في هذه الأسطر القليلة نريد الإجابة عن سؤال كثيراً ما يطرح نفسه بين الشباب، وهو مأخوذ من دسائس الماديين لا سيما الماركسيين في الأوساط الإِسلامية.
وحصيلة السؤال هو: إنَّ البحث عن ما وراء المادة بحث لا صلة له بالحياة، وليس من الموضوعات التي تقع في إطار الحياة التي يحياها الإِنسان في أدوار عمره المختلفة، من صباه إلى شبابه إلى كهولته وشيخوخته. والبحث عمّا وراء الطبيعة وأنَّ هناك موجودات عليا مجردة عن المادة وأحكامها، كالملائكة والعقول والنفوس، وفوقها مبدعها ومبدع جميع العوالم: مادّيها ومجرّدها، لا ينفع في الحياة ولو أُثبت بألف دليل، فَصَرْفُ الوقت حول هذه المباحث يعوق الشاب عن القيام بوظائفه اللازمة.
والإِجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الإِطّلاع على ما ذكرنا، فقد عرفت أنَّ للدّين دوراً قوياً وتأثيراً عظيماً في تكامل العلوم كما أنه ضمان للأخلاق، وخير دعامة لها، بل ضمان لتنفيذ القوانين الصالحة، والحصن الحصين في متقلبات الأحوال.
فإذا كان له ذلك الشأن العظيم في حياتنا العلمية والأخلاقية والاجتماعية فطي الصفح عنه والاشتغال بغيره، خسارة عظيمة للإِنسانية. فما يتشدَّق به المادي من أنَّ البحث عن الدّين وما وراء الطبيعة لا صلة له بالحياة، مكذوب على الدين وكلام خال عن التحقيق. نعم، ما ذكرنا من دور الدّين وتأثيره في الجوانب الحيوية من الإِنسان، إنَّما هو من شؤون الدّين الحقيقي الذي يواكب العلم والأخلاق ولا يخالفهما، وأما الأديان المختلفة المنسوبة إلى الوحي والسماء بكذب وزور فخارجة عن موضوع بحثنا.
دفع الضرر المحتمل:
إِنَّ هناك عاملا روحياً يحفّزنا إلى البحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادة والماديات، وهو أنَّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإِصلاح والأخلاق الذين فدو أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع وتهذيبه، وراحوا ضحية رقيّه، توالوا على مدى القرون والأعصار ودعوا المجتمعات البشرية إلى الاعتقاد بالله سبحانه وصفاته الكمالية، وادَّعوا أنَّ له تكاليف على عباده ووظائف وضعها عليهم، وأنَّ الحياة لا تنقطع بالموت وليس الموت آخرها وآخر مقطع منها، وإنما هو جسر يعبر به الإِنسان من دار إلى دار، ومن حياة ناقصة إلى حياة كاملة، وأنَّ من قام بتكاليفه ووظائفه فله الجزاء الأوفى، وأمّا من خالف واستكبر فله النكاية الكبرى.
هذا ما سمعته آذان أهل الدنيا من رجالات الوحي والإِصلاح، ولم يكن هؤلاء متهمين بالكذب والإِختلاق، بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم وأفعالهم وأذكارهم. عند ذاك يدفع العقل الإِنسان المفكر إلى البحث عن صحة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثه مقالة هؤلاء. وليس إخبار هؤلاء بأقل من إخبار إنسان عادي عن الضرر العاجل أو الآجل في الحياة الإنسانية، فترى الإنسان العاقل يهتمّ بإخباره ويتفحص عن وجوده حتى يستريح من الضرر المخبر عنه.
وهذا ما اعتمد عليه علماء الكلام في إثبات لزوم البحث عن معرفة الله سبحانه. فأوجبوا هذا البحث دفعاً لذاك الضرر المحتمل أو المظنون.
معرفة الله وشكر المُنعِم:
لا شك أنَّ الإِنسان في حياته غارق في النعم، فهي تحيط به منذ نعومة أظفاره إلى أخريات حياته، وهذا الشيء مما لا يمكن لأحد إنكاره.
ومن جانب آخر إنَّ العقل يستقل بلزوم شكر المنعم، ولا يتحقق الشكر إلاَّ بمعرفته.
وعلى هذين الأمرين يجب البحث عن المنعِم الذي غمر الإِنسان بالنّعم وأفاضها عليه، فالتعرف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل ودعوته إلى شكر المنعِم المتفرع على معرفته.
هذه الوجوه الثلاثة (دور الدّين في الحياة، دفع الضرر المحتمل، ولزوم شكر المنعم عقلا) التي ألمعنا إليها بالإِجمال تحفز الإِنسان إلى البحث عن معرفة الله والاهتمام بها أكثر من اهتمامه بما هو دخيل على حياته المادية، وإنما يُعرض من يُعرض عن هذه المسائل لعلل روحية غير خافية على الباحث، إذ لا شك أنَّ معرفة الله، والاعتقاد به لا ينفكّ عن الالتزام بقيود وحدود في الحياة ورعاية الأصول الأخلاقية والاجتماعية، والقيام بالوظائف الفردية، وكل ذلك ينافي الحرية المطلقة والإِباحية التي يتوخاها الماديون والمنسلكون في عدادهم. فإنكار الدّين والمبدأ ليس إنكاراً لنفسه بل للفرار مما يترتب عليه من الضمانات والإلتزامات، والقيود والحدود، وهي تخالف هوى الإِنسان الإباحي الذي لا يرى أصلا في الحياة إلاّ اللذة.
آية الله الشيخ جعفر سبحاني - بتصرف