ان الجاهلية الحديثة التي هيمنت طويلاً على مصير العالم ، بدأت اليوم بالانهيار ؛ ليس فقط بسبب تناقضاتها وسلبياتها الداخلية ، وانما ايضاً بسبب افلاسها وافتقارها الى مبررات الاستمرار . فكل الشعارات والادعاءات التي حملتها واطلقتها هذه الجاهلية وتسترت وراءها ، افتضحت اليوم ، وانكشف زيفها ؛ فأصبحت عارية مفضوحة بسبب الويلات التي سببتها للبشرية ، فلقد اثبتت هذه الجاهلية ـ ايّا كان معسكرها ـ انها ليست إلاّ وسيلة لتدمير واستغلال واستضعاف الشعوب .
افلاس الجاهلية الحديثة
وآخر الادلة واقربها الى تأريخنا الحديث الحرب الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة الامريكية ضد شعوب جنوب شرق آسيا ، وشعوب اخرى في العالم . ونحن لا نحتاج الى ان نبين ابعاد هذه الحرب الشرسة ، ولا نحتاج الى مزيد من الذكاء لكي نكتشف ان جميع التبريرات التي تستر وراءها الغرب او الشرق في فرضها لتلك الحروب على الشعوب المستضفعة ، هي كلها واهية باطلة ، بل انها أقبح من الجريمة ذاتها .
ترى بماذا يبررون قتل مليوني انسان في كمبوديا ، وما لا يقل عن مليون انسان في افغانستان هذا البلد الفقير المستضعف ؟! فهل شكر الله الذي انعم عليكم بنعمة القوة ، ونعمة التقدم الصناعي ، وتوفر الوسائل المادية ان تعتدوا على الشعوب ، وترتكبون بحقها المجازر الجماعية ، أم ان التقدم الصناعي والتكنلوجي في الولايات المتحدة الأمريكية يعني إحراق الأراضي الفيتنامية والكمبودية واللاوسية وحرق من فيها من بشر وحيوانات ونباتات ؟!
لقد تبين للعالم اليوم أكثر من اي وقت مضى افلاس الجاهلية الحديثة التي تسمي نفسها بـ (الحضارة) ، وهذا ما يفسر ظاهرة انتظار العالم لمولد حضارة جديدة ، وفكرة جديدة ، وبالتالي ولادة أمة اخرى . فما هي هذه الأمة ـ يا ترى ـ ، وما هي تلك الفكرة والحضارة ؟ وهل ننتظر من الصين ـ مثلاً ـ أن تكون هي هذه الحضارة الجديدة ؟
إنني ـ شخصياً ـ لا أتوقع ذلك ، لأني أرى ان الفكر البوذي الذي من الممكن أن يحل محل الماركسية الحاكمة في الصين ، ليس بذلك المستوى من العمق والنضج بحيث يستطيع ان يكون بديلا مناسبا وصحيحيا عما يوجد في عالمنا اليوم من افكار وثقافات وتشريعات .
ثم هل ننتظر ـ مثلاً ـ من بعض الحضارات البائدة التي كانت سائدة في افريقيا ان تعود وتحكم العالم ؟ كلا بالطبع ، لان الأفكار الشركية التي كانت سائدة في افريقيا تفتقر الى أي عنصر من الحياة .
المنهج الإسلامي الحل الوحيد
وعلى هذا الأساس فان انتظارنا الوحيد بصفتنا مسلمين ، مؤمنين بالقرآن الكريم ، وباعتبارنا مؤمنين بصدق الله عندما يقول : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ 1 ، يتوجه الى ميلاد الحضارة الإسلامية ، والمنهج الرسالي الايماني التوحيدي ، وبالتالي انبعاث الأمة الإسلامية من جديد ؛ هذه الأمة التي يقول عنها البارئ عز وجل : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ 2 .
وهكذا فان العالم اليوم في انتظار اللحظة التي تنبعث فيها الأمة الإسلامية من جديد لتؤدي دورها المرتقب ، ولكن التساؤلات المهمة والحساسة المطروحة في هذا المجال هي : ماذا تنتظر الأمة الإسلامية ، ولماذا لا تتحرك هذه الأمة لتنقذ البشرية من هذا الدرك الأسفل الذي أوقعته فيه الجاهلية الحديثة ، وماذا ينتظر حملة القرآن ؛ أولئك الذين في كتابهم نجاة البشرية ونجاة أنفسهم ؟؟
الوحدة سبيل نهوض المسلمين
ان الأمة الإسلامية تنتظر تحقق شيء واحد الا وهو (الوحدة) ، فهم في انتظار تجاوز سلبيات التجزئة بجميع أنواعها ؛ الإقليمية ، والعنصرية ، والقومية ، واخيراً الطائفية . ونحن اليوم مدعوون أكثر من اي وقت مضى الى إيجاد الوحدة التي من دونها لا يمكن ان يحمل شعبا و أمة ما همَّ العالم . فليس من الصحيح ان نفكر في إنقاذ شعبنا دون الشعوب الأخرى ، لان هذا الشعب متفاعل مع شعوب العالم ، فالعالم اليوم أصبح كله بمثابة قرية واحدة ، وكل جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء شئنا أم أبينا . فليست هناك ظاهرة سياسية او علمية او اجتماعية او اقتصادية في بقعة من بقاع العالم ، إلاّ وكان لها تفاعل مع سائر الظواهر . فلو اخترع اليوم ـ على سبيل المثال ـ في الولايات المتحدة الأمريكية جهاز ، فبعد أسبوع سوف ترى هذا الجهاز في بيتك سواء كنت في آسيا أم في افريقيا أو في أي مكان آخر ، واذا توصل العلم الحديث الى اكتشاف ما في جنوب افريقيا ـ مثلاً ـ فانك ما تلبث ان ترى هذا الاكتشاف مستعملا في الهند او في الصين او في اميركا او روسيا . . .
وعلى هذا فان العالم اصبح ـ بفعل التطور الهائل الذي طرأ على عالم الاتصالات ـ بمثابة قرية صغيرة متفاعلة مع بعضها . وبناء على ذلك فاننا لا نستطيع ان نفكر في ان نعمل على انقاذ أمة او شعب او جماعة ما ، إلاّ بعد ان ننقذ العالم كله . فعالمنا اليوم يشبه الى حد كبير البحر الذي تتفاعل أمواجه ومياهه وتياراته مع بعضها ، فنحن لا نستطيع ان نحلي بقعة صغيرة فقط من هذا البحر الواسع ، لأننا لا نلبث ان نرى ان هناك أمواجا اخرى ستأتي لتعيد تلك البقعة الى سابق عهدها .
