قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1.
زرع الله داخل كلّ إنسان وغرز فيه حبّه لذاته، فنلاحظه منذ طفولته يندفع نحو الطعام ليأكل، ونحو الشراب ليشرب، لبقاء ذاته ونموّها، وحينما يتعرّض لحادث يهدّد ذاته، فإنّه يندفع بشكل غريزيّ ليدافع عن ذاته، فلو وقع عن السّلّم، فإنّه، وبسرعة فائقة، يحامي عن الأعضاء الأساسيّة فيه لما تمثّل من أركان بقاء ذاته في هذه الحياة.
ومن منطلق حبّه ذاته، يحبّ أبويه وإخوانه لقربهم وعلاقتهم الحميمة بالذات، وهكذا يحبّ أبناءه، لأنّه يرى فيهم امتدادًا لذاته في هذه الحياة، ويحبّ عشيرته لما يرى فيهم من حماية لهذه الذات.
وقد احترم الإسلام هذا الاندفاع العاطفيّ نحو الوالدين والأبناء والأخوان والعشيرة، ودعا إلى تعزيزه من خلال البرّ والإحسان، وهذا ما نلاحظه في النّصوص الآتية:
1- برّ الوالدين
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد في سبيل الله"2.
2- رحمة الأولاد
عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبّوا الصبيان وارحموهم..."3.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان عند صبيّ، فليتصاب له"4.
3- صلة الإخوان
يعتبر الإخوان في النسب من أهمّ الرحم الذين أمر الله تعالى بالإحسان إليهم بقوله تعالى: "... وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى"5. وصلتهم لها درجة رفيعة عبّر عنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله: ما أفضل الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بالله"، فسأله: ثمّ ماذا؟ فأجاب صلى الله عليه وآله وسلم: "صلة الرحم"6.
4- إكرام العشيرة
عن الإمام عليّ عليه السلام: "وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول"7.
لكن لذلك حدود
رغم دعوة الإسلام إلى التفاعل العاطفيّ المسلكيّ، إلاّ أنّه هذّب العاطفة، وصوّب المسلك بما ينسجم مع تكامل الإنسان الذي هو هدف وجوده. فحبّ الإنسان لذاته يعني حبّه لتكامل ذاته، وأراد الله تعالى من حبّه لوالديه وأبنائه وإخوانه وعشيرته أن يكون منسجمًا مع هذا التكامل.
من هنا دعا الإسلام إلى أمرين:
الأمر الأوّل: أن يكون الحبيب الأوّل عنده هو الأكمل الذي يزيده الارتباط به كمالاً، وبما أنّ الله تعالى هو الكمال المطلق أراد تعالى أن يكون الحبّ الأوّل للإنسان هو حبّ الله تعالى.
لذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يمحّض رجل الإيمان في الله حتى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه وأمّه وولده وأهله وماله، ومن النّاس كلّهم"8.
وبما أنّ الأكمل في عالم الإمكان هو رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد دعا الإسلام أن يكون محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هو حبيبه الأوّل بعد الله تعالى، لذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يؤمنّن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والنّاس أجمعين"9.
وبما أنّ الأكمل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل بيته فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّني وأهل بيتي، كنّا نحن وهو كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى10.
الأمر الثاني: أن تكون التقوى هي الحاكمة في سلوك سبيل حبّ الوالدين والأبناء والإخوان والعشيرة، فلا تحرّكه عاطفته ليسلك سلوك الظلم معهم حينما يكونون ظالمين، فهذا السلوك هو سلوك الجاهليّة، قال تعالى معبّرًا عن هذا المعنى: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمً﴾11.
من هنا ذمّ الإسلام العصبيّة، واعتبر أنّها تتنافى مع التقوى والإيمان، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعصّب أو تعصّب له، فقد خلع ربق الإيمان من عنقه"12، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليّة"13.
وقد توضّح ممّا تقدّم أنّه لا يراد من العصبيّة مجرّد الحبّ والعلاقة في ضوئه، إنّما هو الخروج عن التقوى في هذه العلاقة، وهذا ما أوضحه الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله الوارد عنه: "العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرًا من خيار قوم آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم"14.
بناءً على هذه القاعدة قال الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾15.
فالمودّة المنهي عنها، في هذه الآية، هي الحبّ المفعّل بالسلوك، بأن يسلك الإنسان في ضوء عاطفته وحبّه، فهذا السلوك لا يجتمع مع الإيمان حينما يكون سلوكًا مع من حادّ الله ورسوله، ومعنى حادّ أي حارب، وهو لفظ مأخوذ إمّا من الحديد، وهذا ما يتلاءم مع كون الحادّ هو المحارب حربًا مسلّحة، أو من الحدّ الذي هو المانع، فيكون الحادّ هو الممانع الصادّ سبيل الله ورسوله، والمعنيان متقاربان.
وعليه، فإنّ المؤمن الذي ينطلق حبّه ومودّته بمقياس الكمال، فإنّه لا يودّ ولا يسلك في ضوء عاطفته مع الذين يحادّون الله ورسوله، حتى لو كانوا أقرب المقرّبين إليه ﴿وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾16.
وقد ورد أنّ هذه الآية نزلت في "حاطب بن أبي بلتعة"17 الذي ورد في قصّته أنّه أرسل كتابًا مع امرأة إلى أهل مكّة، فاطّلع الله عزّ وجلّ نبيّه على ذلك، فبعث الإمام عليًّا والزبير في أثر الكتاب، فأدركا المرأة، وأخذا الكتاب، وأتيا به إلى رسول الله. وكان في الكتاب إنذار أهل مكّة بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، وحينما سأل النبيّ حاطبًا: ما حملك على ذلك؟ أجاب: كنت غريبًا في أهل مكّة، وكان أهلي بين ظهرانيهم، وخشيت عليهم، فكتبت كتابًا لا يضرّ الله ورسوله شيئًا، وعسى أن يكون منفعة لأهلي18، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾19 لتشير إلى صفةٍ من صفات أهل الإيمان الحقيقيّ الذين يقدِّمون حبّ الله ورسوله على كلّ حبّ، فلا يوادّون من حادّهما، كائنًا من كان، وهذه الصفة هي أنّهم حزب الله ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾"20.
* لا تقربوا، سماحة الشيخ أكرم بركات، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة المجادلة، الآية 22.
2- النراقي، محمّد، جامع السعادات، تحقيق محمد كلانتر، لا،ط-، النجف الأشرف، دار النعمان، لا،ت-، ج2، ص 203.
3- الحرّ العامليّ، محمد حسن، وسائل الشيعة، ج15، ص 201.
4- المصدر السابق، ص 203.
5- سورة النساء، الآية 36.
6- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج5، ص58.
7- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج71، ص104.
8- الشيرازيّ، ناصر، الأمثل، ج18، ص 156.
9- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج22، ص 87-88.
10- النوريّ، حسين، خاتمة المستدرك، تحقيق ونشر آل البيت عليه السلام، ط1، قم، 1416هـ، ج3، ص 165.
11- سورة الفتح، الآية 26.
12- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 307.
13- المصدر السابق، ص 308.
14- الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج2، ص 308.
15- سورة المجادلة، الآية 22.
16- سورة المجادلة، الآية 22.
17- الشيرازي، ناصر، الأمثل، ج14، ص 47.
18- أنظر: الهيثميّ، عليّ، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لا،ط-، بيروت، دار الكتب العلمية، 1408هـ، ج9، ص 303، 304.
19- سورة المجادلة، الآية 22.
20- سورة المجادلة، الآية 22.