إدّعى بعض أنّ الدين قد صنعه الإنسان إرضاءً لبعض الحاجات الروحية أو استغلالاً للسذّج من بني البشر، وبالتالي كلّ الأمور الدينيّة ليست من الحقيقة في شيء. وفي المقابل يقول أتباع الأديان إنّ الدين ينبع من فطرة الإنسان الداخلية، وهو أمر طبيعي وليس أمراً مصطنعاً. ولتوضيح ذلك لا بدّ من معرفة عدة أمور:
1ـ معنى الفطرة.
2ـ خصائص المعارف الفطرية.
3ـ فطرية التديّن.
معنى الفطرة
لقد استخدم القرآن الكريم كلمة الفطرة في قوله تعالى: ﴿...فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ...﴾1.
والفطرة لغة بمعنى: الخلقة والإيجاد.
واصطلاحاً: هي مجموعة من الصفات والقابليات التي تُخلق مع المولود، ويتّصف بها الإنسان في أصل خلقته سواء القابليات البدنية، أم النفسية، أم العقليّة. والفطرة تهدي الإنسان إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه، إذا تحققت شروطها وارتفعت الموانع من تأثيرها، وسيأتي بيان ذلك.
خصائص الأمور الفطرية
أوّلاً: توجد بشكل لا اكتسابيّ ودون توسّط الفكر والتعليم.
فالمعارف الفطرية الإنسانية، عبارة عن الخصائص والصفات غير المكتسبة، بل تكون لازمة لخلقة الإنسان، وتكون مرافقة له منذ بداية تكوّنه ووجوده بشكل طبيعيّ. ولهذا قد تسمّى طينة الإنسان.
ثانياً: وجودها عامّ، أيّ موجودة عند كلّ البشر.
لأنّها - كما ذكرنا سابقاً - من الأمور الطبيعية التي توجد مع الإنسان منذ بداية خلقه. وعليه ليس هناك استثناء فيها بل هي عامّة وشاملة. فكلّ شعور وإحساس موجود عند الإنسان وسارٍ في جميع الأفراد يُعتبر أمراً فطرياً. أمّا إذا كان غير شامل لجميع الأفراد أو كان لا يحصل إلَّا بالتفكير والتعليم فلا يكون فطرياً، وإنّما حصل بالاكتساب والتعليم والتلقين.
ولكنّ هذه المعارف الفطرية مشترطة بحصول شروطها الخاصّة، فكما أنّه في الميول الجنسية لا بدّ من حصول البلوغ، لذلك لا نجدها قبل وصول زمانه، وقد لا تصير فعلية لوجود مانع ما كالمرض مثلاً. وكذلك الأمر في جميع الأمور الفطرية فهي ليست مطلقة بل مقيّدة بشروطها الخاصّة. وعدم وجود الموانع التي تمنع وصولها إلى درجة الفعلية، وعدم فعليتها لا يعني أنّها ليست فطرية بعد تحقق الخصوصيّتين المذكورتين سابقاً، فتحقّق الخصوصيّتين يكفي لمعرفة أنّ هذا الأمر فطري أو لا.
فطرية التديّن تعني أنّ الإنسان خُلق بحسب البناء الروحي والفطرة الذاتية محتاجاً ومريداً لله، وقد جعل البحث عن الله وعبادته حاجة وحسّاً أصيلاً في طبيعة البشر.
ولإثبات فطرية التديّن في الإنسان يجب إثبات مسألتين:
1ـ أنّ الإنسان فضلاً عن كونه يدرك الله سبحانه بعقله فهو يحسّ بحاجة له في باطنه.
2ـ هذا الإحساس له جذور في فطرة الإنسان، ولم يوجد نتيجة التلقين والتعليم.
إثبات المسألة الأولى وهي الإحساس بالحاجة لله عزّ وجلّ
إذا أردنا أنْ نجمع نظريات العلماء المعروفين في العالم الذين يعتقدون بفطرية التديّن فنحن نحتاج إلى كتاب منفصل، ولكن سنذكر هنا آراء بعض منهم في هذا المجال. يقول ألكسيس كارل: "الإنسان كما يحتاج للماء والأوكسيجين هو محتاج لله أيضاً".
يقول الأستاذ الشهيد العلامة المطهري: "إنَّ (يونغ) تلميذ فرويد المعروف وهو أحد علماء علم النفس المعاصرين كان يعتقد بأصالة الحسّ الدينيّ في عمق وجدان البشر، ويرفض نظرية أستاذه المبنية على أنّ الإحساس الدينيّ هو إحساس ماديّ".
