من المسؤول عن الوحدة
وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : ترى من المسؤول عن هذه الوحدة ؟
ان
هذه المسؤولية لا تقتصر على العلماء والمثقفين ، فنحن جميعات مسؤولون عن
تحقيقها ، والمحافظة عليها . فالله سبحانه وتعالى يخاطب في كتابه الكريم
الجميع قائلاً : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ
تَفَرَّقُواْ ... ﴾ 9 . فهو لا يوجه خطابه الى شخص معين او فئة معينة ، بل
على الجميع ان يعتصموا بهذا الحبل ، وان يبذلوا الجهود من اجل هذه الوحدة .
واذا
كان على الجميع ان يعتصموا بحبل الله ، ويتحركوا في هذا المجال ، فان هذا
يعني ان بإمكان الجميع ان يقوموا بدور ؛ فانت عندما تكون شابا تطلب العلم
في مدرسة او معهد او جامعة ، فانك تستطيع ان تساهم في بناء كيان الوحدة
وذلك على الأسس الإسلامية . فعليك ان لا تشكل فريقاً ضد فريق آخر ، وهذا هو
معنى ولاية الله سبحانه وتعالى . فاذا كانت بينك وبين الآخرين حزازات
فحاول منذ هذه اللحظة ان تفتش عن حلول لها ، واذا كنت قد تعودت على بعض
السيئات مثل سوء الظن والغيبة والتهمة والحقد على الآخرين والنميمة ، فعليك
منذ هذه اللحظة ان تترك هذه المحرمات وان تتحرك نحو ايجاد التلاحم وتصفية
الأجواء والعودة الى أجواء الإيمان والاخوّة . اما واجب العلماء فيتمثل في
ان يكونوا هم المبادرون في هذه المسيرة ، لان الله جل وعلا بعد ان بيّن
ضرورة الوحدة قال : ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى
الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 14 . فهو تعالى يؤكد في هذه الآية ان
الذين يسعون من اجل تحقيق الوحدة هم المفلحون ، وفي آية اخرى يقول عز من
قائل : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ﴾ 15 .
ان هؤلاء الذين تشير اليهم الآيتان القرآنيتان
السابقتان هم الصفوة والطليعة والنخبة الذين تجب عليهم الوحدة أكثر من اي
شخص آخر ، فلنحاول ان نشكل بين أوساطنا هذه الفئة القيادية الطليعية
المؤلفة من العلماء والمثقفين الذين عرفوا الإسلام حق معرفته ، واستقوه من
مصادره ومنابعه الأصيلة المتمثلة في القرآن ، والسنة النبوية الشريفة ،
وأقوال وأفعال الأئمة المعصومين عليهم السلام .
وعلينا ان لا ننسى في
نفس الوقت ان الجماهير الإسلامية كلها مسؤولة بشكل مشترك هي الأخرى عن
تحقيق هذه الوحدة ، من خلال الإلتزام بأوامر القيادة ، ومن خلال الابتعاد
عن كل سلوك من شأنه ان يفرق الصفوف ، ويثير الحزازات ، ويؤجج الاختلافات
والفتن ، وتجنب الصفات الاخلاقية الذميمة التي تقضي على كيان الوحدة مثل
سوء الظن والغيبة وتوجيه التهم والنميمة وما الى ذلك .
الوحدة والفكر المسؤول
منهجية
الانسان في التفكير تحدد ـ عادة ـ مستقبل حياته ، ومن أهم ما ينبغي ان
يغير الانسان من ما في نفسه هذه المنهجية . فمن الابعاد الأساسية في منهجية
التفكير هو الفكر اللامسؤول ، والثقافة اللامسؤولة . ذلك لان الفكر على
نوعين ؛ نوع يدفعك نحو تحمل المسؤولية ، ويرفعك الى مستوى العطاء والتصدي ،
وتحمل تلك الامانة التي كنت قد احتملتها في عالم الذر ، والتي أشفقت
السماوات والأرض ان يحملنها .
