وهذا أفضل من تركها لأن النفس الأمّارة إذا تركت وشأنها دفعت الإنسان وأوقعته في المفاسد. والسؤال الملحّ الذي يطرح نفسه الآن أنه كيف يجاهد الإنسان نفسه؟ وما هو السبيل الأفضل إلى ذلك؟
جهاد النفس لا يتحقّق إلا بأمرٍ واحد، هو مخالفة هذه النفس والعمل على خلاف ما تريده وترغب به كما يبيّن الإمام قدس سره: "فإن الأسلوب الوحيد للتغلب على النفس الأمّارة، وقهر الشيطان، ولاتّباع طريق النجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما"14. ولكن السؤال المهم هنا أنه كيف يخالف الإنسان نفسه وهواه؟ بمعنى آخر ما هو البرنامج العملي الذي ينبغي للإنسان اتّباعه لكي يخرج من أسر الهوى والنفس الأمّارة؟ الجواب: إن الطريق العملي يكمن في أمرٍ واحدٍ هو:
اتّباع الشريعة الإلهية
لأن الطبيعة البشرية إذا تُركت وشأنها واتّبعها الإنسان بلا حسيبٍ ولا رقيب أعمته عن الحق وشغلته بغيره. حتى إذا استحكمت فيه هذه الطبيعة جرّته نحو الفساد وجعلته عرضةً للأمراض المختلفة. فهذه النفس كما قيل إن لم تشغلها شغلتك، وليس هناك أفضل من شريعة الحق ليشغل الإنسان نفسه، الشريعة بما تعنيه من تركٍ للمحرمات التي نهت عنها، والإتيان بالواجبات التي أمرت بها.
بمعنى آخر، إن طاعة الله والالتزام بأحكامه هما الطريق الأسلم الذي من خلاله يستطيع الإنسان أن يخالف نفسه فيكون على الدوام في حالة طاعة وعبودية لله عز وجلّ لا للنفس الأمّارة، وهو ما يعرف بالتقوى أيضاً. فالتقوى من مادة الوقاية، وتعني وقاية النفس وحفظها والسيطرة عليها، وهي "تقيّد الإنسان وتعهده بطاعة القوانين والالتزام بأحكام الشرع"15.
وعرّفت في الآيات والروايات بأنها أفضل زاد الآخرة، والسبيل الوحيد للسعادة والراحة الأبدية: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾16، ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ﴾17. ولقد عرّف أمير المؤمنين التقوى بأنها رئيسة الأخلاق وأفضل وسيلة لنيل السعادة حيث قال عليه السلام: "التقى رئيس الأخلاق"18، وقال عليه السلام أيضاً: "فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء غشاء أبصاركم"19.
فبالتقوى والطاعة المستمرة لله تعالى يخرج الإنسان من سلطان النفس والأهواء ويدخل في سلطان الحق ويصبح عبداً له. ومن خلال الاستعانة بإرشادات الشرع تفنى الأهواء والشهوات في السلطة الإلهية المطلقة، ويسيطر الإنسان على غرائزه وأهوائه النفسية ويحول دون حصول الإفراط أو التفريط فيها، وينجي نفسه من الوقوع في براثن شرورها ومفاسدها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنما هي نفسي أَروضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأَكبر"20. وهي الوسيلة الوحيدة للخلاص من العذاب والطريق الوحيد لنيل الكمالات المعنوية والإنسانية الرفيعة كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر هو الامتناع عن كل ما يضرّها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبةً وأفضل من أي شيء، ومقدمةً على كل هدف، وممهدةً للتطور إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر هاتين المرحلتين، بحيث إن من يواظب عليهما يكن من الناجين السعداء، وأهمهما هي التقوى من المحرمات"21.
فالتقوى هي بمثابة الوقاية للنفس من الأمور التي يمكن أن تضرّها وتسبب الأذى لها، والمتّقي في حالة إشغالٍ دائمة للنفس فيما يرضي الله، من خلال الاتباع الدائم لأوامره ونواهيه، وبذلك يبدأ الإنسان شيئاً فشيئاً بالتخلص من سلطة النفس الأمّارة بالسوء، وإذا استمر على هذه الحال فترةً وداوم عليها بجدّ وإخلاص فمن المتوقّع أن تتعافى هذه النفس بالكامل فتصبح مطمئنةً وتدخل جنته راضيةً مرضيةً طاهرةً مطهّرةً من كل رجزٍ وسوء،﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾22.
المراقبة
إن سعي الانسان لاتّباع الشريعة يفرض عليه أن يراقب نفسه. والمقصود من المراقبة مراقبة العبد لربه في نفسه وفي أعماله وسكناته وقلبه، وهي من العوامل المهمة والفعّالة في عملية بناء النفس وتهذيبها. فالإنسان الراغب في تطهير نفسه ونيل السعادة الحقيقية لا يمكن أن يغفل عن عيوبه وأمراض نفسه، بل عليه أن يكتشف هذه العيوب ليتمكّن من معالجتها. ولا سبيل أمام الإنسان لمعرفة هذه العيوب إلا بالمراقبة، بحيث تكون ملكاته وأخلاقه وأعماله وحتى أفكاره تحت مجهره ونظره بالكامل. وإمامنا الخميني قدس سره يؤكد على وجوبها حين يقول: "فيجب على الإنسان في هذه الدنيا أن يراقب النفس الأمارة كثيراً، إذ ربما تقوم بعملية التعتيم للحقائق على الإنسان وتذليل الصعوبات وتسهيلها، مع أنها توجب الشقاء الدائم والخذلان الأبدي"23. والمراقبة لا تكشف العيوب فقط، بل أثناء المراقبة إذا لاحت له معصيةٌ تذكّر الله وحساب يوم القيامة فوراً فيتركها. وهكذا يكون المراقب لنفسه في حالة سيطرةٍ دائمةٍ على نفسه يملكها ويمنعها من السيئات. وهذا البرنامج من أفضل وسائل تهذيب النفس.
بالإضافة إلى أن المراقب لنفسه يكون طوال اليوم مستذكراً للواجبات والأعمال الصالحة وفعل الخيرات فلا يضيع وقته فيما لا فائدة منه لآخرته فتصبح حياته كلها عامرةً بطاعة الله وذكره. وبذلك تكون المراقبة عاملاً مساعداً في عملية تهذيب النفس ومجاهدتها.
* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- مستدرك الوسائل، ج2، ص282.
2- الكافي، ج2، ص 99 .
3- بحار الأنوار، ج68، ص393 .
4- الروم، 30.
5- غرر الحكم، ص 226.
6- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.
7- البقرة، 10.
8- الشعراء، 88 ـ 89.
9- مستدرك الوسائل، ج 12، ص 40.
10- الجاثية، 23.
11- الأربعون حديثاً، الحديث السادس عشر، في بيان أن أسر الشهوة مصدر كل أسر.
12- م.ن، الحديث الثاني، الرياء في العمل.
13- غرر الحكم، ج1، ص 138.
14- الأربعون حديثاً، الحديث الرابع، في بيان معالجة الكبر.
15- تزكية النفس وتهذيبها، ابراهيم الأميني، ص105.
16- البقرة، 197.
17- الطور، 17.
18- غرر الحكم، ص 271.
19- نهج البلاغة، خطبة 198.
20- نهج البلاغة، خطبة45.
21- الأربعون حديثاً، الحديث الثاني عشر، في بيان التقوى العامة.
22- الفجر، 27 - 30.
23- الأربعون حديثاً، الحديث التاسع والعشرون، بيان مفاسد الخيانة وحقيقة الأمانة.