نصّ الوصية:
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقرعليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَسُدَّ سَبِيلَ العُجْبِ بِمَعرِفَةِ النَّفس"1.
المنهج التربوي الربّاني
ربّانيّة المنهج التربوي عند النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الهداة المهديّين من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام عنوانٌ مضيءٌ وشامخٌ في حياة الإنسانية وحركة التاريخ والمسيرة الإنسانية، فهم أعلام الهدى وقدوة المتّقين، عُرفوا بالعلم والحكمة والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية، فما يصدر منهم في الحقيقة صادرٌ عن ربّهم, ولهذا صحّ القول بأنّ منهجهم ربّانيّ، كما تدلّ على ذلك أيضاً أحاديثهم وأفعالهم وأحوالهم الشريفة.
فهذا مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يقول فِي وصيّته لكُمَيل بن زياد النخعي: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدّبه الله عزّ وجلّ، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورث الأدب المكرمين"2. وقال الإمام أبو عبد الله جعفر بن الصادق عليه السلام: "إنّا والله ما نقول بأهوائنا، ولا نقول برأينا، ولا نقول إلاَّ ما قال ربّنا، أصول عندنا، نكنزها، كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم"3.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام يتّخذون من العبرة والموعظة وسيلة تربوية لتنوير العقل والقلب, إذ بهما يعي الإنسان حركة الحياة من حيث الشدّة والرخاء وأسباب التقدّم والتأخّر، ويُقلع عن الممارسات المنحرفة، ويتوجّه لإصلاح نفسه لتسمو وتتكامل، وقد أثبت هذا المنهج التربوي قدرته على بناء الإنسان بناءً متكاملاً، فقد تخرّج على هذا المنهج آلاف الشخصيات التي كانت قمةً في السُّمو الروحي والتكامل النفسي والسلوكي، وقدوة لبني الإنسان, لعمل هذه الشخصيات بعد معرفتها بأنّ المنهج ربّانيّ النشأة والمصدر، وعلى الرغم من ابتعاد أكثر المسلمين عن هذا المنهج التربوي إلا أنّ آثاره بقيت حاكمة على كثيرٍ من المواقف والممارسات والصفحات المضيئة للتاريخ الإنساني.
الداء الدفين
قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾4.
قال مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "العجب درجات منها أن يُزيّن للعبد سوءُ عمله، فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنّه يُحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربّه، فيمنّ على الله عزّ وجلّ ولله عليه فيه المنّ"5.
العجب هو ابتهاج الإنسان وسروره بتصوّر الكمال في نفسه وإعجابه بأعماله، والإدلال بها بظنّ تماميّتها وخلوصها، وحسبان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير، لا السرور بصدور العمل مع التواضع لله والشكر له على التوفيق، والخوف من عدم تمامه وعدم قبوله، فإنّه لا بأس به، بل هو حسن.
والعجب من أخبث الأفكار السلبية السيّئة سواء أكان حالة غير راسخة في النفس، أو إذا تغلغلت في النفس وترسّخت فيها وأضحت بالمداومة من ملكاتها، وبذلك يكون العُجب من أعظم المهلكات ومن أشدّ الحجب بين القلب والربّ تبارك وتعالى، ولذلك إنّ المعجب بنفسه مبغوض عند الله، مسلوب التوفيق من ناحية الله لحسبان نفسه غنيّاً عن إنعامه وإفضاله. قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام: "ولا وَحْدَةَ أَوْحَشَ من العُجْبِ"6.
وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "العجب داء دفين"7. وقال الإمام الصادق عليهم السلام : "لا جهل أضرّ من العُجب"8. وقال عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب، لولا ذلك ما ابتلى الله مؤمناً بذنب أبداً"9. وفي شرح هذا الحديث قال الإمام الخميني قدس سره: إنّ العجب أشدّ من الذنب في حضرة الله تعالى، ولهذا قد يبتلي الله سبحانه المؤمن بالمعصية لكي يُصبح آمنا من العجب، وكذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر العجب من المهلكات"10.
