من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب1: "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال : يا ابن رسول الله، وما هي؟ قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله، أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام إلى برّ الإخوان وزيارتهم، ويل للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في الفترات2، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم"3.
مقدّمة
إنّ عداوة الشيطان للإنسان ذات جذور عميقة في التاريخ، ضاربة في القدم السحيق إذ نشأت يوم نشأ آدم وحوّاء عليهما السلام، ولذلك يُحذّرهما الله تبارك وتعالى، فيقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾4 وقال سبحانه في جليل خطابه: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾5.
وقد برزت هذه العداوة للوجود يوم أمر الله ملائكته بالسجود لأبينا آدم عليه السلام ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾6، وعمرت هذه العداوة التي ما مثلها عداوة كلّ هذا التعمير، ورافقتْ وجود الإنسان منذ نشأته الأولى إلى ساعته الحاضرة، وستُرافقه إلى يوم الوقت المعلوم، وقد أوحت (الأنا) للشيطان بهذه العداوة، وكان من نتاجها الحسد الواضح الجلي حينما ردّ على أمر الله له بالسجود! فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾7.
دور الآيات والوصايا في المواجهة
قد جاءت الكثير من الآيات القرآنية مصرّحةً بعداوة الشيطان للإنسان، وبَيّن الله تعالى لنا فيها أنّ هذه العداوة قد اتخذتْ أساليب مختلفة وأشكالاً متباينة، ليتفطّن بنو آدم لمصائد الشيطان وكيده، وغروره وخداعه، وشراكه وأمانيه، ولكن العجب العجاب أنّ أكثر الناس في غفلة عن تنبّههم لهذه العداوة، بل إنّ الكثير منهم لمنساق بمحض اختياره تحت طوع وإرادة عدوّه.
فبالله عليكم ماذا يُقال عن قومٍ يملكون كلّ أسباب القوّة، ويعرفون كلّ أساليب الدفاع والمقاومة، ومع هذا فقد انقادوا لعدوّهم، وسلّموا رقابهم له، وغدتْ إرادتهم خاضعة بطوع اختياره يوجّهها حيث ما شاء! أليس هذا هو عين الجهل؟ وكي لا تكون هذه المسيرة الجاهلة هي السائدة، وبالتّالي يكون الهلاك عاقبة بني البشر اتخذ أنبياء الله وأوصياؤهم الكرام عليهم السلام من الوصايا والعِبر والمواعظ وسائل تربوية لتنوير العقل والقلب، إذ بهما يعقل الإنسان ويعي أنّ الله قد خلقه حرّاً، فلا يصح أن يكون عبداً لغير بارئه، وفي هذا السياق جاءت وصايا الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام لتُخاطب ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلّعة إلى ما عند الله تعالى، أن يبذلوا جهودهم في تحرير عقولهم، وتطهير نفوسهم من الأفكار السلبية السيّئة التي إذا تبنّاها الإنسان وعمل بها أصبحت أدواء فتّاكة ورذائل خُلقية ملازمة له، ولا تتركه حتى تورده موارد الهلاك في الدنيا والآخرة، فتعالوا نقتبس من هذه الوصايا قبسات لعلّ الله ينوّر بها قلوبنا، ويُبصرّنا حقائق أنفسنا، ويهدينا إلى صراطه القويم ﴿هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾8.
برّ الإخوان
قال الإمام عليه السلام: "يا ابن جندب، إنّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه ومصائده، قال: يا ابن رسول الله، وما هي؟ قال: أمّا مصائده، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله".
إنّ إمامنا الصادق عليه السلام عندما أوصى ابن جندب بهذه الكلمات كان ماثلاً أمام عينيه قول الله تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾9، وكذلك قول جدّه الإمام زين العابدين عليه السلام: "إنّي لأستحي من ربّي أنْ أرى الأخ من إخواني، فأسال الله له الجنّة، وأبخل عليه بالدينار والدرهم، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: لو كانت الجنّة لك لكنتَ بها أبخل وأبخل وأبخل"10.
وقد أوصى عليه السلام بهذه الوصيّة وهو يعلم أنّ الكثير من أهل الإسلام لا يطيقون مواساة الإخوان خصوصاً في الأموال، وهو الناقل عن آبائه الكرام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ثلاثة لا تُطيقها هذه الأمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله تعالى على كلّ حالٍ، وليس هو سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، فقط، ولكن إذا ورد على ما يحرم خاف الله"11.