والنوع الآخر من الفكر هو ذلك الذي يكرس
فيك حالة الخمول ، والتردد ، والتراجع ، ويزودك بالتبريرات والاعذار ، ويضع
على قلبك الاغلال والقيود .
ومن هذا المنطلق فان على الانسان وهو يواجه
الافكار المختلفة في حياته ان يتساءل دوما : هل هذا الفكر هو فكر مسؤول ام
لا ، وهل هو فكر الثورة ام فكر التبرير ، فكر التصدي ام فكر الهزيمة ؟
وقد
أشار تبارك وتعالى الى ضرورة هذا التمييز في قوله : ﴿ الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... ﴾ 16 ، فالإنسان
يستمع ـ عادة ـ الى القول ولكن هل كل قول يدخل في قلبه ، وهل كل حديث لابد
ان يتقبله ؟
كلا بالطبع ، فلابد من ان ننظر في هذا القول ، ونجيل النظر
فيه ؛ فهناك قول ينبعث من ضمير نقي ، ويتصل بالوحي كما يقول تعالى : ﴿
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ 17 ،
وهناك قول آخر ينبعث من ضمير ملوث ، ويتصل بالجهل .
افكار أخطر من القنابل
وعلى
سبيل المثال فان في مجتمعنا اليوم افكاراً كثيرة تتسرب الى ادمغتنا من حيث
لا ندري ، وتعشش في اذهاننا من حيث لا نشعر ، وتؤثر فينا من حيث لا نحس ،
وتحجبنا عن الحقائق دون ان نعرف . . وهذه الأفكار أخطر علينا من القنابل
النووية ، والفيروسات الفتاكة ، والاعداء الظاهريين . ونحن ـ للأسف الشديد ـ
نلقي بدون تردد مجموعة من مسؤولياتنا على عاتق غيرنا . فهل ولدنا لكي نوزع
الاتهامات يمينا ويسارا ، فمن نحن وما هي مسؤوليتنا ؟ في يوم القيامة سوف
يلقي كل واحد منا بالمسؤولية على عاتق الآخر ، فيؤخذ الجميع ، ويطرحون في
نار جهنم ، ويبدؤون بالتصارع فيما بينهم ، والتلاوم لسنين طويلة لا يعلمها
إلاّ الله سبحانه وتعالى ، ذلك لانهم لم يتحملوا المسؤولية في الدنيا . اما
الانسان المؤمن فانه على العكس من ذلك تماما ، فهو يرى نفسه مسؤولا ،
ومتصديا . فيحاول ان يغير من الواقع ، لان الله جل جلاله يقول : ﴿ وَأَن
لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴾
18 ويقول عز وجل في موضع آخر : ﴿ ... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ﴾ 19 .
ان منهجية
اولئك الذين يتملصون من المسؤولية هي منهجية التفكير الذي يبعث على الخمول ،
واللامسؤولية . وهذه المنهجية هي المسؤولة عن واقعنا ، واذا نحن لم نبادر
الى تغييرها لما كان بامكاننا ان نفعل شيئا . فهناك العشرات من السنن
الالهية ، والقوانين ، والأنظمة كلها صحيحة ولا نستطيع ان ننكرها ؛ اي ان
الانسان محاط بعشرات القوانين ، فكما ان جسم الانسان تحيط به السنن الكونية
مثل جاذبية الارض ، والحرارة ، والبرودة ، والضغط الجوي . . فان هناك
عشرات من السنن الالهية ، والانظمة الكونية التي تؤثر في ذهن ودماغ الانسان
، لانه ـ اي الانسان ـ محكوم بتربيته وتاريخه وأرضه وبالحالة الاجتماعية
والسياسية السائدة في مجتمعه . ولكنه يبقى فوق تلك السنن والقوانين ، فهو
يحمل في داخله نوراً من الله عز شأنه هو نور الإرادة ، وبهذه الارادة
يستطيع ان يتحدى كل تلك القوانين .