وتأسيساً على ذلك لابد ان نحمل همّ العالم ، والامة الإسلامية هي المرشحة لحمله ؛ هذه الأمة ذات الالف مليون انسان ، وذات الامتداد العريض على رقعة واسعة من الارض ، وذات التأريخ الحضاري المجيد ، وبالتالي ذات القرآن الذي جاء لإنقاذ البشرية . وهذه الأمة لا يمكن لها ان تقوم بدورها المنشود إلاّ إذا اتحدت ، ولا ينفع في هذا المجال ان يسعى شعب واحد فقط من هذه الأمة من أجل الحيلولة دون وقوع المآسي والويلات ، لان اليد الواحدة لا يمكن ان تصفق ، ولان الشعب الواحد مهما كان مخلصاً في جهوده ومساعيه لا يمكنه ان يحقق انجازاً ملفتاً للنظر إلاّ إذا اتحدت معه الشعوب الإسلامية الاخرى .
شرط تحقيق الوحدة
ان هذه الوحدة الكبرى مرهونة بتطبيقنا لكلام الله سبحانه وتعالى الذي يقول : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... ﴾ 3 . فاذا ما استطعنا ان نكون هذه الأمة الوسطى في العالم ، واستطعنا ان نمتلك بقوة مصادرنا الطبيعية ، وسيطرنا على مواقفنا الستراتيجية ، واصبحنا نحمل راية المستضعفين في الأرض . . فحينئذ سيكون بإمكاننا ان نتحدى جبروت القوى الاستكبارية ، وحينئذ سنستطيع ان نمنع الحروب العدوانية .
وعلى هذا فان الوحدة تمثل اليوم ضرورة دينية ، وهدفاً ستراتيجياً ، فلا يمكن لأي انسان يعمل ويسعى من اجل إسعاد نفسه ، وإسعاد البشرية ان يتغاضى عن هذا الهدف الحيوي والاستراتيجي . وبالطبع فاني لا اقصد هنا وحدة الأنظمة ، بل وحدة الشعوب الإسلامية .
الحج المظهر الأكبر للوحدة
وتعتبر فريضة الحج من أهم مظاهر الوحدة ، وعوامل تحقيقها ، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بواجبات علينا ان نؤديها خلال الحج ، فقال في محكم كتابه الكريم : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 4 والآيات القرآنية السابقة تصرح بان على جميع المسلمين القادرين على أداء فريضة الحج ان يجتمعوا لأدائها في مكة المكرمة . فلا يمكن ـ مثلاً ـ ان يحج البعض من الناس في شهر محرم ، ويحج البعض الآخر في شهر ذي الحجة ، او في رمضان ، بل ان الحج يجب ان يتم في اشهر معلومات مما يؤكد على ضرورة التجمع في موسم الحج بالذات .
ثم يقول تعالى : ﴿ ... فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ... ﴾ 5 . فالفسوق والجدال هما من المحرمات الاجتماعية ، حيث اراد الله جل وعلا ان يكون جو المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي يقام في الحج ، جواً نقياً طاهراً لا جدال فيه ، ولا فسوق ؛ فلا يحلف احد بالله تعالى سواء كان صادقاً في حلفه أم كاذباً ، ولا يجادل أخاه ، بل يتبادل معه الرأي ، ويتبع أحسن أقواله ، وبذلك تتم عملية الشورى الإسلامية ، ويتم التعارف بين الشعوب المسلمة ، ومن ثم التعاون العلمي .
ثم يأمرنا تعالى أن نتحصن بلباس التقوى ، ونتزود من زادها لانه خير زاد : ﴿ ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ... ﴾ 5 ، وان المسلمين يتوافدون على الديار المقدسة لتطبيق هذه الفريضة الإسلامية العبادية السياسية .
ضرورة التعارف في الحج
ان من أهم واجباتكم ـ أيها الحجاج ـ ليس ان تزكوا أنفسكم فحسب ، رغم ان تزكية النفس من خلال الحج ضرورة ، وليس فقط ان تهتموا باداء واجبات الحج من طواف حول البيت ، وسعي بين الصفا والمروة ، وتقصير ، ووقوف في المشاعر . . . فبالإضافة الى ذلك هناك واجب عظيم جمعكم الله تعالى في هذه الأرض من أجل تحقيقه ، وهذا الواجب هو التعارف كما يشير الى ذلك تعالى في قوله : ﴿ ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 6 وقوله : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ﴾ 7 .
عن جابر الجعفي قال ؛ تنفّست بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) ثم قلت : (في الحديث . . . ) فقال : يا جابر إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان ، وأجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه 8 . فمادام المؤمنون إخوة فعليهم ان يتصالحوا : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... ﴾ 7 ، فكيف يمكن ان نصلح بين اخوينا ونحن لا نعرف بعضنا ، ولا نعرف إمكانياتنا ؟. وان ذلك لا ينبغي ان يكون ضمن مؤتمرات رسمية ، فهذه المؤتمرات كانت أكثر ضررا على الوحدة من مكر إبليس ، بل من الضروري ان يبحث كل حاج مسلم عن إخوة له في الله جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها ، فيجلس معهم ، ويستمع اليهم ، ويتحدث معهم ، ويتعرف على آمالهم وآلامهم ، ثم يطرح الحلول والعلاج .
أئمة الكفر يمزقون الوحدة
ان أئمة الكفر وأشياع الظلال يسعون من أجل بث الخلافات المذهبية في الحج وخارجه ، لأنهم يعلمون ان وحدة الأمة الإسلامية وخصوصاً وحدة المذاهب الدينية ؛ هذه الوحدة القائمة على أساس التقوى وعلى أساس التمحور حول القرآن ، هي الأخطر وهي الأقوى والأمضى من بين أسلحة المسلمين ، ولذلك نراهم يعملون بجد من اجل مقاومة هذه الوحدة .
إنهم في السابق جاؤوا بالقوميات والعنصريات والإقليميات من اجل ان يزرعوا الفرقة بين المسلمين ، واليوم نراهم يتجرؤون ويتجاسرون أكثر فإذا بهم يحاولون بث الفرقة بين المسلمين ، وانها لفتنة عمياء لو انتشرت في بلداننا لحرقت الأخضر واليابس ، فعلينا أن نقاومها لان الفتنة اشد من القتل ، ولابد ان نسكت تلك الأصوات الناشزة التي تبث هذه الفتنة الطائفية العمياء ، ولابد ان نقطع تلك الأيادي التي تعمل في هذا المجال ، وتمهد الطريق للاستعمار .
من هنا يجدر بالمسلمين جميعاً ان ينتبهوا ، لان هناك من يسعى ليزرع الفتن بيننا عبر كلماته وممارساته اليومية . . واعلموا ان الفتن لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، وانما تعم فتأخذ البرئ بذنب المجرم . .
وهكذا فان الجاهلية الحديثة قد أفلست ، وافتضح أمرها ، والعالم ينتظر الأمة الإسلامية ، وهذه الأمة تنتظر بدورها الوحدة ، وهذه الوحدة لا يمكن ان تتحقق الا بعد ان نتجاوز العقبات المتمثلة في الإقليمية والعنصرية والطائفية . .