وقد وَجَّهنا أبو عبد الله الصادق عليه السلام، فقال: "اختبروا إخوانكم بخصلتين، فإنْ كانتا فيهم، وإلاَّ فاعزب ثم اعزب، ثم اعزب، محافظة على الصلوات في مواقيتها، والبر بالإخوان في العسر واليُسر"12.
أخي المؤمن أختي المؤمنة: تأمّلوا هذا الحديث الشريف، وانظروا كيف جعل الإمام عليه السلام العلاقة مترابطة بين المحافظة على الصلوات، وبرّ الإخوان وجعل ذلك محلّ اختبار، فإنْ لم تكن هاتان الخصلتان موجودتين، فاعزب ثم اعزب ثم اعزب ـ لماذا؟ إنّ هناك مصائد وشباك للشيطان.
نقل الأقدام الى برّ الإخوان
يتابع الإمام عليه السلام فيقول: "أما أنّه ما يُعبد الله بمثل نقل الأقدام الى برّ الإخوان وزيارتهم".
إنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يحثّ موالي آل مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم ويوصيهم بعد تقوى الله تعالى بالبرّ والمواساة للإخوان، ومن ذلك ما أوصى به صاحبه خيثمة الجعفي، فإنّ الرجل روى قائلاً: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام لأُودّعه، وأنا أريد الشّخوص، فقال: "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأوصهم أنْ يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأنْ يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنّ في لقاء بعضهم بعضاً حياةً لأمرنا، ثم قال: رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة، إنَّا لا نُغني عنهم من الله شيئاً إلّا بالعملِ، وإنّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة رجلٌ وصف عدلاً ثم خالف إلى غيره"13.
وروى جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعتُه يقول: "إنّ ممّا خصّ الله به المؤمن أن يعرفه برّ إخوانه، وإن قلّ، فليس البرّ بالكثرة، وذلك أنّ الله يقول في كتابه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ﴾14 ثم قال: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾15، ومن عرّفه الله ذلك، فقد أحبّه الله، ومن أحبّه الله أوفاه أجره يوم القيامة، بغير حساب، ثم قال: يا جميل اروِ هذا الحديث لإخوانك فإنّ فيه ترغيباً للبرّ"16.
ويلٌ للساهين عن الصلوات
لقد توعّد الله تعالى المضيّعين للصلاة بالغيّ عندما قال: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّ﴾17، كذلك هدّد الله الساهين عن الصلاة بالويل فقال: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾18، لأنّ في الصلاة الكثير من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها هؤلاء فقط بل وللأسف لا يعقلها كثير ممّن يؤدّيها، ومن بين هذه الأسرار والحكم: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾19، حيث إنّ في الصلاة أعمالاً قلبية من نية، واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يُذكّر بأنّ المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإنّ الله قال: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، ولم يقل تصد وتحول أي أنّ الصلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا تفعل الفحشاء والمنكر، وذلك لأنّ فيها التكبير والتسبيح، والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الله تعالى، وغير ذلك من صنوف العبادة كما قد سلف، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله، ويصرف عن ضدّه، فيكون مثل الأمر والنهي بالقول، وكلّ دليل مؤدٍّ إلى المعرفة بالحقّ، فهو داع إليه، وصارف عن الباطل الذي هو ضدّه، وقد قال مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "اعلم أنّ الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته، فلينظر فإنْ كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر، فإنّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، ومن أحبّ يعلم ما له عند الله، فليعلم ما لله عنده"20.
وروى عليه السلام عن آبائه الكرام عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لكلّ شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة، فلا يشينن أحدكم وجه دينه"21.
وروى الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾22، يعني: أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها"23. وما أكثر السذّج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السرّ العظيم في الوجود، سواء من خلال الانغماس في العمل الماديّ أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر24.