يقول يونغ: "إذا اطّلعنا على الأمم السابقة فإنّنا سنجد أنّ الإنسان لديه غريزة التديّن وأنّ هذه الغريزة تؤثّر فيه بقوّة كتأثير غرائزه الجنسية".
يقول صاحب كتاب "الحسّ الدينيّ أو البعد الإنسانيّ الرابع": "إنّ الحسّ الدينيّ هو أحد عناصر الروح الإنسانية الثابتة والطبيعيّة وأكثر أقسامها أصالة وأشدّها ماهويّة وهو غير قابل للتبديل بأيّ واحد من الظواهر"2.
إذاً، ليس هناك أيّ شكّ في وجود حسّ التديّن في الإنسان، وحتّى الماديّين لا ينكرون هذا الإحساس، ولكنّهم يقولون إنّه ليس من الإحساسات الأصيلة بل هو معلول للتلقين والعادة، وعليه فإنّ الأساس في إثبات فطرة البحث عن الله في الإنسان هو ثبوت أنّ هذا الحس له جذور في الفطرة، وليس مسبباً عن العادة.
ولإثبات المسألة الثانية وهي فطرية الإحساس الدينيّ، يجب أنْ نرى هل أنّ خصائص المعارف الفطرية التي مرَّ بحثها سابقاً صادقة في مورد حسّ الحاجة لله أم لا؟
قلنا: إنَّ الأمور الفطرية تحتوي على خصوصيّتين:
إحداهما: أنّها لا اكتسابية.
والأخرى: أنّها عمومية وشاملة.
فهل يتّصف حسّ عبادة الله بهاتين الخصوصيّتين أم لا؟
الخصوصية الأولى
إنّ التجربة الباطنيّة لكلّ وجدان نقيّ تشهد أنّ البحث عن الله والميل إلى عبادته والإحساس بالحاجة إلى الكمال المطلق له جذور في فطرة وجبلّة الإنسان، وينبع من فطرته ويستمدّ وجوده من ذاته.
هذه التجربة الباطنية التي تشهد أنّ الإحساس بالعطش والجوع والميول الجنسية توجد في الإنسان بشكل لا شعوري، هي نفسها تشهد أنّ الميل للكمال المطلَق هو في الإنسان لا شعوريّ أيضاً.
وإنّ عين هذه التجربة الباطنية تشهد أنّ الإحساس بالجوع والعطش والميول الجنسية لم يوجد في الإنسان نتيجة مشاهدة الماء والطعام والزوج.
بل إنّ هذه الإحساسات والميول التي لها جذور في ذات الإنسان، هي نفسها تثبت أنّ الإحساس بالميل نحو الكمال المطلق، القدرة المطلقة، العلم المطلق والجمال المطلق في الإنسان هو ليس نتيجة التعليم والتلقين وتكرار مراسم العبادة، بل هو إحساس ممزوج بذات الإنسان.
وفي هذا المجال يرى الإنسان نفسه عندما يصل إلى أية مرحلة من القدرة والتكامل الماديّ أكثر حاجةً وعطشاً. فلو حكم الدنيا كلّها يجد نفسه محتاجاً لحكم جميع الكواكب الأخرى، ولو كانت ثروات العالم كلّها له فهو يفكر في الحصول على منابع أخرى للثروة، مثل العطشان الذي يشرب من ماء البحر بدل أنْ يشرب من الماء العذب فهو ليس فقط لا يرتوي عطشه بل يزداد.
ولكن بقدر ما يقرب من الكمال المطلق تقلّ حاجاته فيرتوي عطشه تدريجياً كالعطشان الذي وصل للماء، حتّى يصل إلى درجة الخلافة الإلهيّة ويصير مَثل الله، "عبدي أطعني تكن مثلي......" والمخاطب بهذه الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾3. وهنا يصل إلى السكينة والإطمئنان المطلق.