مشروع الإسلام للوحدة
من اخطر ما ابتليت به البشرية الصراعات بين بني آدم ، علماً ان الله سبحانه وتعالى قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا ، وقد حدث أول مظهر من مظاهر الصراع عندما قتل قابيل أخاه هابيل . ومنذ ذلك الحين استمرت المعارك الدامية حيناً ، والباردة أحياناً أخرى . ونحن لو تعمقنا في الأمر لوجدنا أن مشكلة الصراعات بين أبناء آدم تمثل أعمق واخطر معضلة ابتليت بها البشرية ، ويكفينا في هذا المجال أن نلقي نظرة واحدة على ميزانيات التسلح في هذا العالم ، وعلى الحروب التي تبتلع جهود البشرية ، والإذاعات والصحـف ووسائل الإعلام الاخرى الموظفة لهذه الحروب ، لنعرف مدى عمق هذه المأساة .
إقرار الوحدة جوهر الرسالات الإلهية
وقد أرسل الله عز وجل رسله لكي ينقذوا البشرية من مآسيها ، ويقدموا اليها الحلول الناجعة والكفيلة بضمان سعادتها ، ومن جهة اخرى فقد بينوا الأسس الواضحة والمتينة لإقرار الوحدة بين بني آدم .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نصف القرآن الكريم يعالج هذه المشكلة الحادة في حياة الإنسان ، وكلما استطعنا ان نقترب من روح القرآن ، وجوهر آياته الحياتية والحضارية ، استطعنا ان نكون بمنجى عن هذا الداء العضال ؛ اي داء الصراع بين بني آدم .
والصراع هذا يبدأ من الزوج مع زوجته ، ومن الأخ مع أخيه ، والجار مع جاره ، ويستمر إلى ان يتخذ شكل الحرب الباردة التي نراها سائدة اليوم بين الدول الكبرى في العالم .
نظريات الوحدة
ان هذه المشكلة العميقة الواسعة التي لم نر ان الإنسان قد استطاع التخلص منها في حقبة من حقب التاريخ ، جاء القرآن الكريم ليقدم الحلول الناجحة والحاسمة لها . وقبل كل شيء لابد ان نوضح ان العلماء والمفكرين ، وعلماء الاجتماع قدموا من اجل إقرار الوحدة بين افراد المجتمع ثلاث نظريات :
1 ـ ان الوحدة لابد ان تقوم بالقوة ومن خلال الدكتاتورية التي تضللها سحابة من التضليل الإعلامي ، وهذه هي النظرية الفاشية والشيوعية .
2 ـ ان الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الثروة المدعومة بالإعلام او التضليل الدعائي ، وهذه الثروة ـ حسب ما يزعم أصحاب هذه النظرية ـ هي التي لابد ان تحل مشاكل البشرية ، وهي التي لابد ان تهيمن على الطاقات وتوحدها . والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بهذه النظرية يطرح شعاراً مفاده ان جميع العالم لابد ان يخضع للرأسمال . ففي اي موقع من مواقع العالم الرأسمالي يكون الإنسان أخا للإنسان الذي يعيش في الموقع الآخر فيتحدون مع بعضهم ، ويشكلون شبكة واسعة من المؤسسات التجارية والصناعية والمالية ، وبالتالي فانهم يؤسسون الدولة التي توحد الأمة .
وبناء على ذلك فان الإنسان الغربي يعني من الوحدة ، وحدة الرأسمال ، والقوى التي تمتص جهود الناس ، وهذه الوحدة تقوم شبكاتها على أساس المال ، ولكن هذه الشبكات تصبغ بصبغة الإعلام الذي يكون هو الظاهر ، في حين ان الثروة تمثل حقيقة هذه الوحدة .
وإذا وجد في العصر الحديث انتشار لما يسمى بـ ( الشركات المتعددة الجنسيات ) فانما تتبع هذه النظرية ، وهذه الحالة تسمى من الناحية السياسية والاقتصادية بالامبريالية .
3 ـ أما النظرية الثالثة ، فهي النظرية الإسلامية ، وهي تقوم على أساس ان الوحدة لا يمكن ان تبنى على أساس المال مضافا الى الإعلام ، ولا على أساس القوة مضافة الى الاعلام ، بل تقوم على اساس العقل مضافا الى الوحي .
ان العقل هو الحجة الباطنة ، والوحي هو الذي يثير دفائن العقل ، ويفجر طاقات الفكر ، وهو الحجة الظاهرة لله سبحانه على العباد ، وهو الاساس المتين للوحدة .
ان هذه البصيرة القرآنية تعني انه ليس من حق احد ان يلغي دور الآخرين . فالوحدة لا تعني وحدتي انا فحسب ، بل تعني توحيد الله وحده ، واستظلال ( الانا ) بظل رحمة رب العالمين ، وبقاءنا جميعاً في ظل سحابة الرحمة الالهية الواسعة . فالذي ينظم علاقتي بك هو عقلي وعقلك ، والوحي بدوره هو الذي ينظم عقلينا ، ويفجر طاقات فكرينا .
الاعتصام بحبل الله أساس الوحدة
والله سبحانه وتعالى عندما يبين أسس الوحدة يقول : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... ﴾ 9 . فهل حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية ، وهل يعني الإقليم او الدولة ؟ كلا بالطبع ، فالحبل الإلهي يعني ان الله جل وعلا هو رب كل شيء ، وهو رب السماوات والأرض ، وخالقنا جميعاً . فعلاقة الله بي ، وعلاقته بك ، هي علاقة واحدة ، لأنه هو الذي خلقك وخلقني ؛ فكلنا عباد له .
وعندما قال المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هذا العالم المجاهد الفذ : " بني الإسلام على كلمتين ؛ كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة " فقد ربط بين الأصل والفرع . فكلمة التوحيد لا تنفصل عن توحيد الكلمة ، فمن يؤمن بالله لا يمكن أن يجمع الى هذا الإيمان ، الإيمان بأرضه او قوميته او عنصره . . . وإذا كان الجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالاعتبارات الأخرى ممكنا ، فماذا تعني الأصنام ـ إذن ـ ؟ وهل كان الإنسان غبياً في التاريخ الى درجة انه لا يعلم ان هذا الصنم لم يخلقه ، وذلك الانسان الجاهلي الذي كان يصنع صنماً من التمر حتى اذا جاع التهمه أفلم يكن يعلم ان هذا الصنم ليس الهه ؟! بلى انه كان يعلم بذلك ، ولكنه كان قد جعل من التمر رمزاً لقبيلته .
