نصّ الوصية:
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقر عليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَاسْتَجْلِبْ حَلاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقصر الأَمَل"1.
حقيقة الزهد ومنزلته
الزهدُ في الدنيا، مقامٌ شريفٌ من مقامات عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، روي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما عُبد الله بشيء أفضل من الزهد في الدنيا"2. وحقيقة الزهد هي الانصراف عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، ولا بدّ أن يكون الانصراف والرغبةُ عن الشيء المحبَّبِ حتى تُسمَّى الرغبة عن الشيء زهداً، فالزاهد الصادق دائم الأُنس بالله تعالى، وتغلب عليه الطاعة، بالإضافة إلى أنّ العبد الزاهد يستوي عنده ذامُّه ومادِحهُ.
والزاهد الحقّ لا يفرح بموجود، ولا يحزَن على مفقود، قال مولانا أميرُ المؤمنين عليه السلام: "الزُّهْدُ كُلُّه بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه، لكَيْلا تأْسَوْا على ما فاتكُم، ولا تَفْرحوا بما آتاكم، ومَنْ لم يأْسَ على الماضي، ولم يَفْرحْ بالآتي، فَقَدْ أخذ الزُهْدَ بطرفَيْه"3.
وقال عليه السلام: "طوبى للراغبين في الآخرة الزاهدين في الدنيا، أولئك قوم اتخذوا مساجد الله بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طهوراً، والقرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، ثم قرضوا من الدنيا تقريضا على منهاج عيسى بن مريم عليه السلام"4.
قدوة الزاهدين
نحن نعلم أنّ الذي يتصدّر قائمة زُهّاد العالم الإسلاميّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أمير المؤمنين عليّ عليه السلام. فلو طالعنا قصّة زهد عليّ بن أبي طالب عليه السلام ألف مرّة لوجدنا فيها في كلّ مرّة ما هو جديد، فعن عبد الله بن عبّاس قال: دخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وقد كان يقود جيشاً في حرب وهو يخصف نعله، فقال لي: "ما قيمة هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"5. لكنّ نفس هذا الرجل الذي كان يُعدّ رمزاً للزهد في العالم قد حفر بيديه عدّة قنوات ماء، فقد كان يحمل المعول ويحفر الأرض حتّى إذا بلغ الماء أوقف البئر للفقراء، ولا زالت هناك في أطراف المدينة آبار تُسمّى "آبار عليّ عليه السلام"، وهي معروفة بين الناس، وكان يحمل نوى التمر على ظهره ويزرعها نواة نواة. حتّى إذا نبتت سقاها بنفسه حتّى تكبر وتصبح نخلات باسقات، فإن آتت ثمارها وقفها لفقراء الرعيّة، فليس هناك أدنى تنافٍ بين أعمال عليّ عليه السلام هذه وزهده في أمور الدنيا وعزوفه عنها، لأنّه كان يقوم بذلك بدافع أنّ الله عزّ وجلّ يُحبّ هذا العمل.
فمن جملة ما كلّف سبحانه وتعالى به الإنسانَ هو تعمير الأرض وزراعتها. فالله لا يُحبّ أن تبقى الأرض بائرة وأن تجفّ أشجارها ويموت زرعها. فهو جلّ وعلا يقول في محكم كتابه العزيز: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ﴾6، أي هو الذي خلقكم أيّها الناس من الأرض وأوكل إليكم عمارتها.
فقد كان عليّ عليه السلام يكدّ ويكدح فإذا أنتج عملُه وأثمر زرعُه وهبه إلى الفقراء من الرعيّة. لكنّنا في العادة نُسمّي أنفسنا زاهدين وقانعين عندما لا يسعنا فعل شيء أو حينما لا يكون لدينا المزاج والطاقة للقيام بعملٍ ما. إذن لا بدّ أن نحذر من خداع أنفسنا، فإنّ من سجايا ابن آدم وميّزاته هي قدرته حتّى على خداع نفسه. فقد يكون ملتفتاً إلى الحقيقة في بادئ الأمر لكنّه يتغافل عنها ثمّ - شيئاً فشيئاً - يصدّق الأمر،.. إذن فبذل الجهود والقيام بالنشاطات والعمل هي من الواجبات التي طالب الله تعالى الإنسان بها ويتعيّن على الأخير إنجازها"7.