حقيقة الإرادة
وبهذه الصفة
كان الانسان انساناً ، وعن ذلك يسأله الله يوم القيامة ، وبه يثاب ويعاقب .
فاذا ما أصبح الإنسان كالريشة في زوبعة من الأعاصير فانه سيفقد الإرادة ،
وبذلك لا يكون هناك معنى لثوابه وعقابه .
وحقيقة الارادة هي من جملة هذه
الحقائق ، ولكننا ـ للأسف الشديد ـ فقدنا إرادتنا إمام المستعمرين ، ولذنا
بمنهجية التبرير التي كلفتنا الكثير من الهزائم والنكسات ، والتي هي في
حقيقتها منهجية القاء المسؤولية على الآخرين ، والتملص منها . فاذا
بالمجتمع مسؤول ، والحكومة مسؤولة ، والتأريخ مسؤول . . فكل شيء مسؤول
ولكنني انا الوحيد الذي اعد نفسي غير مسؤول .
ان هذا النوع من التفكير
هو الذي جعلنا نصل الى هذا المستوى المتردي . فلنحاول ان نغير من أنفسنا ،
وان نقول منذ اليوم : نحن المسؤولون لا غيرنا . فنحن مركز هذا العالم ،
واذا ما غيرنا أنفسنا فان الله جل وعلا سيغير واقعنا ، وواقع امتنا .
فلنفكر بهذا الأسلوب ولنرى ماذا سيحدث ، ولنبدأ من هذا الوضع القائم ، ومن
أوضاعنا بالذات .
حاجتنا الى الوحدة
وهنا لابد من القول باننا
بحاجة الى الوحدة التي هي تشبه الى حد كبير الصحة والعافية في الجسد ؛ فان
فلانا يتمتع بالصحة والعافية فهذا يعني ان عينه بصيرة ، واذنه سميعة ، وان
يده تعمل ، ورجله تسعى ، وقلبه ينبض باستمرار . . . وكل اعضاء جسده سليمة .
وبناء
على ذلك فان العافية لا يمكن ان تصدق على جسم متهاو ، وعين عمياء ، ويد
شلاء ، ورجل عرجاء ؛ اي ان الجسم من هذا النوع لا يمكن ان يوصف بانه جسم
متعاف . وهكذا الحال بالنسبة الى الأمة الواحدة ؛ اي لابد ان تكون في هذه
الأمة عشرات الشروط والعوامل لكي تكون أمة واحدة ، ذات هدف واحد ،
وستراتيجية واحدة ، واُفق وتطلع واحد يسعى بذمتها أدناها ، وتكون كالجسد
الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ـ كما يقول
الحديث الشريف ـ . ونحن كامة اسلامية ترى جسمنا يتقطع من اطرافه ، ولكننا
لا نتحسس ، ولا نشعر بالألم حتى تصل السكين الى عظامنا . فترانا منشغلين في
التوافه ، والشعارات ، والاسماء ، والاوهام . . وبصورة عامة فاننا نعيش
حالة غريبة ما انزل الله تعالى بها من سلطان .
الوحدة الحقيقة
واليوم
ينبغي ان نعود الى الوحدة الحقيقية ، التي تعني ذلك الصرح المتكامـل ،
وتلك العوامل التي تجعل الأمة سليمة متعافية ونقية ، أمة ليس فيها مكان
للغش ، والاختلاف ، والغيبة ، والنميمة . . . أمة الفكر المسؤول أساسها .
فعندما تكون هذه الفيروسات غير موجودة في الأمة نستطيع ان نصفها بانها أمة
واحدة ، تدعو الى الخير ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر .
وثمة فكرة
تتمثل في اننا نتحدث عادة عن الموضوع الذي لا يمت الينا بصلة ، فترانا
نعيش في عالم التمنيات والاحلام . فما اردنا لا يقع ، وما وقع لا نريده ،
وهذه النقطة هي إحدى الأفكار السلبية في مجتمعنا .