النائمين في الخلوات
من طبيعة الإنسان أنّه إذا خلى بنفسه أن يكون النوم أحد وسائل راحته، وأسباب لذّته، فهل أراد مولانا الإمام الصادق عليه السلام من الإنسان أن يمتنع عن نومه في خلواته؟ نقول بالتوكّل على الله تعالى: حاشا للبحر الرائق وكنز الحقائق الإمام الصادق عليه السلام أن يطلب ذلك، وخصوصاً أنّه قد أوصى عبد الله بن جندب بكلمات قبل هذه الكلمات التي أوردناها، فقال له: "يا ابن جندب: أقلّ النوم بالليل، والكلام بالنهار، فما في الجسد شيء أقلّ شكراً من العين واللسان، فإنّ أمّ سليمان قالت لسليمان عليه السلام: يا بنيّ إيّاك والنوم، فإنّه يُفقرك يوم يحتاج الناس إلى أعمالهم"25.
في هذا النصّ طلب الإمام عليه السلام من المؤمن أن يقلّ النوم في الليل، والكلام في النهار لأنّ العاقل لا ينام إلا بقدر الضرورة، ويجعل نومه وسيلة إلى عبادة أخرى، ولا شكّ أنّ نومه على هذا الوجه عبادة مستندة إلى العقل، ونوم العاقل في الحقيقة معراج له، وهذا غير قوله عليه السلام: "ويل للساهين عن الصلوات، النائمين في الخلوات"26، حيث يظهر أنّ الإمام عليه السلام أراد بقوله هذا: الساهين عن الصلوات. النائمين في الخلوات أي: الذين يُطلقون العنان لأنفسهم، فيرتكبون المعاصي، ويُقارفون الذنوب في الخلوات، ولا يتيقّظون فيرقبون حدود الله تعالى، فشبه هؤلاء القوم بالنُوّم، وهؤلاء بعيدون عن الإيمان لأنّ المؤمن المتيقّظ يُراقب الله تعالى في خلواته، في سرّه، فلا ينتهك حرمة الله، لأنّه يعلم أنّ أعماله مهما دقّت ومهما صغرت، فإنّ الله مطّلع عليها، ولديه يقين وتصديق بقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾27، فالواجب على المسلم أن يحذر من ذنوب الخلوات، وليعلم أنّ الله تعالى قد ذمّ من يستخفي بذنبه من الناس، ولا يستخفي من الله، فقال جل شأنه: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطً﴾28.
ومُراد الإمام عليه السلام بقوله: "ويلٌ ... والنائمين في الخلوات"، أنّ هؤلاء النائمين في الخلوات ويل لهم لم يستفيدوا من تلك الخلوات في تطهير الروح، وتزكية النفس، وتهذيب الخلق، وتقويم السلوك، وتقوية العزيمة الصادقة، والأنس بالله تعالى، فإنّه من كان الله أنيسه في خلواته في الدُّنْيَا، فإنَّه يُرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدُّنْيَا، والقوم المذكورون لم يستفيدوا من الخلوات في شيء من هذا الفضل العميم، وقد كان من دعاء صاحب هذه الوصيّة في خلواته: "اللهُمَّ هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَلَا كُلُّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِهِ، وَخَلَوْتُ بِكَ أَنْتَ الْمَحْبُوبُ إِلَيَّ، فَاجْعَلْ خَلْوَتِي مِنْكَ اللَّيْلَةَ الْعِتْقَ مِنَ النَّارِ"29.
المستهزؤون بالله وآياته في الفترات
إنّ الساهين عن الصلوات سوف ينتقلون من مرحلة النوم في الخلوات إلى حيث يتعدّون حدود الله، ولا يُراقبون الله في أفعالهم، وسوف ينتهي بهم الأمر إلى أن يستهزؤوا بالله وآياته في الفترات حين يضعف الدين ويقلّ ناصروه والمحامون الذّابّون عنه، وما أكثر هذه النماذج في هذا الزمن.ولا داعي للإطالة بالكلام حول هذا الصنف، فإنّ أهل الإيمان يعرفونهم جيّداً، لذلك تراهم يردّون عليهم ما استطاعوا، ويتجنّبون مجالسهم، وقلوبهم تمقتهم، لأنّ حالهم كحال الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾30.
وعلى العكس هؤلاء المنافقين الذين ما ربحت تجارتهم، وما كانوا مُهتدين، يأتي المهتدون الذين وصفهم مولانا إمام العارفين وأمير المؤمنين وقائد الغُرّ المحجّلين علي بن أبي طالب عليهما السلام عندما قال: "وما برح للّه عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة، يُذكِّرون بأيّام اللّه، ويُخوِّفون مقامه بمنزلة الأدلّة في الفلوات. من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق وحذّروه من الهلكة، فكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلّة تلك الشبهات"31.