الإيمان بالأصنام يوجب التفرق
وهذا يعني اننا عندما نقول (صنم) فان ذلك يقتضي ان نرفضه ، ونرفض تلك القوة التي تدعم هذا الصنم . اما اذا كنا نؤمن بصنم من قبيل القومية او العنصرية او اي صنم آخر ، فان هذا يعني استحالة ايماننا بالله الواحد ؛ ويعني ان إيماننا بهذه الأصنام يستوجب عدم اتحادنا ، لان الأصنام لابد ان تفرقنا . فإذا عبد كل واحد منا صنماً ، فسوف يكون لكل إنسان عشيرته ، وأرضه ، وعنصره ، ولغته المختلفة عن لغة الآخرين .
فلابد ـ إذن ـ من إسقاط وتحطيم هذه الاصنام ، وحينـئذ سنبدأ مسيرة العقل ، والتفهم ، والحرية . فمن المستحيل ان نحقق وحدة بدون حرية ، فنحن لا يمكن ان نقول بوجود الوحدة بين الجدران ، والآجر الذي صنع هذه الجدران . فهذه ليست وحدة ،بل ان الوحدة إنما تكون من خلال منح الحرية للجميع ، وان يكون الرابط بينهم العقل والوحي .
ولذلك نجد الآيات القرآنية وخصوصاً في سورة الحشر تبين لنا أساس الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية قائلة : ان هذا الأساس هو أساس الحب والإيثار والجهاد ، والخروج من شح الذات الى رحاب الحقيقة 10 . ومتى ما استطعنا ان نربي أنفسنا عبر هذا الافق استطعنا ان نحقق الوحدة بين انفسنا على تلك الأسس ، واستطعنا ان ندعو الآخرين الى هذه الوحدة .
الوحدة لا تعني إلغاء المعتقدات
ونحن عندما نقول وندعو الى الوحدة بين السنة والشيعة فان هذا لا يعني ان يترك السني مذهبه ، ويترك الشيعي مذهبه ، ولا يعني ان يترك اي واحد منهم معتقداته وتقاليده ، بل يعني ايجاد علاقة الحب ، ورابطة الايثار ، والتوحيد بين الطائفتين ، وهذه الرابطة تمتنها الآيات القرآنية ، وتنميها مفاهيم العقل الذي يجلبه وينميه الوحي . ان الله سبحانه وتعالى يقرر عندما يبين لنا طبيعة المجتمع الإسلامي ، ان الموال هذا المجتمع يجب ان تكون تحت إشراف القيادة الرسالية ، فيقول في هذا المجال : ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 11 . وهؤلاء المهاجرون هم فقراء ليسوا من اهل البلد الذي هجروا اليه ؛ اي ان الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية لابد ان تقوم على أساس ان أهل البلد يجب ان يهتموا بمن يفد اليهم قبل ان يهتموا بأنفسهم . وبناء على ذلك فان علينا ان نهتم أولاً بالغريب ثم القريب ، والجار ثم الدار . .
فلننظر الى مدى القيمة التي يضفيها القرآن على هذا الإنسان الذي يترك أرضه ، فهو لا يحدد انتماء هؤلاء المهاجرين ، لان الهجرة هي بحد ذاتها قيمة . فلا بد ان نحقق الوحدة من خلالها ، ولابد ان نربي المجتمع الذي يحب الإنسان المهاجر أكثر مما يحب أرضه ، ويقولان هذا الإنسان غريب ومن بلد بعيد وان فطرتي تدعوني الى ان أحسن اليه . فاذا ما أحسنت الى ذلك الغريب الذي لا يمت اليَّ بصلة القربى ، لا اللغة ولا الجنس ولا اعرفه نهائياً ولا يعرفني فانني أكون بذلك قد أخلصت العمل لله جل جلاله ؛ اي ارتفعت ، وتساميت على الاعتبارات المادية الى مستوى الإيمان الحق .
ثم من بعد ذلك تأتي الفئة الاخرى التي تمثل ( الأنصار ) الذين يقول عنهم عز من قائل : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ 12 . فما هي طبقة الأنصار يا ترى ؟ ان في كل بلد انصاراً ، ولكل أمة انصاراً ، وهؤلاء الانصار لا يدورون حول محورهم وذواتهم . فمن أهم الصفات التي يبينها القرآن الكريم للأنصار بعد الإيمان انه يقول عنهم : ﴿ ... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... ﴾ 12 .
فالانصار يؤثرون على أنفسهم ، ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا يمدح احداً لانه يأكل كثيراً ، او يبني بيتاً واسعاً ، ويتسنم منصباً مرموقاً ، بل يمدحه لانه يؤثر على نفسه إن كان يعاني من العوز والخصاصة . وهذا هو الفلاح المبين ، كما يؤكد على ذلك تعالى فيقوله : ﴿ ... وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 12 . فإذا أردت الفلاح فلابد ان تخرج من الذات ، ومن هذه النفس الضيقة ، وان تنظر الى الحياة برحابتها ، وسعة افقها .
ثم يضيف عز شأنه قائلاً : ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ 13 .
وعندما نصل الى هذا المستوى ، وعندما نريد ان نمتن اواصر الوحدة في قلوبنا عبر الحب ، وانتزاع الغل من الصدور ، فحينئذ سنكون مؤمنين حقاً ، وسيحبنا الله تبارك وتعالى ، وينعم علينا بنعمة الوحدة التي هي سر الانتصار على الاعداء .
هكذا نحقق الوحدة
الوحدة هي أمل المستضعفين ، وروح العزة والكرامة في الأمة ، وهي هيبة للصديق ، ورعب للعدو . ونحن اليوم في صراعنا مع العدو الداخلي المتمثل في قوة النفاق والضلالة ، والعدو الخارجي المتمثل في الامبريالية المستكبرة في الأرض ، بحاجة الى الوحدة لأمرين أساسيين :
1 ـ لكي نبث الرعب في قلوب الأعداء ، ونهزمهم نفسياً قبل ان نحتاج الى القوة المادية .
2 ـ لكي نمنع العدو من ان يهزمنا من الناحية النفسية .
ان طاقات الأمة عظيمة وهائلة ، وهي لا يفصلها عن التقدم والرقي سوى عقبة نفسية واحدة هي انعـدام الثقة بالذات ، وقلة التوكل على الله تبارك وتعالى ، وعدم ثقة بعضها بالبعض الآخر .
ولذلك فقد تفرقت الأمة واختلفت ، وتركت عمود عزها وهو الوحدة ، بل انها هجرت حبل الله المتين . ونحن اليوم بحاجة الى الوحدة لكي نعطي للامة املاً ، ومن هنا فان أبرز أهدافنا في الوقت الحاضر هو تحقيق الوحدة على مختلف الأصعدة .
افلاس الجاهلية الحديثة
وآخر الادلة واقربها الى تأريخنا الحديث الحرب الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة الامريكية ضد شعوب جنوب شرق آسيا ، وشعوب اخرى في العالم . ونحن لا نحتاج الى ان نبين ابعاد هذه الحرب الشرسة ، ولا نحتاج الى مزيد من الذكاء لكي نكتشف ان جميع التبريرات التي تستر وراءها الغرب او الشرق في فرضها لتلك الحروب على الشعوب المستضفعة ، هي كلها واهية باطلة ، بل انها أقبح من الجريمة ذاتها .
