ما ينبغي للصائم
ينبغي للصائم أن يغض بصره عن كل ما يحرم النظر إليه، أو يكرهه، أو يشغل القلب ويلهيه عن ذكر الله تعالى، ويحفظ اللسان عن جميع آفاته المتقدمة، ويكف السمع عن كل ما يحرم أو يكره استماعه، ويكف بطنه عن الحرام والشبهات، ويكف سائر جوارحه عن المكاره. وقد ورد في اشتراط جميع ذلك في الصوم في ترتّب كمال الثواب عليه أخبارٌ كثيرةٌ. وينبغي أيضاً ألا يستكثر من الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ، إذ ما من وعاءٍ أبغض إلى الله عز وجل من بطنٍ ملئ من حلال، كيف والسر في شرع الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة والهوى؛ لتتقوّى النفس على التقوى، وترتقي من حضيض وحظوظ النفس البهيميّة إلى ذروة التشبيه بالملائكة الروحانيّة، وكيف يحصل ذلك إذا تدارك الصائم عند الإفطار ما فاته ضحوة نهاره، لا سيّما إذا زيد عليه في ألوان الطعام، كما استمرّت العادات في هذه الأعصار، وربّما يُؤكل من الأطعمة في شهر رمضان ما لا يؤكل في عدة شهورٍ. ولا ريب في أن المعدة إذا خليت من ضحوة النهار إلى العشاء، حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم أطعمت من اللذات، وأشبعت من ألوان المطاعم، وجمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما يأكل ليلاً، وأكل جميع في الليل مرةً أو مرتين أو أكثر زادت لذتها، وتضاعفت قوّتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدةً لو تُركت على عادتها، فلا يحصل ما هو المقصود من الصوم، أعني تضعيف القوى الشهويّة التي هي وسائل الشيطان، فلا بدَّ من التقليل، وهو أن يأكل في مجموع الليلة أكلته التي كان يأكلها كل ليلةٍ لو لم يصم، من دون ضم ممّا يأكل في النهار إليه، حتى ينتفع بصومه.
والحاصل: أن روح الصوم وسرّه والغرض الأصلي منه: التخلّق بخلقٍ من أخلاق الله تعالى، أعني الصمديّة والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بقدر الإمكان، وهذا إنّما يحصل بتقليل الأكل عمّا يأكله في غير وقت الصوم، فلا جدوى لمجرّد تأخير أكله وجمع أكلتين عند العشاء، ثم لو جُعل سرّ الصوم ما يظهر من بعض الظواهر من إدراك الأغنياء ألم الجوع والانتقال منه إلى شدّة حال الفقراء، فيبعثهم ذلك على مواساتهم بالأموال والأقوات، فهو أيضاً لا يتم بدون التقليل في الأكل.
ما ينبغي للصائم عند الإفطار
ينبغي لكل صائمٍ أن يكون قلبه بعد الإفطار مضطرباً، معلّقاً بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيُقبل صومه فهو من المقرّبين أو يرد عليه فهو من الممقوتين، وليكن الحال كذلك في آخر كل عبادةٍ يفرغ منها. روي: "أن الإمام أبا محمد الحسن المجتبى (عليه السلام) مرَّ بقومٍ يوم العيد، وهم يضحكون، فقال (عليه السلام): إن الله تعالى جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق أقوامٌ ففازوا، وتخلّف أقوامٌ فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كُشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء عن إساءته!)، أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدُّ عليه باب الضحك.
درجات الصوم
للصوم ثلاث درجاتٍ:
الأولى: صوم العموم: وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وهذا لا يفيد أزيد من سقوط القضاء والاستخلاص من العذاب.
الثانية: صوم الخصوص: وهو الكف المذكور، مع كف البصر، والسمع، واللسان، واليد، والرجل، وسائر الجوارح عن المعاصي، وعلى هذا الصوم تترتّب المثوبات الموعودة من صاحب الشرع.
الثالثة: صوم خصوص الخصوص: وهو الكفان المذكوران، مع صوم القلب عن الهمم الدنيّة، والأخلاق الرديّة، والأفكار الدنيويّة، وكفّه عما سواه بالكليّة، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر في ما سوى الله واليوم الآخر، وحاصل هذا الصوم إقبال بكنه الهمة على الله، وانصراف عن غير الله، وتلبّس بمعنى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ}، وهذا درجة الأنبياء والصديقين والمقربين، ويترتّب عليه الوصول إلى المشاهدة واللقاء، والفوز بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب أحدٍ. وإلى هذا الصوم أشار مولانا الصادق (عليه السلام) حيث قال: "قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الصوم جُنّةٌ. أي سترٌ من آفات الدنيا وحجابٌ من عذاب الآخرة، فإذا صمت فانو بصومك كفّ النفس عن الشهوات، وقطع الهمّة عن خطرات الشياطين، وأنزل نفسك منزلة المرضى، ولا تشتهي طعاماً ولا شراباً، وتوقّع في كل لحظةٍ شفاءك من مرض الذنوب، وطهّر باطنك من كل كدرٍ وغفلةٍ وظلمةٍ يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به. والصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب، وطهارة الجوارح، وعمارة الظاهر والباطن، والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء، وزيادة التضرّع والخشوع والبكاء، وحبل الالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمّة، وتخفيف الحساب، وتضعيف الحسنات، وفيه من الفوائد ما لا يحصى ولا يعد، وكفى بما ذكرناه لمن عقله ووفق لاستعماله".
من صام شهر رمضان إخلاصاً لله وتقرّباً إليه، وطهّر باطنه من ذمائم الأخلاق، وكفّ ظاهره عن المعاصي والآثام، واجتنب عن الحرام، ولم يأكل إلا الحلال، ولم يفرط في الأكل، وواظب على جملةٍ من النوافل والأدعية وسائر الآداب المسنونة فيه، استحق المغفرة والخلاص عن عذاب الآخرة؛ بمقتضى الأخبار المتواترة. ثم إن كل من العوام، حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة دعوته، وإن كان من أهل المعرفة، فعسى الشيطان لا يحوم على قلبه، فينكشف له شيءٌ من الملكوت، وسيّما في ليلة القدر، إذ هي الليلة التي تنكشف فيها الأسرار، وتفيض القلوب الطاهرة الأنوار، والمناط والعمدة في نيل ذلك تقليل الأكل بحيث يحسن ألم الجوع، إذ من جعل بين قلبه وبين صدره مخلاةً من الطعام، فهو محجوبٌ عن عوالم الأنوار، ويستحيل أن ينكشف له شيءٌ من الأسرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: ملا محمد هادي النراقي: جامع السعادات، ج3، ص 303 - 306.