ومن اجل ان نواجه هذه
الحالة لنبدأ دائما من حيث نحن ، فالذي نستطيعه علينا ان نفعله . فوحدة
الأمة الإسلامية تبدأ مني ومنك ، فنحن اللذين نضع اللبنة الاولى لها ، وانا
وانت نتوحّد ، ونوحّد معنا الجماعات الأخرى ، ونصبح كتلة واحدة ، وشيئاً
فشيئاً تنتشر هذه الوحدة كالنور . فالوحدة لا تأتي الينا من بعيد ، بل منا
تبدأ ، والينا تنتهي .
التكتلات منطلق الوحدة
والوحدة تبدأ من
ايجاد التكتلات الإيمانية التي تعني ان الإنسان المؤمن لا يعيش ضمن وحدة
وتجمع كما يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : " والزموا السواد
الأعظم فان يد الله على الجماعة ، وإياكم والفرقة ، فان الشاذَّ من الناس
للشيطان ، كما أنالشادّة من الغنم للذئب " 20 . أي إذا خرجت شاة واحدة من
القطيع ، وانفلتت في الصحراء ، فانها ستكون طعمة سائغة للذئب . فعلينا ان
نجتمع ، علماً ان القرآن الكريم يخاطبنا دائما بصيغة الجمع كقوله : ﴿
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ... ﴾ 21 وقوله : ﴿ ...
وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ 22 وقوله : ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء
اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ 23 . . . فتراه
يحرص دائماً على ان يستخدم الفاظاً وتعبيرات من مثل : حزب ، وجند ، وطائفة .
. . . وعندما تتشكل لدينا تكتلات وتجمعات وفرق . . لابد ان يحكمها قانون
للتعاون والتضامن ، كما يقول تعالى : ﴿ ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ... ﴾ 6 . وهذا القانون ينظم العلاقة بين اعضاء
تلك التجمعات والتكتلات . وبمزيد من هذا العمل سوف نستطيع ان نشكل الوحدة ،
واذا ما شكلنا الوحدة فحينئذ عندما يقع حادث معين في منطقة من المناطق
فانه سيسري في تلك التكتلات مثله كمثل الموج . فأنت ـ مثلاً ـ اذا أخذت
حصاة ورميتها في البحر ترى ان الدوائر سوف تتسع ، وهكذا عندما تقع حادثة في
الأمة الواحدة فانها ستتموج في جميع المناطق . فلنتكاتف ولنتضامن ونتعاون ،
وسنرى ان كثيراً من قضايانا المستعصية سوف تحل .
الوحدة و العلماء
إذا
بارك الله تعالى أمراً نما ، واذا خذله زال وانمحى ، وبركته لامر من
الامور تتبع مجموعة عوامل تتفاعل في هذا الامر ؛ فالعمل الصالح يرفعه الله
سبحانه والكلمة الطيبة تصعد اليه . والاخلاص هو الذي يجعل العمل لله ، وهو
الذي ينميه .
ومن ابرز الامور التي تتجلى فيها البركة الالهية الوحدة ،
التي لا تعتبر مجرد حقيقة واحدة ، بل هو مركبة من مجموعة حقائق تصطبغ بها
حركة الانسان . وهي تستطيع ان تكون رمزا لتلك الحقائق وعنواناً لها ، فاذا
اجتمعت وتفاعلت سميت حينئذ بـ (الوحدة) .
وتتجسد بركة الخالق في الوحدة
من خلال جعلها طريقاً الى نصره ، ووسيلة الى تأييده ، وسبباً لتوكل
المؤمنين عليه ؛ لان الوحدة ترمز الى الخلاص والتفاني والتضحية ، وترمز
ايضاً الى مجموعة اخرى من الخصال الحميدة التي بدونها لا يمكن ان تتحقق .