ترى بماذا يبررون قتل مليوني انسان في كمبوديا ، وما لا يقل عن مليون انسان في افغانستان هذا البلد الفقير المستضعف ؟! فهل شكر الله الذي انعم عليكم بنعمة القوة ، ونعمة التقدم الصناعي ، وتوفر الوسائل المادية ان تعتدوا على الشعوب ، وترتكبون بحقها المجازر الجماعية ، أم ان التقدم الصناعي والتكنلوجي في الولايات المتحدة الأمريكية يعني إحراق الأراضي الفيتنامية والكمبودية واللاوسية وحرق من فيها من بشر وحيوانات ونباتات ؟!
لقد تبين للعالم اليوم أكثر من اي وقت مضى افلاس الجاهلية الحديثة التي تسمي نفسها بـ (الحضارة) ، وهذا ما يفسر ظاهرة انتظار العالم لمولد حضارة جديدة ، وفكرة جديدة ، وبالتالي ولادة أمة اخرى . فما هي هذه الأمة ـ يا ترى ـ ، وما هي تلك الفكرة والحضارة ؟ وهل ننتظر من الصين ـ مثلاً ـ أن تكون هي هذه الحضارة الجديدة ؟
إنني ـ شخصياً ـ لا أتوقع ذلك ، لأني أرى ان الفكر البوذي الذي من الممكن أن يحل محل الماركسية الحاكمة في الصين ، ليس بذلك المستوى من العمق والنضج بحيث يستطيع ان يكون بديلا مناسبا وصحيحيا عما يوجد في عالمنا اليوم من افكار وثقافات وتشريعات .
ثم هل ننتظر ـ مثلاً ـ من بعض الحضارات البائدة التي كانت سائدة في افريقيا ان تعود وتحكم العالم ؟ كلا بالطبع ، لان الأفكار الشركية التي كانت سائدة في افريقيا تفتقر الى أي عنصر من الحياة .
المنهج الإسلامي الحل الوحيد
وعلى هذا الأساس فان انتظارنا الوحيد بصفتنا مسلمين ، مؤمنين بالقرآن الكريم ، وباعتبارنا مؤمنين بصدق الله عندما يقول : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ 1 ، يتوجه الى ميلاد الحضارة الإسلامية ، والمنهج الرسالي الايماني التوحيدي ، وبالتالي انبعاث الأمة الإسلامية من جديد ؛ هذه الأمة التي يقول عنها البارئ عز وجل : ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ 2 .
وهكذا فان العالم اليوم في انتظار اللحظة التي تنبعث فيها الأمة الإسلامية من جديد لتؤدي دورها المرتقب ، ولكن التساؤلات المهمة والحساسة المطروحة في هذا المجال هي : ماذا تنتظر الأمة الإسلامية ، ولماذا لا تتحرك هذه الأمة لتنقذ البشرية من هذا الدرك الأسفل الذي أوقعته فيه الجاهلية الحديثة ، وماذا ينتظر حملة القرآن ؛ أولئك الذين في كتابهم نجاة البشرية ونجاة أنفسهم ؟؟
الوحدة سبيل نهوض المسلمين
ان الأمة الإسلامية تنتظر تحقق شيء واحد الا وهو (الوحدة) ، فهم في انتظار تجاوز سلبيات التجزئة بجميع أنواعها ؛ الإقليمية ، والعنصرية ، والقومية ، واخيراً الطائفية . ونحن اليوم مدعوون أكثر من اي وقت مضى الى إيجاد الوحدة التي من دونها لا يمكن ان يحمل شعبا و أمة ما همَّ العالم . فليس من الصحيح ان نفكر في إنقاذ شعبنا دون الشعوب الأخرى ، لان هذا الشعب متفاعل مع شعوب العالم ، فالعالم اليوم أصبح كله بمثابة قرية واحدة ، وكل جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء شئنا أم أبينا . فليست هناك ظاهرة سياسية او علمية او اجتماعية او اقتصادية في بقعة من بقاع العالم ، إلاّ وكان لها تفاعل مع سائر الظواهر . فلو اخترع اليوم ـ على سبيل المثال ـ في الولايات المتحدة الأمريكية جهاز ، فبعد أسبوع سوف ترى هذا الجهاز في بيتك سواء كنت في آسيا أم في افريقيا أو في أي مكان آخر ، واذا توصل العلم الحديث الى اكتشاف ما في جنوب افريقيا ـ مثلاً ـ فانك ما تلبث ان ترى هذا الاكتشاف مستعملا في الهند او في الصين او في اميركا او روسيا . . .
وعلى هذا فان العالم اصبح ـ بفعل التطور الهائل الذي طرأ على عالم الاتصالات ـ بمثابة قرية صغيرة متفاعلة مع بعضها . وبناء على ذلك فاننا لا نستطيع ان نفكر في ان نعمل على انقاذ أمة او شعب او جماعة ما ، إلاّ بعد ان ننقذ العالم كله . فعالمنا اليوم يشبه الى حد كبير البحر الذي تتفاعل أمواجه ومياهه وتياراته مع بعضها ، فنحن لا نستطيع ان نحلي بقعة صغيرة فقط من هذا البحر الواسع ، لأننا لا نلبث ان نرى ان هناك أمواجا اخرى ستأتي لتعيد تلك البقعة الى سابق عهدها .
وتأسيساً على ذلك لابد ان نحمل همّ العالم ، والامة الإسلامية هي المرشحة لحمله ؛ هذه الأمة ذات الالف مليون انسان ، وذات الامتداد العريض على رقعة واسعة من الارض ، وذات التأريخ الحضاري المجيد ، وبالتالي ذات القرآن الذي جاء لإنقاذ البشرية . وهذه الأمة لا يمكن لها ان تقوم بدورها المنشود إلاّ إذا اتحدت ، ولا ينفع في هذا المجال ان يسعى شعب واحد فقط من هذه الأمة من أجل الحيلولة دون وقوع المآسي والويلات ، لان اليد الواحدة لا يمكن ان تصفق ، ولان الشعب الواحد مهما كان مخلصاً في جهوده ومساعيه لا يمكنه ان يحقق انجازاً ملفتاً للنظر إلاّ إذا اتحدت معه الشعوب الإسلامية الاخرى .
شرط تحقيق الوحدة
ان هذه الوحدة الكبرى مرهونة بتطبيقنا لكلام الله سبحانه وتعالى الذي يقول : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... ﴾ 3 . فاذا ما استطعنا ان نكون هذه الأمة الوسطى في العالم ، واستطعنا ان نمتلك بقوة مصادرنا الطبيعية ، وسيطرنا على مواقفنا الستراتيجية ، واصبحنا نحمل راية المستضعفين في الأرض . . فحينئذ سيكون بإمكاننا ان نتحدى جبروت القوى الاستكبارية ، وحينئذ سنستطيع ان نمنع الحروب العدوانية .
