الكلام في الإدراك العقليّ، فهو يعدّ الوسيلة الرئيسة الثانية التي تستخدم في بحوث علم الأصول لإثبات العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عمليّة الاستنباط ممّا ندركه بعقولنا، من دون حاجةٍ إلى بيانٍ شرعيٍّ لإثباته، من قبيل القانون القائل: "إنّ الفعل لا يمكن أن يكون حراماً وواجباً في وقتٍ واحدٍ"، أو القاعدة القائلة: "إذا وجب شيءٌ وجبت مقدمته"، حيث لا نحتاج في إثبات هذين القانونين إلى بيانٍ شرعيٍّ يشتمل على صيَغٍ من هذا القبيل، بل هما ثابتان عن طريق العقل، لأنّ العقل يدرك أنّ الوجوب والحرمة صفتان متضادّتان، والشيء الواحد لا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادّتين، فكما لا يمكن أن يتّصف الجسم بالحركة والسكون في وقتٍ واحدٍ، كذلك لا يمكن أن يتّصف الفعل بالوجوب والحرمة معاً، كذلك يدرك أنّه إذا وجب شيءٌ بحكم الشرع، فيجب بحكم العقل على المكلّف أن يهيّئ جميع مقدّماته، فوجوب المقدّمة ثابتٌ بحكم العقل، من دون حاجةٍ لبيانٍ شرعيٍّ لإثباته.
الخلاف في الإدراك العقليّ:
وقد وقع الخلاف الحادّ بين المسلمين حول اعتبار العقل مصدراً من مصادر التشريع الإسلاميّ، وهو خلافٌ لعلّه أكثر خطورةً من الخلاف الحاصل في الإجماع، حيث إن للعقل درجاتٍ مختلفةً:
أ- الإدراك الكامل القطعيّ: وهو أن يدرك العقل حقيقةً من الحقائق إدراكاً لا يُحتمل فيه الخطأ والاشتباه أبداً، كإدراكه أنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، وأنّ الضدّين لا يجتمعان، وأنّ الأرض كرويةٌ، وأنّ الماء يكتسب الحرارة من النار إذا قرّب منها.
ب- الإدراك العقليّ الناقص: وهو ميل العقل نحو ترجيح شيءٍ دون الجزم به، لاحتمال الخطأ، كإدراكنا أنّ الجواد الذي سبق في مناوراتٍ سابقةٍ سوف يسبق في المرّة القادمة أيضاً، وأنّ الدواء الذي نجح في علاج أمراضٍ معيّنةٍ سوف ينجح في علاج أعراضٍ مرَضيّة مشابهةٍ، وأنّ الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.
والسؤال الأساس في هذا البحث والذي يتمحور حوله الخلاف بين المدارس الإسلاميّة هو: ما هي حدود العقل أو الإدراك العقليّ الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسة لإثبات العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط؟ فهل يمكن استخدام الإدراك العقليّ كوسيلةٍ للإثبات مهما كانت درجته؟ أو لا يجوز استخدام الإدراك العقليّ كوسيلةٍ للإثبات إلا ضمن حدود معيّنةٍ؟
وقد اختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده- بوصفه وسيلةَ إثباتٍ رئيسةٍ- فهل يشمل الإدراكات الناقصة التي تؤدّي إلى مجرّد الترجيح؟ أو أنّه يختصّ بالإدراك الكامل المنتج للجزم واليقين؟1
الاتجاهات المتعارضة في الإدراك العقلي:
وبعد أن تعرّضنا للإدراك العقليّ، نلفت النظر إلى أنّ أهمّ من عارضه من مدرسة أهل البيت عليهم السلام هم الأخباريّون، حتى صارت معارضتهم للعقل سمةً بارزةً لحركتهم. ولذلك من الجدير أن نتعرّض لهذه الحركة التي كان لها الدور البارز في تفعيل عجلة الأصول، من خلال محاربتها لدور لعقل وبالتالي للاجتهاد. ولتوضيح هذه الحركة جيّداً نذكر الاتجاهات التي طرحت في مجال الإدراك العقليّ.
فإنّ تاريخ التفكير الفقهيّ قد شهد بالنسبة للإدراك العقليّ اتجاهين متعارضين كلّ التعارض، و واتجاهاً ثالثاً وسطياً بينهما:
الاتجاه الأوّل، مدرسة الرأي: يدعو إلى اتخاذ العقل في نطاقه الواسع الذي يشمل حتى الإدراكات الناقصة، وسيلةً رئيسةً للإثبات، وفي مختلف المجالات التي يمارسها الأصوليّ والفقيه.
الاتجاه الثاني، الحركة الأخباريّة: يشجب العقل ويجرّده إطلاقاً عن وصفه وسيلةً رئيسةً للإثبات، ويعتبر البيان الشرعيّ هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليّات الاستنباط.
الاتجاه الثالث، الأصوليّون: وهو اتجاهٌ معتدلٌ يقف بين هذين الاتجاهين المتطرّفين، يتمثّل في جلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام. وهو الاتجاه الذي يؤمن- خلافاً للاتجاه الثاني- بأنّ العقل أو الإدراك العقليّ وسيلةٌ رئيسةٌ صالحةٌ للإثبات إلى صفّ البيان الشرعيّ، ولكن لا في نطاقه الواسع- كما زعمه الاتجاه الأوّل- بل ضمن نطاق الإدراك العقليّ الكامل الذي يوصل إلى الجزم، ولا يوجد في مقابله احتمال الخطأ. فكلّ إدراكٍ عقليٍّ يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثباتٍ. وأمّا الإدراك العقليّ الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح، ولا يتوفّر فيه عنصر الجزم، فلا يصلح وسيلة إثباتٍ لأيّ عنصرٍ من عناصر عمليّة الاستنباط.
فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداةٌ صالحةٌ للمعرفة، وجديرةٌ بالاعتماد عليها والإثبات بها، فيما لو أدّت إلى إدراك حقيقةٍ من الحقائق إدراكاً كاملاً لا يشوبه أيّ شكٍّ. فلا إفراط في الاعتماد على العقل حتى فيما لا ينتج عنه إدراكٌ كاملٌ وجزمٌ، ولا كفران بالعقل كأداةٍ للمعرفة.
وقد تطلّب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثّله جلّ فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا معركةً في جبهتين: إحداهما ضدّ أنصار الاتجاه الأوّل، الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبنّاه بقيادة جماعةٍ من أقطاب علماء العامّة، والأخرى معركةٌ ضدّ الاتجاه الثاني الذي شكّل حركةً داخليّةً نشأت داخل صفوف الفقهاء الإماميّين، متمثّلة في المحدّثين والأخباريّين من علماء الشيعة، الذين شجبوا العقل، وادعوا أنّ البيان الشرعيّ هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للإثبات. وهكذا نعرف أنّ المعركة الأوّلى كانت ضدّ استغلال العقل، وضدّ الاجتهاد بمعنى القياس والرأي، والأخرى كانت إلى صفّ العقل، وضدّ الأخباريّة الحركة التي حاربت العقل بالمطلق.