حلاوة الزهادة
قد يستغرب بعض الناس عندما يرون طرفاً من أحوال الزاهدين أو يقرؤون عنها، وربما يتساءلون لماذا ينزل هؤلاء بأنفسهم كل هذا الشقاء والعناء مع أنّ الدنيا مبذولة للبر والفاجر؟! فتُطالعهم الإجابات الحكيمة التي ينطق بها الصادقون من أصحاب الزهد الحقّ، وهذه الإجابات عادة تنبأ عن الحال الذي قد عايشوه، فيستفيد من هذه الحِكم من يستفيد، ويطوي عنها كشحاً من لا يريد الانتفاع بها، ومن هذه الحِكم ينكشف لنا الكثير من أسرار الزهد والزهّاد، ولكن هناك سرّ لم يسبق لأحد من الزاهدين أن كشف عنه واستطاع أن يُلخّصه بكلمتين إلا إمامنا الزاهد الذاكر والخاشع الصابر أبو جعفر الباقر عليه السلام، والسر هو "حلاوة الزهادة".
نعم إنّ للزهادة حلاوة يعرفها الخيّرين الفاضلين الزاهدين المرضيين، وهذه الحلاوة تُستجلب "بقصر الأمل"، فما هو قصر الأمل؟، وما هو طول الأمل؟ وكيف يُمكن الجمع بين مفهوم قِصَر الأمل، ومفهوم علوّ الهمّة المحبوب عند الله سبحانه وتعالى؟ وما هو مصداق كلّ منهما؟ هذه الأسئلة سنقدّم بتوفيق من الله تعالى توضيحاً موجزاً لها، وسنبدء الحديث عن طول الأمل لأنّ الأشياء تُعرف بأضدادها، وذلك من خلال مقارنتها بما يقابلها.
مخاطر طول الأمل
إنّ في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية لأبلغ بيان وأوضح تصوير لحقيقة هذه الحياة الدنيا، وما يجب أن يكون عليه حال المرء فيها من الإقبال على الله عزّ وجلّ، والأخذ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبة الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، والاستمرار في الحرص ومداومة الانكباب عليها مع كثرة الإعراض عن الآخرة، فإنّ هذا الداء هو داء طول الأمل، والذي يُعدّ كالسراب المبلقع طالما قطع الطريق على أهله، وحال بينهم وبين ما يشتهون، ولذلك يُحذّرنا الله عزّ وجلّ من هذا الداء، فيقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾8.
ويقول تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى﴾9، وفي آية أخرى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾10، وتتحدّث هذه الآية المباركة عن جدال المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، وتُبيّن أربعة عوامل لشقاء المنافقين الرابع منها هو: طول الأمل والاغترار بالأماني العريضة. وفي آية أخرى توضح الأثر السلبي للآمال الطويلة على حياة الإنسان. يقول الله تعالى: ﴿الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾11. فتأمّل إلى أيّة درجة تجعل هذه الآمال الإنسان مشغولاً بنفسه ودنياه وغافلاً عن الله تعالى، وجملة (ذرهم) تهديد لهم، وبيان أنّه لا أمل في هداية هؤلاء، فكيف يتوقّع الهداية من طائفة من الناس هذا حالهم؟!
الفرق بين طول الأمل وعلوّ الهمّة
إنّ طول الأمل هو من الأمور المذمومة بشدّة في الأخلاق الإسلاميّة. فقد روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل"12، فهو عليه السلام يخاف على المسلمين من أمرين:
أوّلهما: الانصياع وراء أهواء النفس ونزواتها. لكنّه من الضروريّ التنويه هنا بأنّه ليس كلّ ما يطلب القلب فهو سيّئ ومحرّم، فقد يميل قلب المرء إلى شيء هو ممّا يوجبه الشرع أيضاً. أمّا مفهوم الهوى المستعمَل في الأخلاق فهو ذلك الذي يُخالف الشرع والعقل، وهو أن يميل القلب إلى ما تهواه النفس وليس إلى ما يرضى به الله ويُحبّه، وهو أمر غاية في الخطورة.