وعلى هذا فان الوحدة تمثل اليوم ضرورة دينية ، وهدفاً ستراتيجياً ، فلا يمكن لأي انسان يعمل ويسعى من اجل إسعاد نفسه ، وإسعاد البشرية ان يتغاضى عن هذا الهدف الحيوي والاستراتيجي . وبالطبع فاني لا اقصد هنا وحدة الأنظمة ، بل وحدة الشعوب الإسلامية .
الحج المظهر الأكبر للوحدة
وتعتبر فريضة الحج من أهم مظاهر الوحدة ، وعوامل تحقيقها ، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بواجبات علينا ان نؤديها خلال الحج ، فقال في محكم كتابه الكريم : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ 4 والآيات القرآنية السابقة تصرح بان على جميع المسلمين القادرين على أداء فريضة الحج ان يجتمعوا لأدائها في مكة المكرمة . فلا يمكن ـ مثلاً ـ ان يحج البعض من الناس في شهر محرم ، ويحج البعض الآخر في شهر ذي الحجة ، او في رمضان ، بل ان الحج يجب ان يتم في اشهر معلومات مما يؤكد على ضرورة التجمع في موسم الحج بالذات .
ثم يقول تعالى : ﴿ ... فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ... ﴾ 5 . فالفسوق والجدال هما من المحرمات الاجتماعية ، حيث اراد الله جل وعلا ان يكون جو المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي يقام في الحج ، جواً نقياً طاهراً لا جدال فيه ، ولا فسوق ؛ فلا يحلف احد بالله تعالى سواء كان صادقاً في حلفه أم كاذباً ، ولا يجادل أخاه ، بل يتبادل معه الرأي ، ويتبع أحسن أقواله ، وبذلك تتم عملية الشورى الإسلامية ، ويتم التعارف بين الشعوب المسلمة ، ومن ثم التعاون العلمي .
ثم يأمرنا تعالى أن نتحصن بلباس التقوى ، ونتزود من زادها لانه خير زاد : ﴿ ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ... ﴾ 5 ، وان المسلمين يتوافدون على الديار المقدسة لتطبيق هذه الفريضة الإسلامية العبادية السياسية .
ضرورة التعارف في الحج
ان من أهم واجباتكم ـ أيها الحجاج ـ ليس ان تزكوا أنفسكم فحسب ، رغم ان تزكية النفس من خلال الحج ضرورة ، وليس فقط ان تهتموا باداء واجبات الحج من طواف حول البيت ، وسعي بين الصفا والمروة ، وتقصير ، ووقوف في المشاعر . . . فبالإضافة الى ذلك هناك واجب عظيم جمعكم الله تعالى في هذه الأرض من أجل تحقيقه ، وهذا الواجب هو التعارف كما يشير الى ذلك تعالى في قوله : ﴿ ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 6 وقوله : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... ﴾ 7 .
عن جابر الجعفي قال ؛ تنفّست بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) ثم قلت : (في الحديث . . . ) فقال : يا جابر إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان ، وأجرى فيهم من ريح روحه ، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه ، فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه 8 . فمادام المؤمنون إخوة فعليهم ان يتصالحوا : ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... ﴾ 7 ، فكيف يمكن ان نصلح بين اخوينا ونحن لا نعرف بعضنا ، ولا نعرف إمكانياتنا ؟. وان ذلك لا ينبغي ان يكون ضمن مؤتمرات رسمية ، فهذه المؤتمرات كانت أكثر ضررا على الوحدة من مكر إبليس ، بل من الضروري ان يبحث كل حاج مسلم عن إخوة له في الله جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها ، فيجلس معهم ، ويستمع اليهم ، ويتحدث معهم ، ويتعرف على آمالهم وآلامهم ، ثم يطرح الحلول والعلاج .
أئمة الكفر يمزقون الوحدة
ان أئمة الكفر وأشياع الظلال يسعون من أجل بث الخلافات المذهبية في الحج وخارجه ، لأنهم يعلمون ان وحدة الأمة الإسلامية وخصوصاً وحدة المذاهب الدينية ؛ هذه الوحدة القائمة على أساس التقوى وعلى أساس التمحور حول القرآن ، هي الأخطر وهي الأقوى والأمضى من بين أسلحة المسلمين ، ولذلك نراهم يعملون بجد من اجل مقاومة هذه الوحدة .
إنهم في السابق جاؤوا بالقوميات والعنصريات والإقليميات من اجل ان يزرعوا الفرقة بين المسلمين ، واليوم نراهم يتجرؤون ويتجاسرون أكثر فإذا بهم يحاولون بث الفرقة بين المسلمين ، وانها لفتنة عمياء لو انتشرت في بلداننا لحرقت الأخضر واليابس ، فعلينا أن نقاومها لان الفتنة اشد من القتل ، ولابد ان نسكت تلك الأصوات الناشزة التي تبث هذه الفتنة الطائفية العمياء ، ولابد ان نقطع تلك الأيادي التي تعمل في هذا المجال ، وتمهد الطريق للاستعمار .
من هنا يجدر بالمسلمين جميعاً ان ينتبهوا ، لان هناك من يسعى ليزرع الفتن بيننا عبر كلماته وممارساته اليومية . . واعلموا ان الفتن لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، وانما تعم فتأخذ البرئ بذنب المجرم . .
وهكذا فان الجاهلية الحديثة قد أفلست ، وافتضح أمرها ، والعالم ينتظر الأمة الإسلامية ، وهذه الأمة تنتظر بدورها الوحدة ، وهذه الوحدة لا يمكن ان تتحقق الا بعد ان نتجاوز العقبات المتمثلة في الإقليمية والعنصرية والطائفية . .
مشروع الإسلام للوحدة
من اخطر ما ابتليت به البشرية الصراعات بين بني آدم ، علماً ان الله سبحانه وتعالى قد انذر بني آدم بانهم عندما يهبطون الى الارض سوف يكون بعضهم لبعض عدوا ، وقد حدث أول مظهر من مظاهر الصراع عندما قتل قابيل أخاه هابيل . ومنذ ذلك الحين استمرت المعارك الدامية حيناً ، والباردة أحياناً أخرى . ونحن لو تعمقنا في الأمر لوجدنا أن مشكلة الصراعات بين أبناء آدم تمثل أعمق واخطر معضلة ابتليت بها البشرية ، ويكفينا في هذا المجال أن نلقي نظرة واحدة على ميزانيات التسلح في هذا العالم ، وعلى الحروب التي تبتلع جهود البشرية ، والإذاعات والصحـف ووسائل الإعلام الاخرى الموظفة لهذه الحروب ، لنعرف مدى عمق هذه المأساة .
