قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1.
في العداوة سرور الشيطان
لقد حذّرنا الله تعالى في كتابه الكريم من الشيطان وعداوته، وأمرنا أن نتّخذه عدوّاً فقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّ﴾2.
وقد بيّن تعالى بعض أهداف الشيطان حيث قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾3 فمن كان ينتمي إلى الله ويتّبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويصدّق بكتاب الله فعليه أن يضادّ إرادة الشيطان فلا يسمح للخصومة والعداوة والتشاحن والتباغض أن تحلّ محلّ الأخوة والمحبّة والصداقة والوئام، فالمجتمع ونفوس النّاس ساحات مواجهة هذا العدوّ الخبيث وفيها القتال والحرب معه على إزالة البغضاء، والعداوة والتقاتل والتناحر، لأنّها أسلحته التي يفتك بها في النّفوس والمجتمعات، فإذا ما آلت الأمور إلى التهاجر بين المسلمين والمؤمنين وصل اللعين إلى غرضه ومبتغاه، وحينها لا شكّ أنّه سيكون فرحاً مسرور، وهذا ما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان، فإذا التقيا اصطكّت ركبتاه وتخلّعت أوصاله ونادى يا ويله ما لقي من الثبور"4.
فمن كان قد اتّخذ الشيطان عدوّ، مطيعاً لأمر الله عليه أن لا يقاطع مسلماً ولا يهجر مؤمناً، وعليه الصلح بين المتهاجرين والمتباعدين والمتباغضين ولا يترك الأمر يطول فإنّه كلّما طالت العداوة والهجران طال سرور وفرح الشيطان.
رسالة تحذير إلى المتعاديَيْن المتهاجرَيْن
إنّ الله حرص على وسم علاقة المؤمنين بالأخوّة بل في الآية حصرها بالأخوّة حيث قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. فعلى المؤمنين أن يرى كلّ منهما الآخر آخاً له، فلا يفعل ما ينافي هذه الأخوة ولا يقيم على ما يفتّ ويزلزل هذه الإخوّة، ولأهمّيّة هذا الأمر فإنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أكّد عمليّاً على الأخوّة الإيمانيّة، بل الإسلاميّة من خلال المؤاخاة التي قام بها مرّة في مكّة وأخرى في المدينة المنوّرة.
فوجود العلاقة الحميمة والطيّبة بين المؤمنين، وبين المسلمين أمر حيويّ جدّاً بنظر الإسلام إلى درجة أن من يخالفه يكون بحكم الخارج عن الإسلام، وفي ذلك رُوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلّا ماتا خارجين عن الإسلام"5.
ولحثّ كلّ منها على المسارعة والمبادرة إلى المصالحة جاء في رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلّا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية، فأيّهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنّة يوم الحساب"6.
إصلاح ذات البين أمر يحبّه الله
عندما لا يبادر المتخاصمان من المؤمنين إلى التصالح من تلقاء أنفسهما فإنّه لأهمّيّة سلامة الأجواء والعلاقات بين أبناء الأمّة الإسلاميّة فقد أمر الله بقيام أبناء المجتمع المؤمن بالإصلاح بينهما فقال: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾.
فإصلاح ذات البين معناه إصلاح العلاقات البينيّة أي بين الأفراد والجماعات داخل المجتمعات الإسلاميّة والمؤمنة، وقد جاء في فضل الإصلاح بين النّاس عن الإمام الصادق عليه السلام: "صدقة يحبّها الله إصلاحٌ بين النّاس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"7.
بل إنّ إصلاح ذات البين من أفضل العبادات في ما روي عن الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه الحسن والحسين عليهما السلام إذ يقول: "... فإنّي سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"8.
ولو لم يكن في فضل هذا الأمر إلّا كونه أفضل من عمود الدّين الذي هو الصلاة لكفى.
فكيف إذا كان الإصلاح بين المتخاصمين أفضل حتّى من الصدقة بالمال ذي القيمة، فعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "لأن أصلح بين اثنين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بدينارين"9.
الإصلاح في سيرة الأئمّة عليهم السلام
يروي أحد الرواة قائلاً: مرّ بنا المفضّل وأنا وختني (صهري) نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثمّ قال لنا: تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتّى إذا استوثق كلّ واحد منّا من صاحبه قال: أما إنّها ليست من مالي ولكن (أبو عبد الله عليه السلام) أمرني: إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وافتديهما من ماله، فهذا من مال أبي عبد الله الصادق عليه السلام10.
تنبيه إلى المصلحين
إنّ على من يريد إصلاح ذات البين أن يلتفت إلى أنّ بعض المصلحين من حيث لا يشعرون يرتكبون حراماً وهم يظنّون أنّهم في وارد الإصلاح، فمن هذه الموارد:
1- إنهاء النزاع على حساب المظلوم:
المطلوب أوّلاً ما أمكن نصرة المظلوم بإحقاق حقّه وإقامة العدل، وليس المطلوب فضّ النّزاع وإنهاؤه وفصل الخصومة على حساب المظلوم ولصالح الظالم، حيث يقول تعالى في بعض موارد كلامه خصوصاً في حالات البغي والتعدّي: ﴿فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾11 أي الذين يجرون العدل في الصلح، خصوصاً في حالات خلافات الجماعات مع بعضها، لأنّ الصلح دون العدل، يعني أنّنا تركنا مادّة الخلاف والتنازع في النّفوس، وثانياً نكون قد أقَرَرْنا للباغي بغيه، وأعطينا صورة عن الإسلام تنافي العدل والقسط.
2- توهّم حرمة الكذب:
صحيح أنّ الكذب محرّم، وقد ورد ذمّ الكذب والكاذبين في القرآن وكذلك في أحاديث العترة الطاهرة، إلّا أنّ الصدق أحياناً في إصلاح ذات البين قد ينطبق عليه عنوان محرّم كالنميمة، فإن قال المصلح ما سمع من كلّ من المتخاصمين للآخر يكون من حيث لا يدري سعى بينهما بما يترتّب عليه زيادة الخلاف وتعميق الشقاق وزيادة بُعد المسافات فيكون مشّاءً بالنميمة بين المؤمنين، هذا من جهة فإنّ الصدق هنا حيث يكون مصداقاً للنميمة لا شكّ أنّه حرام.
وثمّة أمر آخر لو اضطرّ المصلح للكذب حتّى يقرّب بين القلوب ويجمع بين النّفوس أن ينسب كلاماً لأيٍّ من المتخاصمين بما يؤدّي إلى ردم الهوّة وسدّ الفجوة فقد يجب أحياناً ولا يكون هذا من الكذب الحرام وهذا ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يصلح الكذب إلّا في ثلاثة مواطن... كذب الرجل يمشي بين الرجلين ليصلح بينهما"12.
بل إنّ حفيده الصادق عليه السلام أخرجه أصلاً من صدق عنوان الكذب، مبالغة في الإشارة إلى حلّيّته وعدم حرمته حيث قال عليه السلام: "إنّ المصلح ليس بكذّاب، إنّما هو الصلح ليس بكذب"13.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الحجرات، الآية 10.
2- سورة فاطر، الآية 6.
3- سورة المائدة، الآية 91.
4- الكافي، ج2، ص7.
5- سفينة البحار، ج2، ص698.
6- الكافي، ج2، ص345.
7- الكافي، ج2، ص209.
8- نهج البلاغة، شرح صبحي الصالح، ص421.
9- الكافي، ج2، ص209.
10- الكافي، ج2، ص209، ح2.
11- سورة الحجرات، الآية 9.
12- الذريعة، ص98.
13- الكافي، ج2، ص21، ح7.