وثانيهما: طول الأمل. فهو صلى الله عليه وآله وسلم طبيب خبير بأمراض الأُمّة وعللها وعارف بما يُمكن أن يفسد عليها دنياها وعقباها.
لكنّ المهمّ هنا هو أن نعرف: ما هو المقصود بطول الأمل؟
فهل طالب العلوم الدينيّة الذي يطمح في أن يُصبح في المستقبل شخصيّة علميّة مرموقة هو من المبتلين بطول الأمل؟ أم إنّ الشخص الذي دخل مجال التصنيع ويحدوه أمل في أن يصبح يوماً مخترعاً بارزاً وصانعاً لا يُدانيه أحد في صناعته هو الآخر يشكو من صفة الأمل المذموم؟ فلولا تلك الآمال والطموحات لخبت شعلة الحياة وسكن نشاطها ولم يرتق المجتمع سلّم السموّ والتكامل. ولو قنع التلميذ باجتياز المرحلة الابتدائيّة ولم يطمح في أن يصبح أستاذ جامعة، أو عالماً، أو فيلسوفاً، أو مرجعاً في التقليد فإنّه لن يهتمّ بالدرس والمذاكرة.
فالأمل في اللغة هو الرجاء والترقّب، وهو ليس بالأمر السيّئ. فالأمل والرجاء مفهومان متقاربان جدّاً في المعنى، ولولا وجودهما في حياة البشر لما أُنجزت أيّ فعّاليّة أو نشاط.
أمّا مصطلح "الأمل" وفقاً للمفهوم الأخلاقيّ فهو: عبارة عن الأماني العريضة التي تعيق المرء عن العمل بتكاليفه الشرعيّة والقيام بالأعمال القيّمة، وليس تلك الطموحات التي تحضّ المرء على بلوغ الكمال ودرجة القرب من الله عزّ وجلّ، كأن يتمنّى المرء أن يُصبح أثرى أثرياء العالم أو أن يصبح بطلاً رياضيّاً مشهوراً يُشار إليه بالبنان. فأمثال تلك الأماني والآمال تقف حجر عثرة أمام قيام المرء بواجباته الدينيّة وهي لذلك تُصنَّف ضمن لائحة الآمال المذمومة.
أمّا من وجهة نظر الأخلاق والثقافة الإسلاميّة فإنّ الآمال والطموحات التي تبلغ بالمرء درجات الكمال والقرب من الله عزّ وجلّ فهي تندرج في إطار "علوّ الهمّة"، فليس من الأماني السيّئة أن يطمح الإنسان في أن يترقّى في مضمار التقوى والعلم والصناعة والإدارة ليتمكّن من خلال ذلك من إسداء خدمة إلى شعبه وأُمّته، أو أن يحدوه الأمل في أن يملك من الثروة ما يُمكّنه من الإنفاق على جميع فقراء مدينته، هذا بشرط أن يتوفّر طريق معقول للوصول إلى تلك الآمال والطموحات. فإن كنّا نعلم أنّ مقدار 99 بالمائة من هذه الآمال هو غير قابل للتحقّق فلن تكون طموحاتنا إلاّ ضرباً من نسج الخيال، أمّا إذا كان ثمّة سبيل معقول لتحقّقها على أرض الواقع وهدفٌ يرتضيه العقل والشرع من ورائها وأنّ احتمال تحقّقها يصل إلى نسبة خمسين بالمائة على الأقلّ فإنّها حينئذ من الآمال المعقولة التي لا غبار عليها"13.
فكّر بقِصَر أمَد الدنيا!
"إنّ أنجع السبل لمحاربة الآمال العريضة والطويلة هي أن يُفكّر المرء ويتأمّل بعواقب تلك الآمال وليسأل نفسه: ما الذي سيجلب تحقيق تلك الأماني البعيدة والطموحات الكبيرة لإنسان ليس له في هذه الحياة الدنيا من المهلة إلاّ القليل وليس هو فيها أكثر من مسافر؟ فبدلاً من هذه الآمال المذمومة فليفكّر الإنسان بما يعود على آخرته بالفائدة، كأن يبذل جهوداً أكبر على صعيد الأمور العباديّة، والسعي في طلب العلم وتربية الروح، وإعانة الفقراء، وتقديم الخدمات ذات النفع العامّ. ففي هذه الحالة يكون قد سعى وراء آمال لا تتعارض مع تكامل إنسانيّته.."14.