معنى العُجْب لغةً واصطلاحًا
1- لغة
العُجْب بالضم: الزَّهْوُ والكِبْـرُ، ورجلٌ مُعْجَبٌ: مَزْهُوٌّ بِمَا يكون منه حسنًا أَو قبيحًا. وقيل: المعْجَبُ، الإِنسانُ المعْجَب بنفسه أَو بِالشَّيْءِ، وقد أُعْجِبَ فلان بنفسه إذا ترفّع وتكبّر، فهو مُعْجَب برأْيه وبنفسه.
وِقِيلَ: العُجْبُ: فَضْلَةٌ من الحُمْقِ صَرَفْتَهَا إِلَى العُجْب، ونَقَل عن "الرَّاغِبِ" في الفَرْقِ بَيْن المُعْجَبِ والتَّائِهِ فَقَالَ: المُعْجَبُ يُصَدِّقُ نَفْسَه فِيمَا يَظُنُّ بِهَا وَهْماً - والتَّائِهُ يُصَدِّقُها قَطْعاً11.
2- اصطلاحًا
يقول الشيخ بهاء الدين العاملي رحمه الله: "لا ريب في أن من عمل أعمالاً صالحة من صيام الأيام وقيام الليالي، وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج، فإن كان من حيث كونها عطية من الله له، ونعمة منه تعالى عليه، وكان مع ذلك خائفاً من نقصها، شفيقاً من زوالها، طالباً من الله الازدياد منها، لم يكن ذلك الابتهاج عجباً. وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه، فاستعظمها وركن إليها، ورأى نفسه خارجاً عن حدّ التقصير، وصار كأنّه يمنّ على الله سبحانه بسببها فذلك هو العجب"12.
العُجْب من أشراك الشيطان الخطيرة
"تمتدّ جذور هذه المسألة إلى حبّ الذّات. وحبّ الذّات هو من لوازم وجود الإنسان ومن المستحيل أن يوجَد موجود ذو شعور لا يُحبّ ذاته. لكنّه عندما يوفّق اللهُ الإنسانَ للقيام بأمر على أحسن وجه وبنيّة صالحة ويبلغ به النتيجة المرجوّة يأتي الشيطان ليوسوس له بأنّك - حقيقةً - شخص مميَّز جدّاً. فإذا أتى المرء بعبادة مثلاً أوحى الشيطان له بقياس نفسه بأهل المعاصي قائلاً له: انظر كيف أنّ الآخرين مبتلون بالمعاصي والشهوات وغلبة الهوى في حين أنّك - والحمد لله - من أهل العبادة ومصون من الذنوب. فإنّك مفضَّل كلّ التفضيل على الآخرين! ثمّ يُحاول شيئاً فشيئاً استدراجه إلى مقارنة نفسه بأهل العبادة ويكشف له عن أولئك العُبّاد المتورّطين ببعض الزلاّت والسيّئات، وفيما يتعلّق بسائر أمور الخير والصلاح كطلب العلم، والتدريس، والخطابة، والإنفاق، ومثيلاتها فهو يبذل غاية وسعه ويوسوس له بأنّك تفوق الكثير من أقرانك ومن يُماثلونك في أعمال الصلاح بالفضل والامتياز"13.
مفاسد العُجب
يقول الإمام الخميني قدس سره في مفاسد العجب: "سأل موسى ين عمران على نبيّنا وآله الشيطان: "أَخْبَرْنِي بِالْذَّنْبِ الَّذي إِذَا ارتَكَبَهُ ابنُ آدَمِ إاسْتَحْوَذتَ عَلَيه، قال: إِذا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُه، واسْتكْثَر عَمَلَهُ، وَصَغُر فِي عَيْنِه ذَنْبُه"14.