فالوحدة تدل ـ مثلاً ـ على صدق العمل ، وصلاح الخطة ، وسلامة القيادة
والمسيرة .
الوحدة في القرآن
ويبدو لي ان سورة آل عمران تتحدث عن
الوحدة الرسالية ، وعن اسلوب تنميتها . ففي هذه السورة بالذات نقرأ قوله
تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ...
﴾ 9 . فهو يحدثنا عن نعمة الرسالة والرسول الذي كان رحمة للعالمين ، فيقول
عز من قائل : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ... ﴾ 24 .
فرسالة الله جل جلاله هي
أعظم نعمة منَّ بها على الانسان ، لان الرسالة توحد طاقات الأمة ، والى
هذا المعنى اشار القرآن الكريم في قوله : ﴿ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ
قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ
لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ 25 .
فهذه القيادة الالهية هي قيادة الرحمة وتجميع
الطاقات ، وليس دفعها بعيداً عن محور الرسالة ؛ ولكن لين هذه القيادة هو من
النوع المنطوي على الحزم ، لان الله يقول بعد ذلك : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... ﴾ 26 .
فلين
الرسالة لا يتجاوز حدود اوامر الله تبارك وتعالى ، ولا يعني التضحية
بالجوهر من اجل المظهر ، وبالمحتوى في سبيل الاسلوب . فالقرار يبقى بيد
الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولذلك نجد ان الله قد منَّ في هذه السورة
بالذات على المؤمنين لانه قد بعث فيهم رسولاً منهم لكي يفهمهم ان القيادة
الرسالية هي نعمة عظيمة تتصاغر امامها كل النعم الاخرى .
وفي القرآن
الكريم إشارات واضحة اخرى الى اهمية القيادة وخصوصاً في سورة المائدة حيث
يقول عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ
يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ... ﴾ 27 . فالولاية الالهية تعني الخضوع للقيادة
التي تعتبر أسمى وأعظم النعم التي منَّ الله بها على المؤمنين .
واذا
كان الامر كذلك فان الالتفاف حول الرسالة سيكون الواجب الأكبر ، والفريضة
العظمى ، لان الاهتمام بهذه النعمة يجب ان يكون في المستوى الأعلى .
وبناء
على ذلك فان الوحدة التي تتجلى في القيادة في سائر الصفات الحميدة ، هي
التي تهيء الظروف لنزول رحمة الله جل وعلا لانه تعالى يقول في ضمن هذا
السياق ايضاً : ﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن
يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ
فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ 28 .
آفاق الوحدة
ان الوحدة لا
يمكن ان تتحقق برفع شعاراتها ، وإنشاء الاشعار ، والقاء الخطب بشأنها .
فالوحدة هي حقيقة لابد من ان نوجدها في أنفسنا أولاً ؛ فهي بذرة تنبت في
قلب الانسان المؤمن ثم تنمو شيئا فشيئا حتى تصبح دوحة وارفة الظلال عظيمة
الثمار ؛ فهي تبدأ من حسن الظن بإخواننا المؤمنين . فالذي يسئ الظن بإخوته
لا يمكنه ان يتحد معهم ، لان الوحدة تعني ان تحب لإخوانك ما تحبه لنفسك .
والوحدة تعني ايضاً ان نقول الكلمة الطيبة كما يشير الى ذلك قوله تعالى : ﴿
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ... ﴾ 29 . فالإنسان الذي يريد ان يبعدك عن إخوانك
مستعملا في التحدث عنهم الكلمات النابية ، والانسان الفض الغليظ القلب الذي
تعود على الكلمات البذيئة والسباب ، هل من الممكن ان يذوب في المجتمع
المؤمن ، ويكون وحدة معهم ؟ والوحدة تعني بالإضافة الى ذلك التعاون ، كما
يؤكد على ذلك القرآن الكريم في قوله : ﴿ ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... ﴾ 30 .
