قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾1.
المقدَّمة:
تعتبر الحواسّ من الألطاف الربانية والنعم الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان والتي لولاها لكانت الحياة شبه مستحيلة، إلّا أنّ هذه الحواسّ هي كذلك مسؤولية كبرى على عاتق الإنسان كما بيّن القرآن الكريم، فمن صانها وصقلها وأحسن استخدامهافيما أحلّ الله جعلها طريقاً إلى الجنة والرضوان، ومن تركها على هواها وألقى حبلها على غاربها قادته إلى العذاب والشقاء، ولذلك نجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد شدّد في خطبته الغرّاء في استقبال شهر رمضان على ضرورة تهذيب الجوارح سيّما اللسان، والعين،والأذن، من خلال الكلام الآثم والنظر المحرّم، والاستماع إلى المحرّمات، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم"2.
محاور الموضوع
وسنقتصر في الكلام هنا على المراقبات الخاصّة باللسان والبصر والسمع.
مراقبات اللسان
جاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ اللسان فإكرامه عن الخنى وتعويده على الخير وحمله على الأدب وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لايؤمن ضررها مع قلّة عائدتها، ويعد شاهد العقل والدليل عليه وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
واللسان من أكثر الأعضاء التي تحتاج إلى مراقبة وحذر سيّما خلال الشهر المبارك، والأصل الذي يجب اعتماده هو أصل السكوت والصمت، فالأصل في الإنسان الصمت وعدم الكلام إلا لحاجة، بخلاف ما يتوهّمه البعض من أنّ الإنسان يجب أن يتكلمفي كلّ شيء سواء فيما يعنيه أو ما لا يعنيه، بل ترى الكثيرين في مجتمعاتنا اليوم يتنافسون في المجالس على كثرة الكلام بعيداً عن نوع هذا الكلام وأهميته وحاجة المستمعين له ومناسبته للمقام والمقال ورغبة المستمعين بالسماع وإلى غير ذلك منالأمور التي يجب مراقبتها فيما نقوله ونتحدث به.
فالصمت نجاة وسلامة ووقار وحاجز دون الإثم والمعصية وخصلة من خصال الإيمان والورع والحكمة التي جعلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل أعمال الشهر.
مراقبات العين
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾3. وقال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾4. وجاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ البصر فغضُّه عمّا لا يحلّ لك، وتعتبر بالنظر به، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل به بصراً أو تستفيد به علماً، فإنّ البصر باب الاعتبار"5.
ويبين الإمام السجّاد في هذا المقطع أموراً ثلاثة لا ينبغي للبصر أن يتجاوزها:
1- الغضّ عن الحرام: ونؤكّد هنا على بعض المحرّمات التي تبثّ عبر الشاشات وما تحويه من برامج خلاعية وماجنة وعبثية وما تعرضه المواقع الالكترونية من فساد وإظهار لمفاتن الجسد والمشاهد المثيرة والبذيئة التي تتنافى مع أبسط قواعدالحشمة والأخلاق.
كما يجب التنبيه على ضرورة مراعاة هذا الشهر الكريم في الإعلانات والدعايات والصور التي تعرض في الشوارع والتي تخالف عفَّة المجتمع وتقوّي الإغراءات وتساهم مساهمة كبرى في تدمير المجتمع.
2- جعل النظر وسيلة للإعتبار: أوليس كلّ ما في الوجود من السموات والأرضين والبحار والنجوم بل والمجرّات وأسرار الخلق في الإنسان والحيوان والنبات والجماد كله يقودك إلى عظمة هذا الخالق وكمال صفاته وضرورة السباحة في فلكه وإطلاق كمال العبودية له؟
3- الاستفادة منه في كسب العلوم والمعارف: وذلك من خلال المطالعة وقراءة الكتب والإصدارات النافعة وقراءة القرآن والأدعية والقيام بالأنشطة المناسبة لحرمة الشهر.
ومن المهمّ الإشارة إلى ما يمكن للمرء أن يستعين به على غضّ البصر كما دلّت على ذلك النصوص، فعن الإمام الصادق عليها السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغض البصر، فإنّ البصر لا يغضَّ عن محارم الله إلا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمةوالجلال"6.
وسئل أمير المؤمنين عليه السلام: "بمَ يستعان على غضّ البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطَّلع على سترك"7.
مراقبات السمع
قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾8.
وقال تعالى: ﴿لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾9.
والسمع من أعظم النعم إن وعى المرء ما يسمع وفقه ما يدخل أذنيه، بل لعلّ الآية المتقدّمة جعلت السمع عدل العقل إن وعت القلوب، وأمّا مع غفلة القلوب فلا سبيل للهداية أبداً، وقال تعالى: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾10.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾11.
وهذا ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فيا لها أمثالاً صائبة، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوباً زاكية، وأسماعاً واعية"12.
وجاء في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً أو تكسب خُلُقاً كريماً فإنه باب الكلام إلى القلب يؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شرّ ولا قوّة إلا بالله"13.
ومن هنا فليراقب كلٌّ منا ما يسمع من قول، فإنّ المستمع للغِيبة شريك القائل والمستمع للموسيقى يُنبت النفاق في قلبه والمستمع للوشاية يُضعف لحمة المسلمين ناهيك عن التملّق والغشّ والأيمان الكاذبة وقول الزور والتنصّت على أسرار الناس وغيرذلك مما يدخل في الأسماع فيتحول وقراً على القلوب فيمنع من وعي ما سمعت أو تعقّل ما أدركت.
هوامش
1- سورة الاسراء، الآية 36.
2- الأمالي، ص 154.
3- سورة النور، الآيتان 30 ـ 31 .
4- سورة غافر، الآية 19 .
5- شرح رسالة الحقوق، ص 145.
6- بحار الأنوار ، ج101 ، ص41 .
7- نفس المصدر .
8- سورة الملك، الآية 10.
9- سورة الحاقة، الآية 12.
10- سورة الأعراف، الآية 198.
11- سورة الأعراف، الآية 179.
12- نهج البلاغة، ج1، ص 137.
13- تحف العقول، ص 279.