وقال: قال الله تعالى لداود عليه السلام: "يا داودَ بَشِّرِ المُذْنِبينَ وأنْذِرِ الصِّدّيقِينَ، قال: يا ربّ كَيْفَ أُبَشِّر المُذْنِبينَ وأُنْذِر الصِّدِّيقين؟ قال: يا داود بَشِّر المُذْنبينَ أَنِي أَقْبَلُ التّوْبَةَ وأَعْفُو عَنِ الذَّنب. وأنْذِرِ الصِّدِّيقينَ أَلاّ يُعْجِبُوا بِأَعْمالِهِمْ، فَإِنهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهِ لِلْحِسابِ إِلاّ هَلَكَ"15. نعوذ بالله تعالى من المناقشة في الحساب التي تُهلك الصديقين ومن هو أعظم منهم.
ينقل الشيخ الصدوق في الخصال مسنداً إلى الإمام الصادق أنّ الشيطان يقول: "إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أُبال ما عمل، فإنّه غير مقبول منه: إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العُجْبُ"16. يضاف على ما سمعت من مفاسد العجب، أنّه شجرة خبيثة، نتاجها الكثير من الكبائر والموبقات.
فعندما يتأصّل العجب في القلب، يجرّ عمل الإنسان إلى الكفر والشرك وإلى ما هو أعظم من ذلك، ومن مفاسده استصغار المعاصي. بل إنّ ذا العجب لا ينهض لإصلاح نفسه ويظنّ أنّ نفسه زكيّة طاهرة، فلا يخطر على باله أبداً أن يُطهّرها من المعاصي، لأنّ ستار الإعجاب بالنفس وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى معايب نفسه، وهذه مصيبة، إذ إنّها تحجز الإنسان عن جميع الكمالات، وتبتليه بأنواع النواقص، وتؤدّي بعمل الإنسان إلى الهلاك الأبدي، ويعجز أطباء النفوس عن علاجه...
ومن مفاسده الأخرى أنها تجعل الإنسان يعتمد على نفسه في أعماله، وهذا ما يُصبح سبباً في أن يحسب الإنسان الجاهل المسكين نفسه في غنى عن الحق تعالى، ولا يرى عليه فضل الحقّ تعالى، ويرى بحسب عقله الصغير أنّ الحقّ تعالى ملزم بأن يُعطيه الأجر والثواب، ويتوهّم أنه حتى لو عومل بالعدل أيضاً لاستحقّ الثواب، وسيأتي فيما بعد ذكر هذا الأمر إن شاء الله، ومن مفاسد العجب الأخرى، أن ينظر الإنسان باحتقار إلى عباد الله، ويحسب أعمال الناس لا شيء وإن كانت أفضل من أعماله، فتكون هذه النظرة وسيلة لهلاك الإنسان أيضاً، وشوكة في طريق خلاصه ونجاته.
العُجب بذرة الرذائل
ومن مفاسده الأخرى، أنّه يدفع الإنسان إلى الرياء، لأنّ الإنسان بصورة عامّة إذا استصغر أعماله وجدها لا شيء، ووجد أخلاقه فاسدة، وإيمانه لا يستحقّ الذكر، وعندما لا يكون معجباً بنفسه ولا بصفاته ولا بأعماله، بل وجد نفسه وجميع ما يصدر عنها سيّئاً وقبيحاً، لا يطرحها ولا يتظاهر بها، فإنّ البضاعة الفاسدة تكون سيّئة وغير صالحة للعرض، ولكنّه إذا رأى نفسه كاملاً وأعماله جيّدة، فإنّه يندفع إلى التظاهر والرياء، ويعرض نفسه على الناس.
وهناك مفسدة أخرى هي أنّ هذه الرذيلة تؤدّي إلى رذيلة الكِبر المهلكة، وتبعث على ابتلاء الإنسان بمعصية التكبّر، .. وتنشأ من هذه الرذيلة مفاسد أخرى أيضاً بصورة مباشرة وغير مباشرة، وشرح ذلك يوجب التفصيل. فليعلم المعجب أنّ هذه الرذيلة هي بذرة رذائل أخرى، ومنشأ لأمور يُشكّل كلّ واحد منها سبباً للهلاك الأبديّ والخلود في العذاب، فإذا عرف هذه المفاسد بصورة صحيحة ولاحظها بدقّة، ورجع إلى الأخبار والآثار الواردة بشأنها عن الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ذلك القائد عليه السلام أجمعين، "فمن المحتّم أن يعتبر الإنسان نفسه ملزماً بالنهوض لإصلاح النفس، وتطهيرها من هذه الرذيلة واستئصال جذورها من باطن النفس"17.