قرآن ناطق
إنّ مولانا الإمام الصادق عليه السلام وحيث إنّه إمام العترة النبويّة الطاهرة لا يُنازع في ذلك، فهو عدل القرآن وترجمانه، والمُطّلِع على سيرته الميمونة المباركة يعلم أنّ جُلّ كلامه وأجوبته وأمثلته منتزعة من القرآن الكريم، أو استنطاق لمفاهيم آياته الكريمة، فتمعّن في قوله عليه السلام: "ويلٌ للساهين عن الصلوات النائمين في الخلوات المستهزئين بالله وآياته في الفترات، أولئك الذين لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يُكلّمهم الله يوم القيامة، ولا يُزكّيهم ولهم عذاب أليم". ثم تأمّل قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْعَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾32.
وقوله سبحانه: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾33.
ثمّ عُد مرّةً أخرى وتدبّر قول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾34، وتأمّل قول الإمام عليه السلام: "أمّا مصائده (الشيطان)، فصدّ عن برّ الإخوان، وأمّا شباكه، فنوم عن أداء الصلاة التي فرضها الله".
وبعد تدبّرك لآيات الله، وتأمّلك لقول وليّ الله الصادق عليه السلام ينجلي لك عندها معنىً من معاني قول النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهلبيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"35. ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾36، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
* طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- عبد الله بن جندب البجلي الكوفي: كان من العُبّاد الزهّاد الثقات، وقد مَنّ الله تعالى عليه بصحبة ثلاثة من أئمة الهدى الصادق والكاظم والرضا عليهم السلام، وكان وكيلاً للإمامين الكاظم والرضا عليهما السلام ذا منزلة رفيعة عندهما، وقد شهد له الإمام الكاظم عليه السلام أنّه من عباد الله المُخبتين، يراجع كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، ص348، طبعة:1، دار المعارف الإسلامية، قم،وخلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الحلي أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر الاسدي، ج1، ص193، طبعة:1، مؤسسة نشر الفقاهة.
2- الفترة: مدة تقع بين زمنين، وقيل الضعف والانكسار، والمراد بها زمان ضعف الدين، والله تعالى أعلم.
3- الفقيه المُحدث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص302، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
4- سورة الأعراف، الآية 22.
5- سورة يس، الآية 60.
6- سورة الحجر، الآيتان 30-31.
7- سورة الأعراف، الآية 12.
8- سورة التوبة، الآية 51.
9- سورة البقرة، الآية 268 .
10- الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص387، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
11- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، 358، طبعة:2، مؤسسة النشرالتابعة لجماعة المدرسين بقم.
12- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص672.
13- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص175-176.
14- سورة التغابن، الآية 16.
15- سورة الحشر، الآية 9.
16- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص206.
17- سورة مريم، الآية 59.
18- سورة الماعون، الآيتان 4-5.
19- سورة العنكبوت، الآية 45.
20- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص236-237، باب معنى ما روي أن الصلاة حجزة الله في الأرض.
21- الشيخ الكليني، الكافي، ج3، ص267، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها.
22- سورة الماعون، الآية 5.
23- الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص107، باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها.
24- سماحة الإمام علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص73، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.
25- أبن شعبة الحراني، تحف العقول، ص301.
26- مفردها خلوة: يقال: "..انفرد به في خلوة، ويقال خلا بنفسه، وخلا إليه، وخلا معه انفرد، ويقال اخل بأمرك تفرد به وتفرغ له، واخل معي حتى أكلمك كن معي خاليا.." يراجع المعجم الوسيط، ج1، ص254.
27- سورة الحديد، الآية 4.
28- سورة النساء، الآية 108.
29- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص594.
30- سورة البقرة، الآيات 14-16.
31- أبن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج1، ص176، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت.
32- سورة الماعون، الآيتان 4-5.
33- سورة الجاثية، الآيات 6-10.
34- سورة الماعون، الآيات 4-7.
35- محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص663، حديث رقم 3788، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
36- سورة ق، الآية 37.