من أبرز الآيات التي تتحدث عن تقوى الله عز وجل، وأثر ذلك في حياة الإنسان، آية "ومن يتق الله..." في سورة الطلاق، حيث إن هذه الآية المليئة بمداليل التوحيد الأفعالي، والتي في قراءتها والتأمل بها حياة قلوب المتألمين والمهمومين في هذه الحياة الدنيا، تربط بين تقوى الله تعالى وبين انفتاح أبواب الفرج وتسهيل الأمور ووصول الرزق غير المحتسب.
ويتعرض السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان لهذه الآية في تفسيره، ويبين بالدقة ما هي التقوى التي توجب تحقق ما رُبط بها من نتائج بحال أتى بها الإنسان على الوجه المطلوب. يقول قدس سره:
بالنظر إلى إطلاق آية سورة الطلاق في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه، ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ثم تورعه واتقاؤه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم، ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أو ترك، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله. ولازم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكاً مطلقا لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء وهو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شئ إلا ما ملكه الله سبحانه وهو المالك لما ملكه والملك لله عز اسمه. وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية "ويجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب"، أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه والأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها وما كان يعلم من الأسباب إلا قليلا من كثير كقبس من نار يضئ للانسان في الليلة الظلماء موضع قدمه وهو غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها. وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي تعيش به النفس الانسانية وتبقى فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه.
وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا لأنه توكل على الله وفوض إلى ربه ما كان لنفسه "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" دون سائر الأسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أخرى "إن الله بالغ أمره" لأن الأمور محدودة محاطة له تعالى و"قد جعل الله لكل شئ قدرا" فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به. وهذا نصيب الصالحين من الأولياء من هذه الآية. وأما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث المعرفة والعمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الايمان والعمل الصالح وقد قال تعالى وأطلق: "والله ولي المؤمنين" آل عمران: 68، وقال وأطلق: "والله ولي المتقين" الجاثية: 19. وتدينهم بدين الحق وهي سنة الحياة وورودهم وصدورهم في الأمور عن إرادته تعالى هو تقوى الله والتوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون من سعادة الحياة بحسبه ويجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وحسبهم ربهم فهو بالغ أمره وقد جعل لكل شئ قدرا. وعليهم من حرمان السعادة قدر ما دب من الشرك في إيمانهم وعملهم وقد قال تعالى: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" يوسف: 106، وقال وأطلق: "إن الله لا يغفر أن يشرك به" النساء: 48. وقال: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا" طه: 82، أي لمن تاب من الشرك وقال وأطلق: "واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" المزمل: 20. فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفي الشرك الذي دونها. والآية من غرر الآيات القرآنية وللمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها.
ثم يستعرض صاحب الميزان مجموعة من الروايات المتعرضة لهذه الآية، نذكر بعضاً منها:
عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية. قال: أتلوت كتاب الله عز وجل؟ "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" وقال: " ولئن شكرتم لأزيدنكم " وقال: "ادعوني أستجب لكم".
عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" قال: في دنياه.
عن سالم بن أبي الجعد قال: نزلت هذه الآية: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا" في رجل من أشجع أصابه جهد وبلاء وكان العدو أسروا ابنه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اتق الله واصبر، فرجع ابن له كان أسيرا قد فكه الله فأتاهم وقد أصاب أعنزا فجاء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي لك.
* آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي (قدسره) - بتصرّف