العجب مقرون بالغرور
"أمّا القسم الآخر - الذي يُشكّل القسم الأعظم من البشر - فإنّهم عندما يرون في أنفسهم امتيازاً عن الآخرين فإنّهم يتفاخرون ويختالون قائلين: نعم، نحن هكذا! وهذه هي حالة العُجْب. فالشيطان يتسلّل إلى نفس الانسان من هذه الثغرة ويصرعه أرضاً بقوّة شديدة حتّى أنّه يبقى مترنّحاً لمدّة من الزمن.
فالعُجب هو آفة ذميمة للغاية، وهو يقترن غالباً بالغرور، فالإنسان الـمُعجَب بنفسه لا يُقيم وزناً للآخرين ويعتقد أنّ كلّ ما يفهمه ويُدركه هو غاية ما توصّل إليه العقل البشريّ من العلم الصحيح وما من أحد غيره يفهم ما يفهمه هو، وهو ينكر على الآخرين كلّ ما يطرحونه خلافاً لرأيه بل ولا يرى فيه ما يستحقّ الإصغاء إليه أساساً، وهكذا يُبتلى بالغرور. وإنّ من أهمّ العوامل التي تسوق المرء إلى جهنّم هو الغرور الذي يكون منشؤه العُجب.
لكن ما هو السبيل إلى معالجة هذه الآفّة الخطيرة؟ بالطبع إنّ كلّ شخص يدّعي بعض الامتيازات لنفسه. فالإنسان الذي لا يدّعي أيّ امتياز لنفسه فهو متورّط بشكل من أشكال الكفران وعدم إدراك آلاء الله عزّ وجلّ، فلقد خصّ الله تعالى كلّ شخص بامتياز خاصّ. لكنّ الانسان إذا لم يعمد إلى ترويض صفة حبّ الذّات في نفسه فسوف تقوده إلى ما ذكرنا من الآثار"18.
علاج العُجْب بمعرفة النفس
"إنّ أنجع طريقة لعلاج العُجب هي أن يلتفت الانسان أكثر إلى نقائصه. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: "ما لابن آدم والعُجب! وأوّله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو بين ذلك يحمل العذَرة"19, فإنّ بدايته ماء فاسد، ونهايته جيفة متعفّنة قذرة وهو بينهما يحمل القاذورات والفضلات. فما الذي يُمكن أن يتفاخر به موجود كهذا؟
إذن فهي أفضل طريقة يتخلّص بها المرء من العُجب وحبّ النفس والغرور والكبر. وقد أشار القرآن الكريم في بضعة مواطن إشارة لطيفة إلى هذا الموضوع, فقال عزّ من قائل: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾20, أي فإذا هو يُخاصمنا ويتفوّه بالكلام علينا (ينكر المعتقدات الصحيحة ويُجادل في أحكامنا).
يقول الإمام محمّد الباقر عليه السلام في هذا الحديث: "سُدّ سبيل العُجب بمعرفة النفس". فإذا أردت إغلاق باب العُجب بوجهك فما عليك إلاّ أن تعرف نفسك، ولقد طُرحت قضيّة "معرفة النفس" في أدبنا الدينيّ بصور مختلفة، وقد أورد المرحوم العلاّمة الطباطبائيّ (رضوان الله تعالى عليه) في الجزء السادس من تفسيره "الميزان" في ذيل تفسير الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾21 مباحث عميقة وقيّمة للغاية تحت عنوان معرفة النفس . لكنّه يظهر أنّ المراد من معرفة النفس في هذا الحديث الشريف هو معنىً أكثر بساطة، فمن شأن هذا التأمّل أن يُعينك على عدم الابتلاء بالعُجب والغرور. بالطبع قد يكون لهذا الكلام زوايا وأبعاد مختلفة، وإنّ معرفة كلّ زاوية، وبُعد من معرفة النفس تكون ذات أثر في نفي العُجْب بمعنى من المعاني"22.