كيف نتعامل مع الدنيا؟
قال النبي الأكرم مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم: "كُنْ في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل"15. يعدّ هذا الحديث الشريف أصل من الأصول التوجيهية في قصر الأمل، فإنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخذ الدنيا داراً يطمئن فيها لأنّها دار هدنة أي: (دار بلاغ وانقطاع)، ونحن على ظهر سفر والسير بنا سريع، وقد رأينا الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويُقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فالواجب إعداد الجهاز لبعد المجاز، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأوصيائهم، وقال تعالى حاكياً نداء مؤمن آل فرعون ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾16. وقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يُعطي الدنيا من يُحبّ ويُبغض. وإذا أحبّ الله عبداً أعطاه الإيمان. ألا إنّ للدين أبناء وللدنيا أبناء. فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إنّ الدنيا قد ارتحلت مولية والآخرة قد ارتحلت مقبلة ألا وإنّكم في يوم عمل ليس فيه حساب. ألا وإنّكم توشكون في يوم حساب وليس فيه عمل"17.
وخاطب مولانا الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أصحابه قائلاً: "إخواني أوصيكم بدار الآخرة ولا أوصيكم بدار الدنيا، فإنّكم عليها حريصون، وبها متمسّكون، أما بلغكم ما قال عيسى ابن مريم عليهما السلام للحواريين. قال لهم: "الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها". وقال: "أيّكم يبني على موج البحر داراً تلكم الدار الدنيا، فلا تتّخذوها قراراً"18:
يا غافلاً عن العمل قد غرّه طول الأمل***الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
مضرب المثل في قصر الأمل
عن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد من زيد بن ثابت وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إنّ أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي فظننت أنّ شفراهما يلتقيان حتى أقبض، ولا رفعت طرفي فظننت أنّي واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة فظننت أنّي أسيغها حتى أغص فيها من الموت"، ثم قال: "يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنّ ما توعدون لآت وما انتم بمعجزين"19.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أعواد، فغرس إلى جنبه واحداً، ثم مشى قليلاً، فغرس آخر، ثم مشى قليلاً، فغرس آخر، ثم قال: "هل تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم، وأجله وأمله فنفسه تتوق إلى أمله، ويخترمه أجله دون أمله"20.
ولقد نام صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقالوا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظلّ تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها"21.
والدنيا كما أخبر الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتكاثر وتفاخر، وإنّ من عظيم الأسف أن يظلّ الكثيرون منّا في غفلة وتعامٍ عن ذلك، حتى يغلب عليهم طول الأمل، فيتولّد عنه الكسل عن الطاعة، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة، والقسوة في القلب. ونحن نقرأ في دعاء كميل المروي عن مولانا أمير المؤمنين: "وحَبَسَنِي عن نفعي بُعدُ آمالي"22.
العاقل لا يغترّ بطول الأمل
ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر، فإنّ الأنفاس معدودة والأيام مقدّرة، وما فات لن يعود، وعلى الطريق عوائق كثيرة، ومن قصر أمله قلّ همّه، وتنوّر قلبه لأنّه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "أكثروا من ذكر هادم اللذّات، فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذّات؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الموت، فإنّ أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً"23.
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "اتّقوا باطل الأمل، فربّ مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليلة قامت بواكيه في آخره"24.
والواقع أنّ أصحاب العقول لا يُمكن أن يغترّوا بطول الآمال، وهم يرون في كلّ يوم وفي كلّ صباح وفي كلّ مساء أجناس الناس الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممّن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً كلّ هؤلاء يدفنون جميعاً في المقابر، وكلّنا صائرون إلى ذلك المصير:
ومن لم يمت بالسيف مات***بغيره تعدّدت الأسباب والموت واحد
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "من أيقن أنّه يُفارق الأحباب، ويسكن التراب ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلف، ويفتقر إلى ما قَدم، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل"25.
الزهد وقصر الأمل
قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "رحم الله أمرأً قصّر الأمل، وبادر الأجل، واغتنم المهل، وتزوّد من العمل"26.