اما عندما تكف يد التعاون عن اخوانك ، وتنطوي على نفسك في زاوية ، وتريد
ان تعمل لوحدك ، فهل هذه الظاهرة تخدم الوحدة ، وهل من الصحيح ان نتعود على
الفرديـة والانطواء والابتعاد عن الساحة ، وهل مثل هذا المنحى ينمي فينا
الوحدة ؟!
ان الوحدة تعني ان تجتمع مع الآخرين حتى في عبادتك ، وعلاقتك
مع الله جل وعلا . فالحديث الشريف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم
السلام) عن علي (عليه السلام) أنه قال : " لا صلاة لجار المسجد إلاّ في
المسجد ، إلاّ أن يكون له عذراً او به علّة" 31 ، كما ان هناك أحاديث اخرى
تؤكد على ان صلاة الجماعة اذا تجاوزت الخمسين مصلّياً فان ثوابها لا يستطيع
ان يحصيه غير الله تقدست اسماؤه .
ومن ضمن المعاني الاخرى للوحدة ان
تصبر على أذى إخوانك ، وان لا تفكر ان يبادر الآخرون الى اعطائك من أنفسهم ؛
فمثل هذا التفكير لا يمكن ان يقودك الى الاتحاد معهم ، لان الوحدة تعني من
ضمن ما تعنيه ان تجعل يدك هي العليا في العطاء .
والوحدة تقتضي ايضاً
ان نجعل هدفنا واضحاً ، وان نحدد هذا الهدف منذ البدء . فهل هدفنا هو ان
نتخاصم ونتنافس من اجل ان يكون احدنا ابرز من الآخر في تظاهرة ، ومن اجل ان
تكون اسماؤنا قبل اسماء الآخرين في احتفال ما ؟!
ليس ثمة شك اذا كانت
اهدفنا غير واضحة ، فان الشيطان سيخلط علينا الامور ، وسيدفعنا الى طرح
العناوين والاسماء المثيرة للحزازات والاختلافات .
فلنتنافس على العمل
لا على الشعارات الخاوية ، ولنتنافس بمقدار الانجاز لا بأسلوبه ، كما يقول
تعالى : ﴿ ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ
شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي
مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ ... ﴾ 32
وعلى هذا فان الوحدة ليست كلمات ولا شعارات ، بل هي عمل وتضحية وسعي ،
وخضوع لبرامج الله ، وتحل بالاخلاق الحميدة التي امر الله بها . فالوحدة
يجب ان تتمخض عن تطبيق القرآن الكريم ، والقرآن يقول : ﴿ ... وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ... ﴾ 26 . فهو يأمرنا بالتعاون ، وحسن
الظن ، وقول الكلمة الطيبة . . وهذه الصفات كلها هي أسباب الوحدة .
وان
الإنسان ـ بطبعه ـ لا يميل الى الوحدة ، فلو ترك لشأنه لاختار الفرقة ذلك
لان طبائع الناس وآراءهم واذواقهم متفرقة ومتفاوتة ؛ فلكل واحد منهم مصلحة
وفكرة وطريقة ، ثم ان الاهواء هي مختلفة بذاتها .
محور الوحدة
والعامل
الأساسي الذي يوحد الناس هو الدين والرسالة ، والرسالة التي توحد الناس لا
توحدهم من خلال الكلمات والشعارات ، بل عبر الاشخاص وبالذات علماء الدين
لانهم المراكز التي تتجلى فيها بركة الله سبحانه وتعالى ، ورسالته الالهية .
ان عالم الدين يكون في المجتمع محورا للوحدة ، وحبلاً للاعتصام يتمسك به
الجميع ، لانه متصل بحبل الله الذي يقول عنه ربنا جل وعلا : ﴿
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... ﴾ 9 .
فاذا كان عالم الدين وسيلة للتفرقة ، وسبباً للخلاف ، ومثارا للفتن ، فان
ذلك يعني وجود خلل فيه لا في الدين ، ونقص في ثقافته الرسالية التي لم
تترسخ في نفسه بعد بشكل كامل .