معرفة النفس مقدّمة لمعرفة الله
إنّ الدين الفطري يعتبر أمر عرفان النفس أمراً ضرورياً يتوصّل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها، وهي معرفة الإلَه التي هي المطلوب الأخير عنده . وبعبارة أخرى: الدين الإسلامي إنّما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية، ومعرفة النفس لها العلاقة المباشرة بالتوحيد الذي هو أصل الأصول، فكلّما غاص الإنسان وتعمّق في معرفة نفسه ونقصها، فإنّه سيترقّى في سلّم معرفة ربّه وكماله المطلق، وسيكون حينها قابلاً لأن يعرف الله أكثر فأكثر. "وما ترونه ونراه من كثرة غرور الإنسان يرجع إلى كونه لم يعرف نفسه، فإنّ "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"23.
إنّ هذه الكلمة "من عرف نفسه، فقد عرف ربّه"24، وقوله عليه السلام: "من عجز عن معرفة نفسه، فهو عن معرفة خالقه أعجز"25، كلمات قد خرجت من الإمام علي عليه السلام مخرج التأديب والحث على جماع مكارم - الأخلاق واقتناء الفضائل، وذلك أنّ الإنسان إذا عرف نفسه بكثرة عيوبها ونقصانها وحاجتها إلى التكميل كان ذلك داعياً له على إصلاح قوّتيه العملية والنظرية ثم إنّه نبّه على وجوب معرفة النفس بعد ذكرها بأنّها أقرب قريب إلى الإنسان بحيث يحتاج في معرفتها إلى طلب زائد هي وسيلة إلى الغاية المطلوبة للكلّ الواجبة على الإطلاق وهي معرفة - الصانع. وهذا شأن المؤدِّب الحاذق أنْ يُعين مطلوبه أولاً لمن يؤدّبه عليه ثم يُنبّهه على حسنه ووجه وجوبه عليه، وليس مقصوده الأول ههنا هو التنبيه على وجوب معرفة الله، ولو أنّه قدّم معرفة الله تعالى لفات الغرض المذكور من الكلمة، ولما بقى ذلك الذوق لها، ولما كان ذلك حثّاً للإنسان على الاطلاع على عيب نفسه، وأنت بعد مخض هذه الكلمة في سقاء ذهنك وإرسال الرائد الفكري في جميع مفهوماتها ستجمع لك زبدتها، والله ولي هدايتنا26.
معرفة النفس مقدّمة لمحاسبتها
روى مولانا الإمام المجتبى الحسن بن علي عليهما السلام عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يُحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه، والسيد عبده"27.
هناك سؤال قد يخطر على بال أي متتبّع لهذا الموضوع، وهو: كيف نقوم بمحاسبة من لا نعرفه؟ ولا نعرف إمكاناته وتجهيزاته وخططه! ولكي أُحاسب النفس يجب أن تكون معلومة لي.