وقال سلمان المحمدي رضي الله عنه: "ثلاث أعجبتني حتّى أضحكتني: مؤمّل الدّنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربّه أو مرضيه"27.
ودخل رجل على أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، فجعل يُقلّب بصره في بيته، فقال: "يا أبا ذر! أين متاعكم؟ فقال أبو ذر: إنّ لنا بيتاً نوجّه إليه صالح متاعنا، فقال الرجل: إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال أبو ذر: إنّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه"28، فأبو ذر غريب في الدنيا يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، وهو من الجنّة، وإلى الجنّة:
كم منزل للمرء يألفه الفتى***وحنينه أبداً لأول منزل.
وكان أُويس بن عامر القرني رضوان الله عليه إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: "كيف الزمان على رجل إن أصبح ظنّ أنّه لا يُمسي، وإن أمسى ظنّ أنّه لا يُصبح، فمُبَشَّر بالجنّة أو النار يا أخا مراد إنّ الموت وذكره لم يترك لمؤمن فرحاً.."29.
يا ذا المؤمِّل آمالاً وإن بَعُدتْ***منه ويزعُم أن يحظى بأقصاها
أنَّى تفوز بما ترجوه ويكَ وما***أصبحت في ثقة من نَيْل أدناها30
أعاذنا الله وإيّاكم من طول الأمل، فإنّه يمنع خير العمل، ويُنسي المرء التفكّر في الأجل، وجعلنا الله وإيّاكم ممّن يُقصّرون الأمل ويستجلبون به حلاوة الزهادة، وصلى الله على سيدنا مُحمد وآله الطاهرين.
* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- بحار الأنوار (م.س).
2- العلامة النوري، مستدرك الوسائل، ج 12، ص 50.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 87.
4- الشيخ الصدوق مُحمد بن علي بن بابويه القمي، الخصال، ج 1، ص 337، طبعة 1: جماعة المدرسين، قم.
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 185، من خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة، ورواه جار الله الزمخشري في ربيع الأبرار، ج 5، ص 189، رقم 176، الطبعة 1: مؤسسة الأعلمي، بيروت.
6- سورة هود، الآية 61.
7- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 11 آب، 2011م
8- سورة الحديد، الآية 16.
9- سورة النجم، الآيتان 24 و 25.
10- سورة الحديد، الآية 14.
11- سورة الحجر، الآيات 1 - 3.
12- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 420.
13- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 11 آب، 2011م.
14- م.ن.
15- محمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص 381، المجلس الثالث عشر، طبعة 1: دار الثقافة، قم.
16- سورة غافر، الآية 39.
17- ورام بن أبي فراس مسعود بن عيسى، تبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج1 ، ص 271، طبعة 1: مكتبة الفقيه.
18- الشيخ المفيد أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن النعمان العكبري، الأمالي، ص 43، المجلس السادس، طبعة 1: قم.
19- الشيخ محمد بن الفتال النيسابوري الشهيد، روضة الواعظين، ج 2، ص 238، والطبراني في مسند الشاميين.
20- ورام بن أبي فراس، تبيه الخواطر، ج 1، ص 272.
21- محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح، ج 4 ص 508، حديث 2377، باب 44، طبعة دار الفكر.
22- الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
23- ابن الأشعث محمد بن محمد، الجعفريات، ص 199، باب ذكر الموت، ط 1، مكتبة لنينوى الحديثة، طهران.
24- الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، الفصل السابع "الأماني" ( ذم الأمل )، رقم: 7231.
25- محمد بن علي الكراجكي، كنز الفوائد، ج 1، ص 351، طبعة 1: دار الذخائر، قم.
26- الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، الفصل الثالث، آثار الاعتقاد بالمعاد، رقم: 2734 .
27- أحمد بن حنبل، الزهد، ج 1، ص 153، طبعة دار الريان للتراث، القاهرة.
28- أحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان، ج 7، ص 378، رقم ( 10651)، طبعة 1: دار الكتب العلمية.
29- أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج 2، ص 83، طبعة 4: دار الكتاب العربي.
30- محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لإحكام القرآن، ج 10، ص 3، الطبعة 2: دار أحياء التراث.