إقرار الوحدة جوهر الرسالات الإلهية
وقد أرسل الله عز وجل رسله لكي ينقذوا البشرية من مآسيها ، ويقدموا اليها الحلول الناجعة والكفيلة بضمان سعادتها ، ومن جهة اخرى فقد بينوا الأسس الواضحة والمتينة لإقرار الوحدة بين بني آدم .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نصف القرآن الكريم يعالج هذه المشكلة الحادة في حياة الإنسان ، وكلما استطعنا ان نقترب من روح القرآن ، وجوهر آياته الحياتية والحضارية ، استطعنا ان نكون بمنجى عن هذا الداء العضال ؛ اي داء الصراع بين بني آدم .
والصراع هذا يبدأ من الزوج مع زوجته ، ومن الأخ مع أخيه ، والجار مع جاره ، ويستمر إلى ان يتخذ شكل الحرب الباردة التي نراها سائدة اليوم بين الدول الكبرى في العالم .
نظريات الوحدة
ان هذه المشكلة العميقة الواسعة التي لم نر ان الإنسان قد استطاع التخلص منها في حقبة من حقب التاريخ ، جاء القرآن الكريم ليقدم الحلول الناجحة والحاسمة لها . وقبل كل شيء لابد ان نوضح ان العلماء والمفكرين ، وعلماء الاجتماع قدموا من اجل إقرار الوحدة بين افراد المجتمع ثلاث نظريات :
1 ـ ان الوحدة لابد ان تقوم بالقوة ومن خلال الدكتاتورية التي تضللها سحابة من التضليل الإعلامي ، وهذه هي النظرية الفاشية والشيوعية .
2 ـ ان الوحدة لا يمكن أن تقوم إلا على أساس الثروة المدعومة بالإعلام او التضليل الدعائي ، وهذه الثروة ـ حسب ما يزعم أصحاب هذه النظرية ـ هي التي لابد ان تحل مشاكل البشرية ، وهي التي لابد ان تهيمن على الطاقات وتوحدها . والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بهذه النظرية يطرح شعاراً مفاده ان جميع العالم لابد ان يخضع للرأسمال . ففي اي موقع من مواقع العالم الرأسمالي يكون الإنسان أخا للإنسان الذي يعيش في الموقع الآخر فيتحدون مع بعضهم ، ويشكلون شبكة واسعة من المؤسسات التجارية والصناعية والمالية ، وبالتالي فانهم يؤسسون الدولة التي توحد الأمة .
وبناء على ذلك فان الإنسان الغربي يعني من الوحدة ، وحدة الرأسمال ، والقوى التي تمتص جهود الناس ، وهذه الوحدة تقوم شبكاتها على أساس المال ، ولكن هذه الشبكات تصبغ بصبغة الإعلام الذي يكون هو الظاهر ، في حين ان الثروة تمثل حقيقة هذه الوحدة .
وإذا وجد في العصر الحديث انتشار لما يسمى بـ ( الشركات المتعددة الجنسيات ) فانما تتبع هذه النظرية ، وهذه الحالة تسمى من الناحية السياسية والاقتصادية بالامبريالية .
3 ـ أما النظرية الثالثة ، فهي النظرية الإسلامية ، وهي تقوم على أساس ان الوحدة لا يمكن ان تبنى على أساس المال مضافا الى الإعلام ، ولا على أساس القوة مضافة الى الاعلام ، بل تقوم على اساس العقل مضافا الى الوحي .
ان العقل هو الحجة الباطنة ، والوحي هو الذي يثير دفائن العقل ، ويفجر طاقات الفكر ، وهو الحجة الظاهرة لله سبحانه على العباد ، وهو الاساس المتين للوحدة .
ان هذه البصيرة القرآنية تعني انه ليس من حق احد ان يلغي دور الآخرين . فالوحدة لا تعني وحدتي انا فحسب ، بل تعني توحيد الله وحده ، واستظلال ( الانا ) بظل رحمة رب العالمين ، وبقاءنا جميعاً في ظل سحابة الرحمة الالهية الواسعة . فالذي ينظم علاقتي بك هو عقلي وعقلك ، والوحي بدوره هو الذي ينظم عقلينا ، ويفجر طاقات فكرينا .
الاعتصام بحبل الله أساس الوحدة
والله سبحانه وتعالى عندما يبين أسس الوحدة يقول : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ... ﴾ 9 . فهل حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية ، وهل يعني الإقليم او الدولة ؟ كلا بالطبع ، فالحبل الإلهي يعني ان الله جل وعلا هو رب كل شيء ، وهو رب السماوات والأرض ، وخالقنا جميعاً . فعلاقة الله بي ، وعلاقته بك ، هي علاقة واحدة ، لأنه هو الذي خلقك وخلقني ؛ فكلنا عباد له .
وعندما قال المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء هذا العالم المجاهد الفذ : " بني الإسلام على كلمتين ؛ كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة " فقد ربط بين الأصل والفرع . فكلمة التوحيد لا تنفصل عن توحيد الكلمة ، فمن يؤمن بالله لا يمكن أن يجمع الى هذا الإيمان ، الإيمان بأرضه او قوميته او عنصره . . . وإذا كان الجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالاعتبارات الأخرى ممكنا ، فماذا تعني الأصنام ـ إذن ـ ؟ وهل كان الإنسان غبياً في التاريخ الى درجة انه لا يعلم ان هذا الصنم لم يخلقه ، وذلك الانسان الجاهلي الذي كان يصنع صنماً من التمر حتى اذا جاع التهمه أفلم يكن يعلم ان هذا الصنم ليس الهه ؟! بلى انه كان يعلم بذلك ، ولكنه كان قد جعل من التمر رمزاً لقبيلته .
الإيمان بالأصنام يوجب التفرق
وهذا يعني اننا عندما نقول (صنم) فان ذلك يقتضي ان نرفضه ، ونرفض تلك القوة التي تدعم هذا الصنم . اما اذا كنا نؤمن بصنم من قبيل القومية او العنصرية او اي صنم آخر ، فان هذا يعني استحالة ايماننا بالله الواحد ؛ ويعني ان إيماننا بهذه الأصنام يستوجب عدم اتحادنا ، لان الأصنام لابد ان تفرقنا . فإذا عبد كل واحد منا صنماً ، فسوف يكون لكل إنسان عشيرته ، وأرضه ، وعنصره ، ولغته المختلفة عن لغة الآخرين .
فلابد ـ إذن ـ من إسقاط وتحطيم هذه الاصنام ، وحينـئذ سنبدأ مسيرة العقل ، والتفهم ، والحرية . فمن المستحيل ان نحقق وحدة بدون حرية ، فنحن لا يمكن ان نقول بوجود الوحدة بين الجدران ، والآجر الذي صنع هذه الجدران . فهذه ليست وحدة ،بل ان الوحدة إنما تكون من خلال منح الحرية للجميع ، وان يكون الرابط بينهم العقل والوحي .