والحقيقة أنّ هذا الحديث الشريف وكلّ منظومة أحاديث النبي الأكرم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام التي تحضّ على محاسبة النفس، ومجاهدتها، وتُبيّن المعايير التي يتوجّب استخدامها لإجراء هذه المحاسبة، والآليات التي وضعها المعصومون عليهم السلام لذلك، تؤكّد أنّ معرفة النفس أمر ممكن ومتيسّر، بدليل أمر المعصوم بمحاسبة النفس ومجاهدتها، فإنّ المعصومين عليهم السلام وعلى سنّة من الله تعالى لا يُكلّفون إلا بالمقدور عليه: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ﴾28. والدليل الآخر هو: التحليل الذي استخدمناه الآن، ولكن يبقى السؤال الأساس: كيف أستطيع أن أتعرّف على نفسي؟ كي أُحاسبها وأُجاهدها، وأيّ شيء فيها أستطيع أنْ أُحاسبه وأُجاهده، وأُغيّره؟
كلٌّ منّا لديه تصوّر معيّن عن أهمّية هذا الموضوع والطرق المؤدّية إليه، ولكن المعلومات العامّة المنتشرة بهذا الصدد، لا تخضع عادة لقواعد منهجية محدّدة، ممّا أدى إلى دخول اجتهادات شخصية كثيرة دون أن تستند إلى ركائز علمية موضوعية، أو بدون الاستناد إلى نظرية علمية معيّنة، ممّا أدّى إلى ضياع حقيقي وفي اتجاهات شتّى لدى الأفراد الذين تأثّروا بتلك الاجتهادات التي لا ركائز لها.
الفكر ينير اللب29
إنّ من عناوين معرفة النفس الشائعة التي لا خلاف عليها هي معرفة مواطن قواها وكيفية الوصول إلى هذه القوى، وهذه المعرفة ليست للاطلاع النظري أو للترف الفكري، بل هي علم يجب أن يقترن بالعمل الواعي، والهادف لسبر أغوار النفس، ومن ثم معرفة نقاط الضعف، وتحديد أسبابها، واكتساب الخبرات اللازمة للتخلّص منها.
قال مولانا الإمام المجتبى عليه السلام: "عجب لمن يتفكّر في مأكوله . كيف لا يتفكّر في معقوله، فيُجنّب بطنه ما يؤذيه، ويودع صدره ما يُرديه"30. هذا كلامه عليه السلام بعين لفظه، فأمعِن النظر فيه تجده كنزاً لا يُقدّر بثمن، ودعوة لا نظير لها على طول الزمن وجّهها سبط المصطفى إمامنا الحسن.
وقال أبو الحسن أمير المؤمنين عليه السلام: "أصل العقل الفكر، وثمرته السلامة"31.
للعلم والبيان إنّ أحد أهمّ الأصول العظيمة التي يتوصّل بها إلى معرفة النفس لم يُعطَ الأهمّية الكافية في التأمّل والبحث، ولم يُستفاد منه تمام الفائدة مع أنّه يُقدّم كلّ الحلول، ويوضح كلّ ما أبهم في هذا الشأن، وهذا الأصل هو قول سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء"32.
الأفكار أئمّة القلوب
نعم إنّ الأفكار هي ما تحتويه العقول، وهي أئمّة القلوب المؤثّرة فيها، فينتج عنها السلوك بكلّ أنواعه وأشكاله، وما أظنّ في لغات البشر كلّها أدلّ من حديث أمير المؤمنين عليه السلام على ذلك، فتأمّل كلّ الخلال الرديئة التي تتحوّل إلى رذائل عندما يتبنّاها الإنسان، كالعُجب، والكِبر، والكذب، والغشّ، والغدر، والخيانة، والغضب،...، فستجد أصلها ومنشأها كلّها هي الأفكار السلبية السيّئة التي تغلغلت في النفس وترسّخت فيها، فأصبحت بالمداومة من ملكاتها.
أيّها الأحبّة: إنّ أيّ سلوك مهما كان نوعه، يسبقه فكرة !! وعادة ما نُطلق على ما يسبق السلوك، أسماء كثيرة نُصنّفها ونُعطيها حدوداً وأبعاداً وكأنّها أشياء لا يُمكن معرفة أسبابها "دافع، رغبة، أماني، شعور،إرادة، إحساس، آداب، مخاوف وضعف .. الخ".
إنّ الأفكار تتواجد بنوعيها الإيجابي والسلبي خلف كلّ السلوكيات الإيجابية والسلبية التي يقوم الإنسان بأدائها، خلال مراحل حياته المختلفة.
