غلب استعمال لفظ الدين عند العامة في ما يرتبط بعالم الغيب من الاعتقاد بالله تعالى، واليوم الآخر، والثواب والعقاب الأخرويين، وقد ورد استعماله بهذا المعنى في قوله تعالى: (مالك يوم الدين)[1]، وغيرها من الأمور الغيبية، باعتبار أنه اليوم الذي يجازى فيه الإنسان على كل ما فعل في الحياة الدنيا، إن خيرا فنعيم ولذة خالدة، وإن شرا فشقاء وعذاب دائم.
والدين مركوز في فطرة الإنسان، وجبلته وطبيعته، إلا أنه لشدة اهتمامه بحاضره، وذهوله عما ينتظره في المستقبل، نتيجة إخلاده إلى الأرض، واطمئنانه إلى زخارفها، واستئناسه بعالم المادة والمحسوسات، ينسى قضايا الدين إلى حين، ما دامت تسير وفق أهوائه ورغباته، فإذا ابتلي بمصيبة أو بمكروه، رجع إلى الله تعالى، إذ هو يدرك بفطرته أن الله تعالى هو القادر على إخراجه من المشاكل التي تواجهه، ولذلك يقول تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قائما أو قاعدا فإذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)[2].
ومما يدل على أن الدين مركوز في فطرة الإنسان، قوله تعالى: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى)[3]، وقوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى، سيذكر من يخشى)[4].
فإن التذكر ضد النسيان، وهما يتبادلان على ذهن الإنسان، إذ هما من الصفات المتضادة، والنسيان لا يكون إلا عن ذهول عن شيء كان موجودا في الذهن، فإذا لم يكن نسيان في البين، لا يصح التعبير بالتذكر، وإنما هو تعليم أو نحوه.
وقد ورد عن أئمة الهدى (ع) جملة من الروايات، القريبة من حد التواتر، الدالة على أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي التوحيد[5].
كما أن مما لا شك فيه، أن الإنسان، ومنذ بداياته، وعلى مدى التاريخ، أدرك أن انتظام حياته لا يمكن أن يتم إلا من خلال قوانين وقواعد، يجب أن يلتزم بها أفراد المجتمع، ليستقيم أمرهم، فأمّروا الأمراء ونصّبوا الملوك وشيوخ القبائل، وأقروا لهم بالطاعة، وسنوا القوانين والتشريعات، في ما يرتبط بكافة شؤون حياتهم، حسب ما تقتضيه حاجاتهم ومصالحهم.
ولكن ذلك لا يعني أن الإنسان قادر على إدراك تفاصيل شؤونه الدنيوية والأخروية لوحده، وبمعزل عن كل ما عداه، ومركوزية الدين في فطرته إنما هي على نحو كلي وإجمالي، ولهذا فهو بحاجة إلى توجيه وتعليم، ليستطيع أن يتعامل مع القوانين التي فيها سعادته وخلاصه، إذ من المعلوم بداهة، أنه لا يعرف كل ما يصلحه وما يفسده في هذه الحياة الدنيا، فضلا عن الحياة الآخرة.
ومما يؤثر سلبا على هذا الإدراك اختلاف سلائق الناس وطبائعهم، وكيفية تعاملهم مع ما يواجههم في هذه الحياة، مما يؤدي إلى اختلاف اعتقاداتهم ومدركاتهم، الأمر الذي يزيد من اختلال فطرتهم وجبلاتهم، ويدل عليه قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما هم فيه يختلفون)[6].
وهذا يدل على أنه لا بد لهم من معين ومرشد، يرفع عنهم غائلة الاختلاف والتنازع وبغي بعضهم على بعض، ويهديهم إلى ما فيه رشادهم وصلاحهم، وينقلهم إلى الائتلاف والوئام، فكانت الحاجة إلى بعثة الأنبياء والرسل، قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)[7].
* العقيدة في القرآن - بتصرف
[1] سورة الفاتحة آية
[2] سورة يونس آية:12
[3] سورة طه آية:1-3
[4] سورة الأعلى آية:
[5] راجع حق اليقين في معرفة أصول الدين, السيد شبر، ج1، ص9
[6] سورة يونس آية:19
[7] سورة البقرة آية: 213