ولذلك نجد الآيات القرآنية وخصوصاً في سورة الحشر تبين لنا أساس الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية قائلة : ان هذا الأساس هو أساس الحب والإيثار والجهاد ، والخروج من شح الذات الى رحاب الحقيقة 10 . ومتى ما استطعنا ان نربي أنفسنا عبر هذا الافق استطعنا ان نحقق الوحدة بين انفسنا على تلك الأسس ، واستطعنا ان ندعو الآخرين الى هذه الوحدة .
الوحدة لا تعني إلغاء المعتقدات
ونحن عندما نقول وندعو الى الوحدة بين السنة والشيعة فان هذا لا يعني ان يترك السني مذهبه ، ويترك الشيعي مذهبه ، ولا يعني ان يترك اي واحد منهم معتقداته وتقاليده ، بل يعني ايجاد علاقة الحب ، ورابطة الايثار ، والتوحيد بين الطائفتين ، وهذه الرابطة تمتنها الآيات القرآنية ، وتنميها مفاهيم العقل الذي يجلبه وينميه الوحي . ان الله سبحانه وتعالى يقرر عندما يبين لنا طبيعة المجتمع الإسلامي ، ان الموال هذا المجتمع يجب ان تكون تحت إشراف القيادة الرسالية ، فيقول في هذا المجال : ﴿ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ 11 . وهؤلاء المهاجرون هم فقراء ليسوا من اهل البلد الذي هجروا اليه ؛ اي ان الوحدة بين ابناء الأمة الإسلامية لابد ان تقوم على أساس ان أهل البلد يجب ان يهتموا بمن يفد اليهم قبل ان يهتموا بأنفسهم . وبناء على ذلك فان علينا ان نهتم أولاً بالغريب ثم القريب ، والجار ثم الدار . .
فلننظر الى مدى القيمة التي يضفيها القرآن على هذا الإنسان الذي يترك أرضه ، فهو لا يحدد انتماء هؤلاء المهاجرين ، لان الهجرة هي بحد ذاتها قيمة . فلا بد ان نحقق الوحدة من خلالها ، ولابد ان نربي المجتمع الذي يحب الإنسان المهاجر أكثر مما يحب أرضه ، ويقولان هذا الإنسان غريب ومن بلد بعيد وان فطرتي تدعوني الى ان أحسن اليه . فاذا ما أحسنت الى ذلك الغريب الذي لا يمت اليَّ بصلة القربى ، لا اللغة ولا الجنس ولا اعرفه نهائياً ولا يعرفني فانني أكون بذلك قد أخلصت العمل لله جل جلاله ؛ اي ارتفعت ، وتساميت على الاعتبارات المادية الى مستوى الإيمان الحق .
ثم من بعد ذلك تأتي الفئة الاخرى التي تمثل ( الأنصار ) الذين يقول عنهم عز من قائل : ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ... ﴾ 12 . فما هي طبقة الأنصار يا ترى ؟ ان في كل بلد انصاراً ، ولكل أمة انصاراً ، وهؤلاء الانصار لا يدورون حول محورهم وذواتهم . فمن أهم الصفات التي يبينها القرآن الكريم للأنصار بعد الإيمان انه يقول عنهم : ﴿ ... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... ﴾ 12 .
فالانصار يؤثرون على أنفسهم ، ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا يمدح احداً لانه يأكل كثيراً ، او يبني بيتاً واسعاً ، ويتسنم منصباً مرموقاً ، بل يمدحه لانه يؤثر على نفسه إن كان يعاني من العوز والخصاصة . وهذا هو الفلاح المبين ، كما يؤكد على ذلك تعالى فيقوله : ﴿ ... وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 12 . فإذا أردت الفلاح فلابد ان تخرج من الذات ، ومن هذه النفس الضيقة ، وان تنظر الى الحياة برحابتها ، وسعة افقها .
ثم يضيف عز شأنه قائلاً : ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ 13 .
وعندما نصل الى هذا المستوى ، وعندما نريد ان نمتن اواصر الوحدة في قلوبنا عبر الحب ، وانتزاع الغل من الصدور ، فحينئذ سنكون مؤمنين حقاً ، وسيحبنا الله تبارك وتعالى ، وينعم علينا بنعمة الوحدة التي هي سر الانتصار على الاعداء .
هكذا نحقق الوحدة
الوحدة هي أمل المستضعفين ، وروح العزة والكرامة في الأمة ، وهي هيبة للصديق ، ورعب للعدو . ونحن اليوم في صراعنا مع العدو الداخلي المتمثل في قوة النفاق والضلالة ، والعدو الخارجي المتمثل في الامبريالية المستكبرة في الأرض ، بحاجة الى الوحدة لأمرين أساسيين :
1 ـ لكي نبث الرعب في قلوب الأعداء ، ونهزمهم نفسياً قبل ان نحتاج الى القوة المادية .
2 ـ لكي نمنع العدو من ان يهزمنا من الناحية النفسية .
ان طاقات الأمة عظيمة وهائلة ، وهي لا يفصلها عن التقدم والرقي سوى عقبة نفسية واحدة هي انعـدام الثقة بالذات ، وقلة التوكل على الله تبارك وتعالى ، وعدم ثقة بعضها بالبعض الآخر .
ولذلك فقد تفرقت الأمة واختلفت ، وتركت عمود عزها وهو الوحدة ، بل انها هجرت حبل الله المتين . ونحن اليوم بحاجة الى الوحدة لكي نعطي للامة املاً ، ومن هنا فان أبرز أهدافنا في الوقت الحاضر هو تحقيق الوحدة على مختلف الأصعدة .
1. القران الكريم : سورة الصف ( 61 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 552 .
2. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 92 ، الصفحة : 330 .
3. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 143 ، الصفحة : 22 .
4. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 197 - 199 ، الصفحة : 31 .
5. a. b. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
6. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
7. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 516 .
8. بحار الأنوار / ج 61 / ص 147 / رواية 23 .
2. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 92 ، الصفحة : 330 .
3. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 143 ، الصفحة : 22 .
4. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآيات : 197 - 199 ، الصفحة : 31 .
5. a. b. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 197 ، الصفحة : 31 .
6. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 517 .
7. a. b. القران الكريم : سورة الحجرات ( 49 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 516 .
8. بحار الأنوار / ج 61 / ص 147 / رواية 23 .
9. a. b. c. d. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 103 ، الصفحة : 63 .10. راجع الآيات من 5 ـ 10 من سورة الحشر .
11. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 546 .
12. a. b. c. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
13. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 547 .
11. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 8 ، الصفحة : 546 .
12. a. b. c. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 9 ، الصفحة : 546 .
13. القران الكريم : سورة الحشر ( 59 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 547 .