ان الحوزات العلمية في النجف الأشرف كان
يدرس فيها الأسود والأبيض ومن مختلف اللغات واللهجات ، وكان هؤلاء الطلاب
يسكنون في غرف واحدة . فكانت الحوزة توحدهم ، واذا ما تخرج الطالب من
الحوزة وعاد الى بلده فان جميع مواطنيه ـ ايا كانت انتماءاتهم العرقية ـ
سوف يرجعون اليه في شؤون دينهم . ولذلك فان عالم الدين كان فوق العنصريات ،
والعصبيات ، والمحوريات ، وكان يعيش للجميع دون ان يطلب على عمله أجراً
ولا شكراً .
وعالم الدين يجب ان يتربى اليوم على هذا الاساس ، فطلاب
الحوزات العلمية لابد ان يكونوا قادة للامم ، لان النبي (صلى الله عليه
وآله ) قال : " وان العلماء ورثة الانبياء ، ان الانبياء لم يورثوا ديناراً
ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه بحظ وافر " 33 . وقال ايضاً : "
علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل " 34 . فاذا أراد طالب العلم ان يقوم بدور
أنبياء بني إسرائيل فلا بد ان ينمي في نفسه صفات الأنبياء ، ومن ابرز هذه
الصفات تلك التي ذكرها الله عز وجل في سورة آل عمران اعني قوله تعالى : ﴿
... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ...
﴾ 26 .
وبناء على ذلك فان قلب العالم يجب ان يكون كبيراً ، ولابد ان
يكون متواضعاً بين الناس ، مهتماً بشؤونهم ، محاولاً ان يجذبهم الى الإسلام
بسلوكه اللين البعيد عن الفظاظة . اما إذا كان عالم الدين غليظ القلب فان
الناس ينفضون من حوله ، ولا يميلون إليه .
وهذا لا يعني ان الناس ليس عليهم تحمل مسؤولية الوحدة ومحاربة التفرقة ، لانها من مهمة العلماء .
كلا
. . ان الناس بكل فئاتهم وبكل قطاعاتهم مسؤولون عن ذلك بلا أدنى ريب ،
ولكن مسؤولية العلماء في هذا الخصوص أكبر من غيرهم ، لانهم قد أحرزوا موقع
متقدم في قيادة الأمة وارشادها . لذا يتطلب من الجميع ان يبادروا لتحمل
مسؤولياتهم في تحقيق الوحدة 35 .
9. a. b. c. d. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 103 ، الصفحة : 63 .10. راجع الآيات من 5 ـ 10 من سورة الحشر .
11. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 546 .
12. a. b. c. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
13. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 547 .
14. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 104 ، الصفحة : 63 .
15. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
16. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 460 .
17. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 3 و 4 ، الصفحة : 526 .
18. القران الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 39 و 40 ، الصفحة : 527 .
19. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 11 ، الصفحة : 250 .
20. بحار الأنوار / ج 68 / ص 289 / رواية 48 .
21. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 29 ، الصفحة : 253 .
22. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 7 .
23. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 62 ، الصفحة : 216 .
24. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 164 ، الصفحة : 71 .
25. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 158 و 159 ، الصفحة : 71 .
26. a. b. c. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
27. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 119 .
28. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 160 ، الصفحة : 71 .
29. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 53 ، الصفحة : 287 .
30. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 106 .
31. بحار الأنوار / ج 83 / ص 379 / رواية 47 .
32. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 116 .
33. بحار الأنوار / ج 1 / ص 164 / رواية 2 .
34. بحار الأنوار / ج 2 / ص 22 / رواية 67 .
35. على طريق الوحدة ، آية الله السيد محمد تقي المدرسي ، الناشر : دار محبي الحسين (ع) ، قطع : رقعي ، الطبعة الأولى .