وكما أنّ الإنسان قد يفقد الإحساس بالجوع أو العطش أو الميول الجنسية لمانع وهو المرض مثلاً، أو يقوم نتيجة اعتقاده بأيديولوجية وطراز تفكير خاصّ بمخالفة إحساساته وميوله ويتّجه نحو الرياضة والرهبنة، كذلك قد يفقد الإنسان بسبب أمراض روحية خاصّة حسّ عبادة الله، أو يناهض هذا الإحساس نتيجة نوع خاصّ من التفكير ويميل نحو الماديّة. فإذا ارتفعت هذه الموانع عادت الفطرة لتؤثر أثرها، وتربط الإنسان بالله تعالى، وهذا ما يجده الإنسان عندما يبتلى ببلاء شديد تنقطع معه كلّ السبل الماديّة التي تمنعه من الارتباط بالله تعالى، فإنّك ستجد هكذا إنسان قد توجّه لله تعالى مباشرة، فالمريض بمرض مستعصٍ على العلاج، والذي انقطعت معه الأسباب الماديّة للعلاج، فإنّ هكذا مريض يعود ليرتبط بالله تعالى بروحه وقلبه وبشدّة، وهذا ما حاول القرآن الكريم أنْ يبيّنه لنا من خلال جملة من الآيات منها قوله تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾4 ومنها قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾5.
وكذلك النبيّ وأهل بيته عليهم السلام ركّزوا على هذا الأسلوب في بيان الفطرة وكيفية ظهورها.
الخصوصية الثانية
إنّ دليل عمومية هذا الإحساس نكتشفه من خلال ما دُوّن في التاريخ، وعصور ما قبل التاريخ والآثار والقرائن. وعلماء التاريخ والآثار يؤكّدون أنّ البشر كانوا يملكون الحسّ الدينيّ على مدى العصور وإنْ كانوا في كثير من الموارد يشتبهون في تشخيص الإله الحقيقي.
يقول (بلوتارك) المؤرخ اليوناني المشهور: "إذا ألقيتم نظرة إلى ساحة الكون فإنّكم ستجدون كثيراً من الأماكن التي ليس فيها لا عمران ولا سياسة ولا علم ولا صناعة ولا حرف ولا دولة ولكن لا يمكن وجود مكان لم يكن الله فيه".
فرضيات دوافع ظهور الدين
إذا اتّضح مبحث خصائص المعرفة الفطرية، وانطباق الخصائص على الإحساسات الدينيّة بشكل جيّد، فإنّنا سنستنتج أنّ الفرضيات التي تُطرح في ما يرتبط بدوافع وجود الدين هي بدون أساس ومحتوى، لدرجة أنّها لا تستحق الذكر. لأنّه عندما يثبت أنّ الحسّ الدينيّ له جذور في فطرة وطبيعة الإنسان فإنّ الفرضيات التي تقول: "إنَّ هذا الإحساس هو معلول للتلقين والعادة، أو إنّه معلول للجهل بالعلل الطبيعيّة، أو إنّ دافعه هو الخوف، والخوف هو أمّ الإلهيّين كما يقول (راسل الفيلسوف والرياضي الانجليزي) أو كما يقول (دوركهايم عالم الاجتماع الفرنسي): إنّ الإحساسات الدينيّة مشتقّة من الإحساس بالحاجة للاجتماع وأمثال ذلك من النظريات..." هي بنفسها باطلة ولا حاجة لطرحها والجواب عليها.
فطرة الدين بنظر الإسلام
إنّ حسّ معرفة الله بنظر القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة هو من الأحاسيس الأصيلة التي لها جذور في ذات الإنسان، بل إنّ الإحساسات الدينيّة والمذهبية هي فطرية أيضاً، وقد أُشير في بداية الدرس إلى قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ...﴾6. وقد أشار تعالى في الآية إلى الخصوصية الأولى باستخدامه لفظ (فطر) وإلى الخصوصية الثانية باستخدامه لفظ (الناس) الشامل لعموم الناس.
وفي قوله تعالى: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ...﴾ يقول زرارة: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾7.
قلت: ما الحنفية، قال: "هي الفطرة"8.
ويقول الإمام الصادق عليه السلام في بيان حديث رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول فيه: "كلّ مولود يولد على الفطرة"9: يعني على المعرفة بأنّ الله عزّ وجلّ خالقه، فذلك قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾10.
إنّ الآيات والروايات التي تؤيّد وجود فطرة عبادة الله في الإنسان كثيرة نكتفي بنقل هذا المقدار للاختصار.
هوامش
1- سورة الروم، الآية 30.
2- هذه الآراء مأخوذة من كتاب "الإنسان ذلك المجهول"، ألكسيس كارل.
3- سورة الفجر , الآيتان 27 و 28 .
4- سورة يونس، الآية 12.
5- سورة يونس، الآيتان 22 و 23.
6- سورة الروم، الآية 30.
7- سورة الحج، الآية 31.
8- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ، معاني الأخبار، ص 350، تحقيق علي أكبر الغفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم، 1338ش، باب معنى حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً، ح1.
9- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 279.
10- سورة لقمان، الآية 25.