كيف يتخلّص المرء من فكرة سلبية ما، ما لم يفهمها ويفهم مكوّناتها، وما لم يفهم كيفية دخول هذه الفكرة إلى منظومته الفكرية والسلوكية؟ ومن ثم كيف يوقف العمل بها؟
في هذا المنهج يستطيع أيّ شخص أن يقوم بمفرده بعمليات مراقبة وفرز وتنظيم وتقويم ومحاكمات وتقديم موافقات جديدة، وإلغاء موافقات قديمة على استخدام أفكار سابقة دون أن يُدخل لداخله أحد33.
الآن يُمكننا القول إنّ الإمام الباقرعليه السلام قال: "وَسُدَّ سَبِيلَ العُجْبِ بِمَعرِفَةِ النَّفس" لأنّ جدّه أمير المؤمنين عليه السلام قد قال: "العُجب آفّة اللب"34، وفي وصيّته لولده الإمام الحسن عليهم السلام : "واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصواب، وآفة الألباب"35.
وصلى الله على سيّدنا مُحمد وآله الطاهرين.
* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص164، باب وصايا الباقر عليه السلام.
2- أبو جعفر محمد بن أبي القاسم الطبري الآملي، بشارة المصطفى، ص25، ط2: المكتبة الحيدرية، النجف.
3- أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، ج1، ص301، باب 14، طبعة 2: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم.
4- سورة فاطر، الآية 8.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص313، كتاب الإيمان، باب العجب.
6- الشيخ المحدث محمد بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، الباب 23 من أبواب مقدمة العبادات، حديث 8.
7- الآمدي التميمي، غرر الحكم، فضيلة حسن الخلق، الحكمة 5357.
8- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص315 .
9- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص313، كتاب الإيمان، باب العجب.
10- الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحَديث الثَالِث.
11- محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، تاج العروس، ج 3، ص 318، طبعة دار الهداية.
12- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص306.
13- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 13 آب، 2011 م.
14- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص214، كتاب الإيمان، باب العجب، ح 8.
15- م . ن.
16- الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص112، حديث 86.
17- الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره، الأربعون حديثاً، الحديث الثالث.
18- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 13 آب، 2011 م.
19- الآمدي التميمي، غرر الحكم، الحكمة 7087.
20- سورة يس، الآية 77.
21- سورة المائدة، الآية 105.
22- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 13 آب، 2011 م.
23- الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره، البسملة، ص18، تحت عنوان الصور الأخرى للأعمال.
24- الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، راجع شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد المدائني، ج20، ص 292.
25- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج20، ص 292.
26- كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين، ج1، ص58، طبعة جماعة المدرسين.
27- الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص99، الطبعة 1: مؤسسة آل البيت، قم.
28- سورة البقرة، الآية 286.
29- الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، الفصل الخامس في الفكر، رقم 536.
30- قطب الدين الرواندي سعيد بن هبة الله، الدعوات "سلوة الحزين"، ص 144، رقم 375.
31- الآمدي، غرر الحكم، ص 52، أفضل العقل وكماله، الحكمة 404.
32- محمد بن علي الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص 200، الطبعة 1: دار الذخائر، قم.
33- إن ما تطرقنا له في هذه السطور حول موضوع معرفة النفس من خلال الأفكار هو رؤوس أقلام مستوحاة من منهجية علمية لم تُصَدر لنا من الغرب أو الصين، ولكنها مبنية على الأصول التي ألقاها لنا أئمتنا الهداة المهديين، وكان يحفز على استخراجها ، وأمثالها من تراث الطاهرين مراجعنا الكرام الميامين، فأخرجها إلى النور بعد جهد عدة سنين رجل من جبل عامل أسمه "أـ حسين الشيخ علي جعفر العاملي" ، تنمية قدرات فكرية وتطوير شخصية ، المرحلة الأولى.
34- الآمدي التميمي، غرر الحكم، الفصل الثاني عشر في موانع المعرفة، الحكمة 848.
35- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص 84.